13 - 07 - 2024

إِشْكاليَّةُ العَلاقَةِ معَ الأبِ في الفنّ والحياةِ

إِشْكاليَّةُ العَلاقَةِ معَ الأبِ في الفنّ والحياةِ

دار حوارٌ بيني وبين بَعضِ الأصدقاءِ حولَ عُقُوقِ الأَبناء، والهوَّة الواسعةِ التي صنعتْها وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعيّ بيننا وبينهم؛ حتَّى ذهَبَ صديقٌ إلى أن يقُولَ في مرارةٍ: "أخشى أن  أموتَ ساعةَ مباراةٍ لريال مدريد؛ فيؤجّل ولدي الوحيد مراسم الدّفن والجنازةِ إلى ما بعد المباراةِ" ؛ فأردفَ صديقٌ آخرُ أنَّ هذا قد حدثَ بالفعلِ مع صهرهِ حين توفّي يوم مباراةٍ للنادي الأهلي في نهائي كأس أفريقيا...!

وفي الأدب العربيّ القديم علاقاتٌ بعضُها حميمةٌ قويَّةٌ، وبعضها مضطربٌ شائهٌ تربط الآباء بالأبناء؛ كتلك التي ربطت لبيدَ بن ربيعة العامريّ الفحل المخضرم الحزين صاحب المعلّقة بأبنائهِ، وكذا شاعر الحوليّات زهير بن أبي سُلْمى، والشاعر العبَّاسيّ الكاتب الأديب الشَّريف الرَّضيّ، والشاعر الأندلسيّ عميد ملوك الطّوائف المعتمد بن عباد...!

 وثمة أبياتٌ في ديوان ابن الروميّ يصور فيها علاقته بأبيه، وفخره بهِ؛ لأنَّه توسَّم فيه النّبوغَ والعبقريَّة في فنّ الشِّعرِ، ووصلَ هذا الأمرُ ذُروتَهُ في العصرِ الحديثِ لدى أبي القاسم الشَّابيّ، وصلاح عبدالصّبور، وبدر شاكر السيَّاب، وفاروق شوشة، ومن قبلهم  أمير الشُّعراء أحمد شوقي الذي ارتبط بأبيهِ، وارتبط به ولدهُ حُسين شوقي ارتباطًا وثيّقًا، وألَّف في ذلك سيرةً رائعةً لعلاقتهما؛ بعُنوانِ:" أبي شوقي"...!

 وفي هذا السّياقِ، جمعتِ الأديبةُ نهَى يحيى حقّي الرَّسائل المتبادلة بينها وبين أبيها، وكتب لها المقدِّمةَ الأديب العالميّ نجيب محفوظ الذي احتفظ بعلاقةٍ ممتازة مع ابنتيهِ، وأرسلَهما لشرفِ تسلُّم جائزة نوبل العالمية في الأدب 1988م نيابةً عنهُ وتكريمًا لهما، وكذا كريمة زكي مبارك التي كتبت عن والدِها الدّكاترة زكي مبارك سيرة مدهشة، ويأتي قريبًا منهُ ما فعلتْهُ أمينة ثروت أباظة حين دافعتْ عن أبيها في حواراتٍ صحفيَّةٍ مكتوبةٍ ومنشورةٍ، مع ما قيل من أنّهُ كتب ثروتَهُ كلّها لأخيها الدّسوقي وحرَمها منَ الميراثِ، وقال لها في حياتهِ، حين رأت عقد البيع: إنَّهُ صُوريٌّ صُوريٌّ....!

والملاحظُ أنَّنا نحظَى بالكثيرِ من كتابات البناتِ عن الآباءِ، ولعلَّ آخر الكتاباتِ المدهشة لهنَّ الكتابُ الذي أصدرَتْهُ نوَّارة نجم عن أبيها الرَّاحل أحمد فؤاد نجم الشَّاعر الكبير متَّخِذةً من عُنوان قصيدةٍ له عنوانًا لسيرتهِما: "وأنت السَّبب يا أبا"، وهو عُنوانٌ جدّ مراوغٌ...!

وفي النّاحيَةِ الأُخرَى من الشَّاطئ العكسيّ، نجدُ علاقاتٍ مضطربةً ومشوّهةً؛ فقد هجا الشّاعرُ المخضرمُ الحُطيئَةُ (أَبُو مُلَيْكَةَ جُرُولُ بْنِ أَوْسِ بْنْ مَالِكٍ) والدَهُ وقبَّحَهُ، و نجد قريبًا منه موقفَ المتنبّي الشَّاعر الأكبر من والدِهِ، الذي يستدعي ما كتبهُ عالم النّفس الشّهير سيجموند فرويد عن عُقدة قتل الأبِ؛ إذا كان والدُه سقّاءً فَقيرًا لا يرقَى بذكرِهِ طموحُ المتنبّي وغرورُه، وهو حدثٌ متكرّرٌ وله نظائر في التّاريخ الأدبيّ على قلّة، والسّياسيّ بكثرةٍ..!

ولعَلَّ أمثالَ هذه العلاقاتِ السَّيكولوجيَّةِ المضطربة هي ما دفعت أستاذًا للطِّبّ النّفسيّ أن يجمعَ قصصَ الأبناءِ في التَّعافي من إساءاتِ الأبوينِ، وبخاصَّة الأبُ، وصدمات النّشأة في كتابٍ بِعُنوان"أبي الذي أكره"، والدَّكتور النفسِيّ المؤلّف عماد رشاد عثمان لا يُعفِي نفسَهُ من هَذه العقدِ النَّفْسيَّة التي وقفَ على مثلها العقَّاد في شخصيَّة المتنبّي الشّاعرِ الأكبرِ، بل كان يرى في حكي هؤلاء الأبناءِ ما يضاهِي في ذهنهِ ما يمسُّ حكايتَهُ هو وتجربتَهُ مع أبيه...!

وبعيدًا عن مشاعر العقوقِ، يمكننا أنْ نجدَ غيثًا من الأبناءِ الذين كتبُوا ما تُكنّهُ صدُورهم من آياتِ البرِّ تُجاه آبائهم؛ كما نجدُ عند شُجون ابنةِ الملحّن الكبير علي إسماعيل، وميَّادة حمدي غيث فيما سجَّلته عن والدها الفنان القدير، وأحمَد ابن المنشِدِ الشّهير سيد النقشبنديّ، ونادر ابن الفنان السِّينمائيّ الشّهير عماد حمدي، وإيزيس ابنة الروائيّ المغبون عبدالحكيم قاسم، وسُلطان ابن المطرب الذي حيَّر مؤرّخي الفنون محمود شكوكو، وأحمد محمد رضا عن أبيه الممثِّل الكوميديّ الشّهير محمد رضا، وسَحَر ابنة المطرِب والموسيقيّ اللَّامع الرَّاحل محمد نوح، والشَّاعر تميم البرغوثيّ عن والده الشّاعر الكبير مريد البرغوثيّ...!

 ونجدُ نظائرَ ذلكَ فيما يكتبهُ ويسجِّلهُ من حلقاتٍ الصَّحفِيّ اللَّامعُ أكرم السَّعدنيّ عن والدهِ الكاتب السَّاخر الكبير محمود السَّعدنيّ، والمستشار ماضي توفيق الدقن عن والدهِ أيقونة البطل الشّرير الظَّريفِ في السِّينما المصريَّةِ، وسُميَّة عبدالمنعم إبراهيم عن والدها أيقونة الكوميديا والبطل الطّيّب البرئ، وكذا أمل عبدالمنعم مدبولي عن والدها، وما كتبته آية الأبنوديّ عن والدها الشَّاعر الكبير عبدالرَّحمن الأبنوديّ، وما سجّلهُ وكتبه مجدي عزيز عن والده الشَّاعر الغنائيّ النَّادرِ مرسي جميل عزيز....!

 وهكذا حتَّى  نصِلَ إلى ما كتبه كلٌّ من عمرو عبدالسميع عن والده رسَّام الكاريكاتير التَّاريخيّ المعجزة، وفاطمة ابنة الممثّل القدير حسين رياض، وهانيا عن والدها الكاتب المسرحيّ المعروف علي سالم،...إلخ.

وقد يمتدُّ هذا البرُّ للأحفاد؛ فنجدُ كتابة الأحفادِ عن الأجدادِ؛ كالذي كتبتهُ هناء حفيدةُ صاحبِ الصَّوت المعجِز والقارئ العبقريّ محمد رفعت، وعطيَّة عادل خيري حفيدة الفنان الشَّامل بديع خيري، ونجلَاء محمد فؤاد القصْريّ حفيدة الفنان عبدالفتاح القَصْريّ...إلخ.

وقد يتحوَّلُ الابنُ عن صورة الأبوة بالنَّسَبِ والدَّم إلى الأبوَّة الثّقافيَّةِ التي تنتقل للابن وغيرهِ؛ فتتّسع صورةُ الأب إلى ما لا يحدُّ حدٌّ؛ كما نجدُ في صورة أسرة الشّيخ محمد شاكر وولديه أحمد ومحمود، وصورة العائلة التّيموريّة ممثّلة في أحمد باشا تيمور، ومحمود تيمور، وأسرة الأديبِ الكاتب المفكّر العميد أحمد أمين في عيون أولاده جلال وحسين، من خلال ما كتبه الأوّل بعنوان:"أبي أحمد أمين"، وما كتبه الثّاني" في بيت أحمد أمين"، وما كتبه محمد مندور  ومحمد النويهي، وحسين مؤنس، ومختار الوكيل، وسهير القلماوي، وشوقي ضيف، وعبدالعزيز الأهواني، ومحمد عبده عزام وغيرهم لعميد الأدب العربيّ؛ بوصفهِ الأب الثّقافيّ...!
--------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)

* وكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش

مقالات اخرى للكاتب

إِشْكاليَّةُ العَلاقَةِ معَ الأبِ في الفنّ والحياةِ