15 - 07 - 2024

الرياضة المصرية والعربيَّة ونظرية التّشبيه والشَّبيهة والتّشبيهة وما أشبه!

الرياضة المصرية والعربيَّة ونظرية التّشبيه والشَّبيهة والتّشبيهة وما أشبه!

  لعلّنا استمتعنا أمس بنهائيين بديعين مختلفين من نهائيات كرة القدم العالميّة؛ أحدهما انتصرت فيه إسبانيا  بخيال ثيربانتيس المحلّق، وعقليَّة دون كيشوت حين تتحوَّل إلى واقعٍ جسورٍ؛ فكسرُوا حصون الفرنسيّين والإنجليز، و أسقطوا سور برلين العظيم؛ فدكوا بسيوفهم الدون كيشوتية الحديثة كل الحصون، وأحيوا تراب عنقاء ثيربانتيس العظيم ليحلّق في سماء برلين بعد أن سقطت حصونها، وحصون المدارس الكرويّة الكبرى في العالم..!

  والنّهائي الثّاني نهائي كوبا أميركا الذي استضافته الولايات المتحدة، ووصلت الأرجنتين إلى نهائي الكأس في مقابلة بلد ماركيز العظيم الذي قيل فيه: إنّ أحدًا لم يقلق عنقاء ثيربانتيس في مرقدها إلا " مئة عام من العزلة" للكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز الذي سقطت كلّ محاولات الغجر المتعددة في إنقاذ أورسولا بطلة روايته، وانتصرت الواقعيّة الكرويَّة الأرجنتينيّة على الواقعيّة السحريّة الماركيزية الكولومبيّة...!

 وقد شغلت الاستعارةُ؛ بوصفها التكثيف المجازيّ للتّشبيه حيّزًا واسعًا في التّفكير البلاغيّ والنّقديّ والثّقافيّ لدى العرب وغيرهم من الأمم، أيضًا...!

  والاستعارة هي نصف التّشبيه المراوغ والفاعل والمخاتل والنائب عنه في المقاربة والجمع بين الشّبيهين من وجهة نظر مستخدمها أوّلًا؛ لأنّ التّشبيه هو الباب الرّئيس لعلم البيان، والمفتاح السِّحريّ لجمع العوالم المتقاربة والمتّفقة، والمتباعدة والمستحيلة، أيضًا، على سبيل المبالغة، فهو  قادرٌ على قلب الحقائق، ومغازلة المرأة الفاتنة النَّافرة الجموح للإيقاع بها، ومحاججة الخصم المعاند المكابر لكسب المعركة الجداليَّة التي يسعى كل طرف أن يكسبها بلحنه، وببلاغته، وقدرته الفذَّة على صناعة التّشبيه بأنواعه الكثيرة التي تفرّعت عن التّقسيم الثّلاثيّ الكلاسيكيّ....!

ومن ثمَّ؛ وجدنا في أمثالنا العربيَّة قول طرفة بن العبد الشّاعر الشَّاب الذي لم تمنعه حكمته من أن يقدم روحه هدية لعدوه: ما أشبه اللَّيلةَ بالبارحة..! يتمثّل به القائل  على سبيل العزاءِ وتقبّل الأمر الحاضر، والتّجلّد في مواجهة الحاضر تأسيًّا بالسّابقين، وقد يُطلقُها في سياقات متعدّدة بحسب اجنهاده وتفننه في بلاغة القول..!

وحرص النقَّاد العرب على تقريب المعاني والأفكار والأبيات بقولهم: وما أشبهه بقول فلان..!

ومن هذا التّشبيه الذي أسر العقليّة العربيّة خرجت إلينا نظرية الشّبيهة؛ أي أن نقيم فرحا شبيهًا بفلان، أو  نؤسّس نظامًا تعليميًّا شبيهًا بتجربة دولة ما، أو أيّة فكرة عبثية تشبُّها بهؤلاء وأولاء وأولئك...!

وظلّت نظرية الشّبيهة تتسرّب إلى الوعي العربيّ حتّى وجدنا أنفسنا نشابههم في كرة القدم، ولكن وفق نظرية التّشبيه العربيّ الذي قد يجمع بين متباعدينِ ليكسرَ عَمود الشِّعر المرزوقي، والمنطق العقليّ، والواقع الفعليّ المعيش...!

وللفنان صلاح السعدنيّ حوار ظريف يُكثّف فيه نظرية الشَّبيهة، يختصره في كرة القدم، بأنّنا لدينا ملاعب، واتّحاد كرة، وفرق رياضيّة، وإعلام رياضيّ موسّع، وعقود بالملايين، وبرامج تبدأ مع صلاة المغرب، وتأخذ فاصلًا لصلاة الفجر، ومذيعون حنجوريون، ولجنة حكّام، وسماسرة، ... إلخ.

فنحن نشبههم في كلّ التّفاصيل سوى أنّه ليس عندنا مباراة كرة قدم حقيقيَّة...!

وأتساءلُ في كلّ مباراة أوربيَّة نشاهدها، وألحُّ في سؤال مَن حولي: هل يرى لاعبونا هذه المباريات مثلنا، مع أنَّ كثيرًا من هؤلاء اللاعبين من أصول عربيَّة وإفريقيَّة...؟!

إنّ الكرة لا تكاد تخرج خارج الملعب إلا لثوانٍ معدودةباضطرارٍ في مبارياتهم، وتجذبك مهاراتهم ولياقاتهم وتخطيطاتهم، وأخلاقهم، ودأبهم، وإخلاصهم، وابتكاراتهم، وجماعيّتهم في مقابل الشّبيه الضّدّ لدينا؛ فلا تكاد تستقرّ الكرة في الملعب ثواني حتّى تخرج لدواعي الإصابة أو الإبعاد أو التّمثيل والاعتراض والمماحكة الغبيّة والتّطاول والسّفه، مع كسل عجيب، كأنّ اللاعبين  قد سهروا في بأماكن سهرهم ليستريحوا في الملعب، وهو الشّعور الذي يتسرّب إلينا حين يتقلب اللاعب ويتمطّى وحوله أطباء الفريق في سبات طويل يفقدنا نحن الرّغبة في الاستيقاظ واستكمال اليوم الطبيعيّ...!

فأمامنا حلٌّ من اثنين: إما أن يكون التّشبيه حقيقيًّا، نرى أوجه الشّبه موجودة ومتحققة بين المشبه والمشبّه به، وإمّا نكف عن خداع أنفسنا ونتابع هذه الدّوريّات والمسابقات؛ مثل أبنائنا الذين فعلوا كلّ ذلك لتجاوزهم البلاغة السكاكيّة، والاستعارات المرزوقيّة، والتّماميّة، إلى أفق المثاقفة والعولمة والتّماهي مع ما يتواءم مع طموحاتهم دون أن يستدعيهم السكّاكيّ لنظريّاته التي تدعو إلى الولاء والانتماء والمحافظة والهويّة، أو التّماميّة التي تحاول مفارقة التّشبيه العربيّ والعودة إلينا بثوبٍ أعجميّ مخاتلٍ يقنعنا فيه محاججة بأنه ثوب عربيّ جديد، يختلف عن ثوب بشار ومسلم وأبي نواس الذين تركوا الدوري المصري العقيم وجلسوا يتابعون في استمتاع مباريات اليورو  وكوبا أمريكا...!
------------------
د.محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)
* وكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش.

مقالات اخرى للكاتب

الرياضة المصرية والعربيَّة ونظرية التّشبيه والشَّبيهة والتّشبيهة وما أشبه!