17 - 07 - 2024

أسامة صالح .. الغربة تكشف معادنَ الناس !

أسامة صالح .. الغربة تكشف معادنَ الناس !

عزمتُ أكثرَ من مرة أن أُنعش ذاكرة القارئ بمواقف من سيرته الطيبة، لكني كنتُ أعود أدراجي؛ مخافة أن يُظنّ أن هناك شبهة مجاملة علي اعتبار أن شهادتي فيه مجروحة لآصرة النسب بيننا، برغم أنه جمع من خصال الخير، ما يجعله أهلا لأن تُكتب فيه مقالات وليس مقالا .

لم يكن الفقيدُ أسامة رمضان صالح زوجا لابنة أختي فحسب، بل كان أخا نبيلا، وصديقا مخلصا، نتناقش فيما دقّ وعظم، فتبهرني سعةُ اطلاعه، وتنوعُ ثقافته، وقوة حجته، التي يدعمها الدليل، ويقويها المنطق .

امتاز الرجل - طيب الله ثراه - بحسن الإصغاء، وعدم الشغف للكلام، لكنه إذا تكلم أبان وأفصح، ووصل إلي ما أراد من أقصر طريق بلا لف ولا دوران .

في بداية تحسسي طريق كتابة المقال والقصة، كنتُ أتفيأ ظلال مجلسه، وأقرأ عليه ما أبدع يراعي، وخطت يميني، فأجد منه إصغاء مُعجِبا، وتشجيعا مدهشا، وتقويما لبعض العبارات والجمل، يزيد بها المعني ألقا ووضوحا، والصورة إشراقا؛ استنادا إلي قراءاته الواسعة، ومتابعته الجيدة للأخبار المحلية والعالمية، وولعه بالقراءة والكتب .

ولاستقامة بيان الرجل، اعتدتُ أن أقرأ عليه كل ما أكتب بلغة فصيحة، لا تجد فيها عوجا ولا أمتا، فتتحفني عبارته: ( قلمك معبر يا أبا محمد، ولغتك نابضة، وألفاظك مُنسجمة ) فتزداد بكلماته ثقتي بنفسي، واعتزازي بكتاباتي.

أسامة رمضان صالح كان مُحبا للناس، حريصا علي البذل، لم يدخر يوما جهدا في نصيحة، ولم يقصر في عطاء، يصدق فيه قولُ جرير :

ألستم خيرَ من ركب المطايا / وأندي العالمين بطـــون راح .

وبرهان قولي أنّ الله جعل رزقه بمدينة جدة السعودية، حيث عمل موظفا بأحد قصور أمرائها، فكان مرفأ أمان كل من شحطت سفينته، ولاطمته أمواج الغربة، فسرعان ما تمتد له يدُ الفقيد كرما وجودا؛ اعتمادا علي علاقته بالقصر، التي شيد صرحها بإخلاصه وأمانته التي شهد له بها الجميع .

لم تكن نهمة الفقيد لجمع المال، وتتبع سبله، وولوج فجاجه، ولو كان كذلك لما رضي بأن يعمل في قصر الإمارة في وظيفة لا تُناسب مؤهله الدراسي، وتخرجه في كلية العلوم قسم الطبيعة والكيمياء، لكنه تمسك بهذه الوظيفة بيد أنها أتاحتْ له التقرب من أولي الأمر، الذين ساعدوه كثيرا في معالجة مرضي يعرفهم، وتقديم مساعدات لمحتاجين تقطعت بهم السبل .

لي معه مواقفُ لا تفارق الذاكرة، منها أنه يسّر الله لي الحج، بعدما تاقت إليه نفسي سنوات، فكان مرشدي عبر الهاتف، ولم يحرمني من توجيهه ونصحه . أذكر أنه لمّا أزعجني زحامُ يوم عرفة، وانشغال بعض الحجيج بعوارض، خشيت أن تفسد عليّ جلال هذا اليوم المهيب، جاءني اتصاله بردا وسلاما، وقال لي : "طلق الدنيا في هذه اللحظات الفارقة، ولذ بربك لاجئا إلي بابه، محتميا بجنابه، اترك خيمة رفاقك، واقترب من جبل الرحمة؛ لتلح علي ربك في الدعاء، وتتيحَ الفرصة لعبرات عينيك أن تنسكب، فاستجبتُ، ونشطت للعبادة و الدعاء والذكر، فازددت شفافية، وصرتُ كريشةٍ تتطاير في ملكوت الصفاء .

لم تكن حياةُ الفقيد مترفة منعمة، بل شبّ علي الشقاء، والتعب منذ نعومة أظفاره، يعمل  في الإجازة الصيفية؛ ليوفر مصاريف الدراسة وكسوة المدرسة، ويجتهد خلال العام الدراسي؛ خشية الرسوب، الذي لم يكن مسموحا به البتة .

استمر علي هذا المنوال، حتي أنهي دراسته، واحتضنته بلادُ الغربة عقب تخرجه مباشرة، فظل بها طوال حياته، ينزل إلي مصر في الإجازات الصيفية، يبقي بها أياما معدودات، ثم يعود أدراجه وراء لقمة العيش إلي أن أذنت ساعة الرحيل، فلبي نداء ربه، غريبا عن وطنه، ودفن بمكة بقرار رسمي من القصر؛ تقديرا لوفائه .

عاش الفقيد وحيدا، ومات غريبا تاركا إرثا من النبل والكرم، وولدا وبنتا يشعان ذكاء وفطنة .

وسريعا تمر الأيام، وهاهي ابنته ( سارة) قد كبرت، وتمت خطبتها، وجلست إلي جوار خطيبها د. عبد الرحمن يغنون له .. ( ادلع يا عريس يابو لاسة نايلون) .

نعم جمع الحفل الأحباب، وغاب عنه الفقيد بجسده، إلا أن روحه الطاهرة، خيمتْ علي المكان، وظهرتْ صورته المشرقة في وجه ابنه عمر، الذي هو صورةٌ طبق الأصل من أبيه .
---------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

أسامة صالح .. الغربة تكشف معادنَ الناس !