16 - 08 - 2024

حيثيات حكم تاريخي للدستورية العليا بحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية على الصحفيين

حيثيات حكم تاريخي للدستورية العليا بحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية على الصحفيين

أصدرت المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشار بولس فهمى إسكندر، حكما تاريخيا بحظر توقيع عقوبة سالبة للحرية بشأن جريمة قذف الموظف العام بطريق النشر ، مما يعزز حرية الصحافة ويعيد لها بعض الهيبة المفقودة.

وأصدرت المحكمة حكمها فى ٦ يوليو الجارى في طعن تقدم به الزميل هانى المكاوى، الصحفي بجريدة الأحرار، واختصم فيه رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير العدل بصفتهم، وكذلك إمام حسن النجمى عميد كلية العلاج الطبيعى بجامعة القاهرة وقتها.

صدر الحكم بعضوية المستشارين رجب عبدالحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبدالجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقى والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن سعد الدين عباس نواب رئيس المحكمة، وحضور المستشار الدكتور عماد طارق البشرى، رئيس هيئة المفوضين، وأمانة سر عبد الرحمن حمدى.

وفى عام ٢٠٠٠ بدأت المحكمة نظر هذا الطعن وإيداعه.. الواقعة عن واقعة شهدتها جريدة الأحرار فى ١٩٩٧.

وقالت المحكمة الدستورية فى حيثيات حكمها: إنه فى الرابع عشر من مارس سنة ۲۰۰۰، أودع المدعى صحيفة الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبًا الحكم بعدم دستورية المواد ٢/٣٠٢ و٣٠٣ و۳۰٦ و۳۰۷ من قانون العقوبات المعدل بالقانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥، والمواد ۱/۲۱٤ و٢١٥ و٢١٦ من قانون الإجراءات الجنائية. وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرتين، طلبت فيهما الحكم برفض الدعوى. وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها. ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم.

وأكدت المحكمة أنه بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة حيث إن الوقائع تتحصل- على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- فى أن النيابة العامة أحالت المدعى إلى المحاكمة الجنائية أمام محكمة جنايات القاهرة فى الجنحة رقم ١٢٤٥٥ لسنة ۱۹۹۸، المقيدة برقم ١٠٧٦ لسنة ۱۹۹۷، حصر أمن دولة عليا، لأنه خلال الفترة من ١٩٩٧/٦/٧ حتى ١٩٩٨/٥/٥، بدائرة قسم حدائق القبة، قذف «المكاوى»، بإحدى طرق العلانية فى حق إمام حسن النجمى عميد كلية العلاج الطبيعى بجامعة القاهرة، وأسند إليه بطريق النشر- أمورًا لو صحت لأوجبت عقابه واحتقاره عند أهل وطنه، عبر المقالات التى كتبها فى جريدة الأحرار، ونعته فيها بالتزوير والإضرار بالمال العام، والامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية، بسوء قصد وبدون إثبات حقيقة كل فعل أسنده إليه، وطلبت عقابه بالمواد ۱۷۱ و۱/۳۰۲ و۲/۳۰۳ و۳۰۷ من قانون العقوبات المعدل بالقانون رقم ٩ لسنة ١٩٩٥.

وتداولت الدعوى أمام تلك المحكمة، ودفع المدعى بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة ۳۰۲، والفقرة الثانية من المادة ۳۰۳، والمادتين ٣٠٦ و۳۰۷ من قانون العقوبات، والفقرة الأولى من المادة ٢١٤، والمادتين ٢١٥ و٢١٦ من قانون الإجراءات الجنائية.

وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع، وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية؛ فأقام الدعوى المعروضة. ومضت محكمة الموضوع فى نظر الدعوى، وقضت غيابيًا بجلسة ۲۰۱۸/۲/۱۳، بمعاقبة المدعى بتغريمه أربعين ألف جنيه، وألزمته بأن يؤدى إلى المدعى عليه الأخير مبلغ ألفين وواحد جنيه، على سبيل التعويض المدنى المؤقت.

وأوضحت المحكمة أن المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن المادة ۲۹ من قانونها قاطعة فى دلالتها على أن النصوص التشريعية التى يتصل الطعن عليها بالمحكمة الدستورية العليا اتصالًا مطابقًا للأوضاع المقررة قانونًا، هى تلك التى تطرح عليها بعد دفع بعدم دستوريتها يُبديه أحد الخصوم أمام محكمة الموضوع، وتقدر هى جديته، وتأذن لمن أبداه برفع الدعوى الدستورية، أو إثر إحالة الأوراق مباشرة إلى هذه المحكمة من محكمة الموضوع؛ لقيام دلائل لديها تثير شبهة مخالفة تلك النصوص لأحكام الدستور، ولم يُجز المشرع الدعوى الأصلية سبيلًا للطعن بعدم دستورية النصوص التشريعية. متى كان ذلك، وكان المدعى قد قصر دفعه بشأن نص المادة ۳۰۳ من قانون العقوبات أمام محكمة الموضوع على فقرتها الثانية وحدها، ما كان محلًا لتصريح المحكمة؛ ومن ثم لا تكون الدعوى فى شأن نص الفقرة الأولى من المادة ذاتها قد اتصلت بالمحكمة الدستورية العليا اتصالًا صحيحًا؛ ما يتعين معه القضاء بعدم قبول الدعوى فى هذا الشق منها.

وحيث إن الفقرة الثانية من المادة ۳۰۲ من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم ۹۳ لسنة ۱۹۹٥، ومع ذلك فالطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة لا يدخل تحت حكم الفقرة السابقة إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبشرط أن يثبت مرتكب الجريمة حقيقة كل فعل أسنده إليه، ولا يغنى عن ذلك اعتقاده صحة هذا الفعل متى كان ذلك، وكانت النيابة العامة لم تتهم المدعى بارتكاب جريمة السب المنصوص عليها فى المادة ٣٠٦ من قانون العقوبات؛ ومن ثم فإن الفصل فى دستورية هذا النص لا يكون له انعكاس على الدعوى الموضوعية، لتغدو مصلحة المدعى فى الطعن عليه منتفية، ولزامه القضاء بعدم قبول الدعوى فى هذا الشق منها، وإن المحكمة تؤكد أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام حظر حبس الصحفيين.

وحيث إن المادة ۳۲ من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الصادر بالقانون رقم ۱۸۰ لسنة ۲۰۱۸، تنص على أنه «لا يعاقب الصحفى أو الإعلامى جنائيًا على الطعن فى أعمال موظف عام، أو شخص ذى صفة نيابية عامة، أو مكلف بخدمة عامة بطريق النشر أو البث إلا إذا ثبت أن النشر أو البث كان بسوء نية، أو لا أساس له من الصحة، أو كان عديم

الصلة بأعمال الوظيفة أو الصفة النيابية أو الخدمة العامة». ولما كان مفاد هذا النص ومقتضاه أن المشرع قد خص الصحفى أو الإعلامى بسبب لإباحة طعنه فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة، أو مكلف بخدمة عامة، يغاير فى نطاقه وحدوده سبب الإباحة المنصوص عليه فى الفقرة الثانية من المادة ۳۰۲ من قانون العقوبات المعدلة بالقانون رقم ٩٣ لسنة ١٩٩٥ والمستبدلة بالقانون رقم ١٤٧ لسنة ۲۰۰٦، ولم يكلف الصحفى أو الإعلامى، فى حال الطعن فى أعمال الفئات الثلاث المار بيانها، إثبات سلامة نيته وعدم تعدى الطعن إلى غير أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وإثبات حقيقة كل فعل أسنده إلى المجنى عليه، وإنما ناط بسلطة التحقيق أو المحكمة، بحسب الأحوال، أن تثبت طبقًا للقواعد العامة للإثبات فى المواد الجنائية، أن الطعن فى أعمال أى من الفئات الثلاث، الذى يتم بطريق النشر أو البث، كان بسوء نية، أو لا أساس له من الصحة، أو كان عديم الصلة بأعمال الوظيفة أو الصفة النيابية أو الخدمة العامة، بما مؤداه أن المدعى- بصفته صحفيًا- لم يعد اعتبارًا من تاريخ العمل بالقانون رقم ۱۸۰ لسنة ۲۰۱۸ الفائت ذكره، مخاطبًا بنص الفقرة الثانية من المادة ۳۰۲ من قانون العقوبات المطعون عليه؛ ومن ثم لم تعد له مصلحة شخصية مباشرة فى الطعن عليه.

ولا يغير من ذلك الاحتجاج بتماثل حكم المادة ۳۲ من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المار ذكره، مع ما أورده عجز النص المطعون فيه، بعد استبداله بالقانون رقم ١٤٧ لسنة ٢٠٠٦، فيما تضمنه من تخويل سلطة التحقيق أو المحكمة– حسب الأحوال- أن تأمر بإلزام الجهات الإدارية بتقديم ما لديها من أوراق ومستندات معززة لما يقدمه المتهم من أدلة لإثبات حقيقة تلك الأفعال، بالنظر إلى أن التعديل الآنف بيانه، لم يرفع عمن يطعن فى أعمال أى من الفئات الثلاث السالف ذكرها بالنص، عبء المبادرة إلى إثبات حقيقة كل فعل أسنده إلى المجنى عليه، محددًا دور سلطة التحقيق أو المحاكمة فى إلزام الجهات الإدارية بتقديم ما لديها من أوراق ومستندات معززة لما يقدمه المتهم ابتداء- من أدلة لإثبات حقيقة ما أسنده من أفعال للمجنى عليه، ولا كذلك الحال فيما استنه نص المادة ۳۲ من قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المشار إليه من تكليف سلطة التحقيق أو المحكمة أن تثبت عند الإحالة أو الإدانة- بحسب الأحوال- أن الطعن الذى وجهه الصحفى أو الإعلامى إلى أعمال أى من الفئات الثلاث المذكورة بهذا النص، لا أساس له من الصحة. متى كان ذلك، وكانت المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى من الطعن على نص الفقرة الثانية من المادة ۳۰۲ من قانون العقوبات، بعد تعديلها واستبدالها المار بيانه، قد زالت، فإن القضاء بعدم قبول الدعوى، فى هذا الشق منها يغدو متعينًا.

وحيث إنه من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلًا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائى الأسوأ، غير أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقًا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثّمها قانون جنائى سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التى تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسًا، إعمالًا لقاعدة القانون الأصلح للمتهم، تلك القاعدة التى وإن اتخذت من نص المادة ٥ من قانون العقوبات موطنًا وسندًا، إلا أن صون الحرية الشخصية التى كفلها الدستور الحالى بنص المادة ٥٤ منه يقيم هذه القاعدة ويرسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها، لأن ما يعتبر قانونًا أصلح للمتهم، وإن كان لا يندرج تحت القوانين التفسيرية التى تندمج أحكامها فى القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه، باعتبارها جزءًا منه يبلور إرادة المشرع التى قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التى أثمها القانون القديم، أو يعدل تكييفها أو بنيان العناصر التى تقوم عليها، أو يُعدل عقوباتها بما يجعلها أقل بأسًا، إنما ينشئ للمتهم مركزًا قانونيًا جديدًا، ويقوض مركزًا سابقًا؛ ومن ثم يحل القانون الجديد- وقد صار أكثر رفقًا بالمتهم، وأعون على صون الحرية الشخصية التى اعتبرها الدستور حقًا طبيعيًا لا يمس– محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل يُنحى ألحقهما أسبقهما.

وكان المشرع قد ألغى عقوبة الحبس المنصوص عليها فى الفقرة الثانية من المادة ۳۰۳ من قانون العقوبات، وذلك بموجب المادة الثانية من القانون رقم ١٤٧ لسنة ۲۰۰٦، فإنها تُعد قانونا أصلح للمدعى- وإن ضاعف عقوبة الغرامة إلى مثليها، تلتزم محكمة الموضوع بتطبيقه عليه دون النص ذاته، قبل استبداله، وكان نص المادة ۳۰۷ من القانون ذاته قد رفع الحدود الدنيا والقصوى لعقوبة الغرامة المنصوص عليها فى الفقرة الثانية من المادة ۳۰۳ من قانون العقوبات إذا ارتكبت الجريمة بطريق النشر فى إحدى الجرائد أو المطبوعات- وهو الاتهام المسند إلى المدعى-، وكانت نصوص المواد ١/٢١٤ و٢١٥ و٢١٦ من قانون الإجراءات الجنائية، قد عقدت الاختصاص بنظر الجنح التى تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر، عدا الجنح المضرة بآحاد الناس، إلى محكمة الجنايات، وكان المدعى قد قدم إلى تلك المحكمة، لمحاكمته طبقا للمادتين ۲/۳۰۳ و۳۰۷ من قانون العقوبات، فإن نطاق هذه الدعوى يتحدد بهذين النصين بعد استبدال أولهما بالقانون رقم ١٤٧ لسنة ٢٠٠٦، وتعديل ثانيهما بالقانون رقم ۹۳ لسنة ۱۹۹٥، وبنصوص الفقرة الأولى من المادة ٢١٤ من قانون الإجراءات الجنائية، المستبدلة بالقانون رقم ۱۷۰ لسنة ۱۹۸۱، والمادة ٢١٥ من القانون ذاته، المستبدلة بالقانون رقم ۱۰۷ لسنة ١٩٦٢، والمادة ٢١٦ من القانون المشار إليه المستبدلة بالقانون رقم ٣٥٣ لسنة ١٩٥٢، وقبل استبدال نصوص قانون الإجراءات الجنائية الثلاثة الفائت ذكرها بالقانون رقم ١ لسنة ٢٠٢٤.

وحيث إن إباحة نقد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته، تُعد حقًا مكفولًا لكل مواطن، تمكنه من عرض الآراء وتداولها، بما يحول- كأصل عام دون إعاقتها أو فرض قيود مسبقة على نشرها، وهى حرية يقتضيها النظام الديمقراطى، وليس مقصودًا بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته، ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة وعبر الحدود المختلفة، وعرضها فى آفاق مفتوحة تتوافق فيها الآراء فى بعض جوانبها أو تتصادم فى جوهرها ليظهر ضوء الحقيقة جليًّا من خلال مقابلتها ببعض، وقوفًا على ما يكون منها زائفًا أو صائبًا، منطويًا على مخاطر واضحة أو محققًا لمصلحة مبتغاة، ومن غير المحتمل أن يكون نقد الأوضاع المتصلة بالعمل العام، تبصيرًا بنواحى التقصير فيه، مؤديًا إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة، وليس جائزا بالتالى أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة أو مواطن الخلل فى أداء واجباتها، وكلما نكل القائمون بالعمل العام- تخاذلًا أو انحرافًا- عن حقيقة واجباتهم مهدرين الثقة العامة المودعة فيهم، كان تقويم اعوجاجهم حقا وواجبا مرتبطا ارتباطًا عميقًا بالمباشرة الفعالة للحقوق التى ترتكز فى أساسها على المفهوم الديمقراطى لنظام الحكم، ويندرج تحتها محاسبة القائمين على العمل العام، وإلزامهم بمراعاة الحدود والخضوع للضوابط التى فرضها الدستور عليهم.

وحيث إن الدستور القائم قد نص فى المادة ٦٥ منه على أن حرية الرأى مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير، فإن الدستور يكون قد كفل بهذا النص حرية التعبير عن الرأى بمدلول جاء عامًا، ليشمل حرية التعبير عن الآراء فى مجالاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويندرج تحتها الحق فى النقد، وما ذلك إلا لأن الحق فى النقد- وخاصة فى جوانبه السياسية- يعتبر إسهامًا مباشرًا فى صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأثرًا حتميًا لما أوجبه الدستور فى المادة ٥ منه من تلازم المسؤولية مع السلطة، وهو ما لا يكون إلا بإتاحة وسائل الطعن فى عمل الموظف العام أو من فى حكمه، كضرورة لازمة للسلوك المنضبط فى الدول الديمقراطية، وعائقًا دون الإخلال بحرية المواطن فى أن يعلم، وأن يكون فى ظل التنظيم البالغ التعقيد للعمل الحكومى قادرا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه، وإذا كان الدستور الحالى قد أكد فى مادته رقم ٦٨ على التزام الدولة بالإفصاح عن المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية مؤكدًا على ملكية الشعب لها، وهو حق للمواطنين تكفله الدولة وتلتزم بإتاحته لهم بشفافية فقد دل ذلك على استواء الحق فى نشر هذه الحقائق كأحد الحقوق الدستورية المصونة، ولو كانت تتضمن طعنًا فى العمل العام، فليس للسلطة التنفيذية أن تتخير من الآراء ما يكون منها فى تقديرها موضوعيا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق فى الحوار العام، وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم من المساواة الكاملة. فإذا ما حاد الرأى المنشور عن استهداف الصالح العام، وكان النقد منطويًا على آراء تنعدم قيمها الاجتماعية، كتلك التى تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التى تكون منطوية على الفحش من القول، أو محض التعريض بالسمعة، أو الحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة تتعرض به لمصلحة حيوية، فإن الحماية الدستورية تنسحب عنها، لتخضع إلى المساءلة الجنائية.

وحيث إن الدستور فى مقام ترسيمه للحقوق الدستورية اللصيقة بشخص المواطن على ما حددته المادة (۹۲) من الدستور، وهى تلك الحقوق الدستورية التى لا يجوز المساس بها، ولا التنازل عنها، أعلى من شأن الكرامة الإنسانية، بحسبانها الأساس الذى لا تتنفس الحرية الشخصية إلا بضمان وجوده، فنص فى المادة ٥١ منه، على أن الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها، فشملت الحماية الدستورية المقررة لهذا الحق كل إنسان دون اعتبار إلى جنسيته أو نوعه، أو مركزه الوظيفى، ليكون كل اعتداء عليها– فى غير أحوال الإباحة- إخلالًا بهذا الحق الدستورى، ومن جهة أخرى ألقى على الدولة واجبًا فى أن تصون بسائر تشريعاتها الكرامة الإنسانية، فتحول دون المساس بها، وأن تقوم على حمايتها والذود عنها؛ قاصدًا من ذلك أن يكفل لكل إنسان يحيا على أرض هذا الوطن الحق فى صون كرامته، وحفظها من المساس بها، ومن تجليات هذا الحق الدستورى أن ألقى الدستور فى المادة (٥٩) منه على الدولة التزامًا أصيلًا بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها، بل يمتد لكل مقيم على أرضها، وهو التزام لا يقتصر على حفظ النفس من الاعتداء المادى عليها، بل إلى حفظ الكرامة الإنسانية كذلك، ومن أخص خصائصها تأثيم الاعتداء عليها بكل فعل يوجب عقاب المجنى عليه أو احتقاره عند أهل قومه، متى وقع خارج حدود الإباحة.

وحيث إن المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن القانون الجنائى، وإن اتفق مع غيره من القوانين فى سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، فإن هذا القانون يفارقها فى اتخاذه الجزاء الجنائى أداة لحملهم على إتيان الأفعال التى يأمرهم بها، أو التخلى عن تلك التى ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيّا أن يحدد من منظور اجتماعى، ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفًا للدستور، إلا إذا كان مجاوزًا حدود الضرورة التى اقتضتها ظروف الجماعة فى مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية، ومن ثم يتعين على المشرع، حين يقدر وجوب التدخل بالتجريم حماية لمصلحة المجتمع أن يجرى موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وضمان حريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.

وحيث إن المقرر فى قضاء هذه المحكمة أنه لا تجوز معاملة المتهمين بوصفهم نمطًا ثابتًا، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم فى قالبها، بما مؤداه أن الأصل فى العقوبة هو تفريدها لا تعميمها، وتقرير استثناء من هذا الأصل- أيًا كانت الأغراض التى يتوخاها- مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم، وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعنى إيقاع جزاء فى غير ضرورة، بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، وبما يقيد الحرية الشخصية دون مقتضى ذلك أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل قاض سلطته فى مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديرًا لها، فى الحدود المقررة قانونًا، فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبرًا لآثار الجريمة من منظور موضوعى يتعلق بها وبمرتكبها، وأن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم فى مجال تفريد العقوبة بما يوائم بين الصيغة التى أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها فى كل حالة بذاتها، مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يكون إنفاذها إلا عملًا مجردًا يعزلها عن بيئتها، دالًّا على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامدًا فجًا منافيًا لقيم الحق والعدل.