27 - 07 - 2024

سلامة وعيد .. وأوامر فاطمة تعلبة !

سلامة وعيد .. وأوامر فاطمة تعلبة !

في مقالاتي السابقة، التي أمطتُ فيها اللثام عن عديدٍ من أعلام قريتنا الزاهرة، كنتُ أقومُ بدور الراوي العليم باعتبار أنني مصدرُ المعلومة، التي أكون قد حصلتها إمّا بمعايشة الشخصية موضوع المقال، أو بالاستماع إلي من عايشها، إلا أن هذا المقال يختلفُ عما سبق في أمور منها : أنني أراني مضطرا لأن أتوارى خلف من هم أعلم بشخصيّتي هذا المقال، بطلي شباك هذا العرض .

كما أن هذا المقال، لا يتناول شخصا واحدا، بل يتناول اثنين تآزرا في النبل والأخلاق، فصارا أشبه بوجهين لعملة واحدة، ومن ثم فالحديث عن أحدهما لا يروق إلا بذكر الآخر .

وبعد .. فقد حان وقتُ الصمت لينبعث صوتي، المُستمِد معلوماتِه من ذاكرة صديقي أ. إيهاب عبد الشهيد، الذي خرجتُ أنا وهو وصديقنا د. عصام أيوب لزيارة رمزين من رموز قريتنا الكبار، وهما الحاج سلامة رمضان الحفناوي، أطال الله بقاءه، وألبسه ثوب العافية، والحاج عيد الحفناوي، حفظه الله .

أمّا الحاج سلامة، فهو من أوائل القرية في أمور عديدة، منها أنه أول مدير بنك قروي في قريتنا، وقد أضفى عليه هذا المنصب الرفيع آنئذ أناقة في الملبس، ولباقة في الحديث، ورجاحة في العقل، وحكمة في اتخاذ القرار، فنال بهذا كله ثقة رؤسائه، ورضا كلّ من قصده في قضاء مصلحة مع البنك الذي كان مديرا له .

كما كان من أوائل القرية فى إدخال التليفون الأرضي، وكان القائم الخشبي فوق بيته، والذي اتصل به كَبْل التليفون الهوائي يُعد فنار (إمياي).

وفي صحن داره دوىّ جرسُ التليفون الأسود ذي المنافلة والقرص في حين كانت القرية علي بكرة أبيها تستخدم ( الركايب ) في توصيل الرسائل وجلبها .

وكان حفظه الله من أوائل من امتلك سيارة بيجو ٥٠٤، واعتاد أن يستقلها من وإلي عمله، وفي شوارع القرية الرئيسية في زمن كان من يمتلك ( حمار حصاوي) أو بغلا يظن نفسه ( أبو زيد الهلالي، أو الزناتي خليفة) !

أخلصَ الرجلُ في عمله، وأحب أسرته، فكان لأبنائه وبناته أبا وصديقا، وكان مع زوجته حليما ورفيقا، فأحبه الكل، واستحق عن جدارة أن يكون عميد عائلته بعد وفاة أبيه، وحيث إن ناشئ الفتيان، ينشأ علي ما كان عوده أبوه، فقد ورثَ أبناؤه عنه النبل والبر، خاصة ابنه الوحيد محمد، والذي رغم صغر سنه، إلا أنه كبير المقام ببره لأبيه، إذ لا يفتأ يبر أباه وأمه، ولسان حاله :

 وأطع أباك فإنه رباك من عهد الصغر  / واخضع لأمك وارضها فعقوقها إحدي الكبر

حفظ الله الرجل وذريته أجمعين .

وأمّا الحاج عيد الحفناوي، فهو النبلُ في أبهى صوره، والودُّ في أسمي معانيه، والمسارعة إلي الواجبات الاجتماعية، فلم يتأخر يوما عن زيارة مريض أو قضاء واجب، ولم يتخلف عن دعوة سواء كان الداعي غنيا أو فقيرا، ولو قلنا إنه كان يحرص علي تلبية دعوة الأثرياء، فإن حرصه علي مشاركة الفقراء في أفراحهم وأحزانهم كان أشد؛ جبرا لخوطرهم .. لسان حاله :

من يفعل الخير لا يَعدم جَوازيَه / لا يذهب العرف بين الله والناس .

ولو قلنا إن أخاه الأكبر الحاج سلامة من الأوائل فإن الحاج عيد من الأوائل أيضا في أمور، منها أنه كان حارس مرمي القرية في وقت ابتلعتْ حقول القطن كل أقرانه، وكان حارسا صنديدا قلما يدخل شبكته هدف، ولكن في إحدي المباريات، وبرغم أنه كان أفضل حارس مرمي بمدارس المعلمين علي مستوي الجمهورية، إلا أنه في يوم نحِسٍ مستمر، غفلتْ عنه عناية السماء، وأخطأته دعوة والديه، ودخلتْ في مرماه الأهداف كـ(الرز)، فجلس بجوار العارضة خائفا يترقب، تهطل دموع عينيه علي تمزيق شبكته من كثرة الأهداف، وهو ما ذكّرني بفريق الفنان حسن يوسف وجورج سيدهم، والضيف أحمد في فيلم " الزواج علي الطريقة الحديثة"،  وترن في أذني عبارة المعلق سمير غانم " الكورة مع أحمد .. أحمد معاه الكورة ".

كما أنه كان مدرسا حازما، ومديرا جادا، لا يترك فرصة للتسيب والاستهتار .

الحاج سلامة وأخوه الحاج عيد صورة مشرقة لأخلاق أولاد القرية، ونموذجان مشرفان مع أخيهما الثالث الحاج جابر في التعاون والتعاضد، والمسارعة إلى الواجبات الاجتماعية، وكلها خصالٌ ورثوها عن أبٍ ربي أولاده من عَرق حبينه، وأم تُعد تجسيدا حيا لـ(فاطمة تعلبة) في مسلسل "الوتد"، إذا تكلمت أنصتوا، وإنْ أمرت أطاعوا بلا نقاش أو جدال .
___________________________
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام 

مقالات اخرى للكاتب

(صُباع) الكافر !