27 - 07 - 2024

بعض الصور النمطية في الثقافة الشعبية المصرية

بعض الصور النمطية في الثقافة الشعبية المصرية

تنتشر الصور النمطية في كافة المجتمعات لأسباب تتعلق بالفوارق الطبقية والإثنية والعرقية ونتيجة للخلافات  التاريخية والصراعات ولأسباب أخرى عديدة.

في معظم بلاد العالم ترتبط النظرة النمطية للأفراد بمشاعر الكراهية والعنصرية والعنف والحقد الطبقي واحتقار الآخر والتقليل من شأنه والرغبة في إيذائه وإلحاق الضرر به. نجد ذلك مثلاً في نظرة الإنجليز إلى سكان أيرلندا وفي نظرة شعوب شمال أوروبا إلى شعوب دول الجنوب الأوروبي مثل إيطاليا واليونان ونظرة شعوب غرب أوروبا إلى سكان شرق اوروبا ونظرة الشمال الأمريكي إلى الجنوب وفكرة الشرق الامريكي عن الغرب الأوسطوالغرب الشمالي. وهكذا دواليك.  

ما يميز التنميط في المجتمع المصري أنه يتم لأسباب  مناطقيه بحتة ( قاهري - سكندري - بحري - سواحلي - جنوبي صعيدي - دلتاوي فلاح - سيناوي بدوي الخ ) ولا تحمل عملية التنميط أية مشاعر سلبية او عنصرية تجاه الآخر.  

وتسير عملية التنميط في سياقات متبادلة لأن القاهري أحياناً يرى سكان الأقاليم بطريقة معينة وفي نفس الوقت ثمة تنميط مقابل ومواز من سكان الأقاليم لأهل القاهرة ورغم مسارات  التنميط العديدة إلا أنها لا تحمل في طياتها أي نوع من أنواع الكراهية الدفينة أو العنف تجاه الآخر كما أن معظم الأنماط الشعبية لا تستهدف إلصاق العيوب بالآخر من أجل تحطيم صورته بل هي جزء من سرديات الثقافة الشعبية المصرية خفيفة الظل. 

يرجع ذلك إلى أن المجتمع المصري قد مر عبر العصور بمراحل عديدة من الانصهار الثقافي ساهمت في إذابة الفوارق الطبقية تماما.  لقد اختلطت في مصر دماء الفراعنة مع الهكسوس والرومان واليونانيين والبطالمة والفرس والعرب والفرنجة والانجليز وأنتجت هجينا بشريا لا يؤمن بالقبلية ولا العنصرية ولا التعصب ضد الآخر، وهذا ما يعطي الصور النمطية المصرية خصوصيتها على الرغم من أنني لا أحبذ ترويجها إعلامياً وسينمائيا حتى ولو كان من باب الفكاهة والكوميديا.  

من بين الصور النمطية السائدة في أساطير الثقافة الشعبية صورة أبو العربي البورسعيدي والتابعي الدمياطي. وفي البداية أؤكد أنني من مواليد دمياط ولكنني من أصول صعيدية وثمة فرع  من الأسرة يعيشون في بورسعيد وأنا من عشاق المدينة الباسلة (بورسعيد). 

تقول الأسطورة الشعبية  أن أبا العربي فشار وبتاع كلام في حين أن الدمياطي بخيل. وهذا كلام فارغ بالطبع ولا يمت للواقع بصلة، وهو جزء من أساطير الثقافة الشعبية المصرية التي تدعي مثلاً أن الصعيدي ساذج وأن الشرقاوي كريم وكلاهما يمكن الإيقاع به وخداعه. 

كذلك تدعي الاساطير أن سكان المدن الكبرى مثل القاهرة والاسكندرية  مخادعون وأنهم يلعبون بالبيضة والحجر ويسرقون الكحل من العين. 

لست متخصصا في التراث الشعبي ولذلك أعود إلى    كل من أبي العربي البورسعيدي والتابعي الدمياطي وهو رمز للدمايطة. ولي تجارب مع كليهما. 

أولا بعض المبالغات الكلامية التي ارتبطت بأهلنا في بور سعيد حسب ظني ترجع لأسباب تخص تهجيرهم مرتين أثناء حربي ٥٦ و ٦٧ فقد تم تهجير سكان بورسعيد بالكامل إلى مدن لا يجدون فيها عملا يناسبهم حيث كانت أعمالهم ومهنهم كلها قبل التهجير مرتبطة بميناء بورسعيد، وبيع السلع البسيطة لسياح الترانزيت الذين كانوا يتوافدون على المدينة، علاوة على أعمال أخرى محدودة. 

فقد كانت المدينة صغيرة، في مرحلة ما قبل الانفتاح أو الانفشاخ الاقتصادي، في مدن الشتات المصرية أثناء الهجرة كانوا يتعرضون لبعض المضايقات والكثير من التعليقات من السفهاء بأنهم عاطلون لا يعملون في مهن وحرف البلد المضيف، مما حدا بهم للحديث عن ماضيهم قبل الهجرة وأنهم كانوا تجارا كبارا ولهم باع كبير في مجال السياحة والتصدير والاستيراد الخ. 

هنا جاءت المبالغات التي اقترنت كذلك بسرديات بطولية مفبركة عن الكفاح ضد العدوان الثلاثي، رغم أن المدينة تصدت بالفعل للعدوان و دحرته، ولكن لم يكن جميع السكان جنودا في معركة التحرير. 

أما التابعي الدمياطي فله قصة أخرى، الدمايطة طوال تاريخهم شعب يعشق العمل والتنافس الشريف. الدمياطي لم يكن لديه عبر التاريخ وقتا يضيعه بسبب انشغاله بالعمل في ورش الموبيليات (في الماضي طبعا) وفي مصانع الأجبان  والحلويات وتعليب الاسماك وصناعة الاحذية والجلود وصناعة السفن في عزبة البرج. كما أن القرى الدمياطية التي كانت تعمل في الزراعة كانت أكثر تطورا من المدن المماثلة في المحافظات الأخرى، وكانت تنتج المزروعات وتعمل كذلك في تطوير الانتاج الحيواني والداجن. 

كانت المقاهي في دمياط خاوية على عروشها طوال ايام الاسبوع فيما عدا يوم الجمعة بسبب انشغال الناس بالعمل. (أعرف ان الوضع حاليا في منتهى السوء والبؤس  لأسباب يعرفها الجميع بعدما تحولت الورش الى مقاهي ومعارض الموبيليا إلى صالات أفراح). كان طلاب المدارس والجامعات يعملون طوال فترة الصيف في ورش الموبيليا وانا أولهم، وكانت الفتيات يعملن في مصانع الحلويات الخ وكانت نسبة العنوسة في دمياط صفر وكان إجمالي الناتج المحلي لدمياط أكبر من مثيله في القاهرة، وكانت دمياط تصدر الموبيليا  الىالاتحاد السوفيتي مقابل حصول مصر على السلاح . 

في مجتمع مثل هذا تكون الزيارات محدودة وقصيرة وعند الحاجة. في مجتمع مثل هذا لا يوجد عند الناس وقت يضيعونه في استقبال  ضيف قادم من قرية في بلد مجاور ومعه شلة من أصحابه العاطلين عن العمل، اعتادوا عند زيارتهم للآخرين أو عند قدوم الآخرين لزيارتهم أن تستمر الزيارة أسبوعا كاملا على الاقل. 

من هنا نشأت أسطورة بخل الدمايطة لانهم كانوا منشغلين بأعمالهم، ولديهم وقت محدد ينبغي أن ينتهوا فيه من تسليم المنتجات المطلوب منهم تصنيعها. كانوا يتهربون ممن يتسببون في إضاعة وقتهم سدى حتى لو كانوا  من المقربين.

وكلمة حق أقولها للتاريخ  رغم أنني كنت أتواجد في دمياط في فترات متقطعة، لكني فعليا تركت دمياط في عام ١٩٧٨ وذهبت للدراسة في جامعة عين شمس بالقاهرة ثم توالت سنوات المنفى والشتات - أقول بان الدمياطي شاطر يقدر المسؤولية وقيمة العمل، وحكاية البخل والكرم لا يمكن تعميمها على بلد بأسره أو نفيها فليس كل الصعايدة من البسطاء وليس كل الشراقوة من الكرماء وليس كل المنايفة (بتوع مصالحهم وبس) وليس كل السواحلية (أصحاب مزاج متقلب مثل أمواج البحر). وليس كل سكان المناطق الصحراوية (يغيرون آراءهم كما تغير الرياح شكل الكثبان الرملية في البوادي المجاورة). فعلا البيئة تلعب دورا مهما في تشكيل عقليات وتصرفات البشر ولكن هناك عوامل اخرى عديدة وهناك فوارق شخصية ونفسية وجينية بين البشر.  

أسعد الله أوقاتكم.
-----------------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
* أكاديمي وناقد ومترجم

مقالات اخرى للكاتب

بعض الصور النمطية في الثقافة الشعبية المصرية