26 - 08 - 2024

مَنْ يُحاكِم الشر (2)؟

مَنْ يُحاكِم الشر (2)؟

مؤخرًا، جددت محكمة العدل الدولية في لاهاي، قراراتها وأحكامها حول ما يُرتكب بحق الفلسطينيين وأراضيهم، والتي يراها الإسرائيليون وحلفاؤهم، أنها تشكل خطرًا وجوديًا لدولتهم، مؤكدة ضرورة التزام تل أبيب بتطبيق قواعد المعاهدات التي وقعت عليها، وأنه لا يمكن نقل السلطات  للكيان المحتل، وفق ما يحدث من ممارسات على أرض الواقع، وأن ضم إسرائيل أراضي فلسطينية يؤثر على حق الفلسطينيين في تقرير المصير، ليشدد رئيس محكمة العدل الدولية نواف سلام، على وجود أدلة تؤكد تهجير جيش الاحتلال الفلسطينيين من أراضيهم بالضفة الغربية، ومواصلة توسع استيطاني قائم على مصادرة الأراضي، إضافة إلى استغلال إسرائيل المصادر الطبيعية الموجودة في الأراضي المحتلة عكس ما تنص عليه اتفاقية جنيف، كما أن الدولة المحتلة تخالف القانون الدولي بمنع وحرمان الفلسطينيين من الوصول إلى المياه، وسط نقل قسري تعسفي للمدنيين، وغيرها من القرارات التي تدين الكيان الغاصب، في انتهاك صريح للقانون الإنساني..

وبينما يحدث ذلك في الوقت الراهن.. كانت هناك قبل منذ سبعين عامًا أو يزيد، أكبر محاكمة لجريمة قتل في التاريخ، كما يصفها كثيرون- محاكمات نورمبيرغ بألمانيا- تلك السلسلة من المحاكم العسكرية التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية وفقًا للقانون الدولي وقوانين الحرب، ونالت شهرتها الواسعة من محاكمة مسؤولين كبارمن القيادات السياسية، والعسكرية، والقضائية، والاقتصادية في "ألمانيا هتلر".. إذ وصف البعض "بن فيرينتس"- بالمناسبة يهودي  الديانة- الذي كان مُدعيًا عامًا في تلك المحاكمة بأنه أسطورة في ميدان القضاء الجنائي وفاعل الخير الدولي، ورآه آخرون خلال مسيرته المهنية التي امتدت لسبعة عقود، أنه شخص جُل هدفه في الحياة تطبيق العدالة في عالم ملأه الظلم..

" بن فيرينتس" يحكي عن كبير محامي الدفاع في المحاكمة، الدكتور "أوتو أوليندورف"، الجنرال في القوات الخاصة النازية، أنه يعرفه جيدًا، ولا يمكن أن ينعته بـ"الحيوان"، لأنه كان عقلانيًا- أرسطو قال إن «الإنسان في أفضل حالاته أرقى من الحيوانات كلها.. وحين يبتعد عن القانون والعدالة، يُمسي أسوأ المخلوقات»- يقول "فيرينتس" عن الجنرال الألماني إنه قدم مرافعة منطقية وكان صادقًا في إجاباته بصورة معقولة، وقال إنه سيكرر ما فعله، ولو أمروه بقتل "أخته"، والسبب، كما يقول "أوليندورف" هو أن هتلر علم أن الألمان سيتعرضون للهجوم، وكانت لدى "هتلر" معرفة أكثر منه، لهذا لم يكن في موقع يخوله معارضته، فيرى أنه كان أمرًا قانوني التصرف،  بأسلوب دفاعي استباقي عن النفس لمنع حدوث ذلك، وهذا ما كان يفعله، وكانت حجته الدفاع عن النفس (كم مرة سمعت هذه العبارة من الإسرائيليين وحلفائهم راهنا؟)..

الجنرال في القوات الخاصة النازية ذكر في شهادته المباشرة أمام المحكمة التاريخية، فكرة أن بعض القادة كانوا يأخذون الأطفال الرُضّع ويحملونهم من أرجلهم ويسحقون رؤوسهم بشجرة، قائلا: إنه لا يصدق حدوث ذلك، ومن ثم أخبر رجاله أنه حين يكون لدى امرأة رضيع وهو يبكي وأمه كذلك، وهي تحمله إلى صدرها، فلتوجهوا الرصاص نحو الرضيع، في هذه الحالة ستقتلونهما برصاصة واحدة، فتُسكتون الأم وتوفرون ذخيرتكم، وذلك قتل فيه رحمة أكثر، (كم قتل جيش الاحتلال من نساء وأطفال غزة حتى اللحظة؟)

ويتطرق "أوتو أوليندورف"، وفق "بن" إلى أمور أخرى، فمثلًا، كانت هناك حافلات غاز، كانوا يربطون خرطوم الوقود من المحرك إلى داخل الحجرة، والأبخرة الناجمة تخنق الناس القابعين، ثم يكدسونهم ويقفلون عليهم، وبعد 20 دقيقة، يأخذونهم إلى مكبّ، يفتحون الحافلة ويرمونهم داخل خندق، لكن أوليندورف قال إنه لم يحبذ طريقة حافلات الغاز، لأن بعضهم لم يموتوا، وكانوا يصرخون، فينشب وضع فوضوي، وكان سيئًا لمعنويات الرجال الاضطرار لفعل ذلك، ومن ثم يجب تصفيتهم بالأيدي، فأخبرهم أنه لا يريد المزيد من القتل بحافلات الغاز، فعلًا كان أوليندورف رجلًا محترمًا، بغض النظر عن أنه قتل 90 ألف إنسان، كل ذنبهم أنهم لم يكونوا من عرق أو دين أو أيديولوجيا جلّاديهم، بحسب "بن"..

وبينما وصف "بن فيرينتس" ما حدث في أثناء "ألمانيا هتلر" قبل سبعة عقود ونيف بأنها جريمة مروعة بحق الإنسانية، وظن بالإمكان منع تكرارها مستقبلًا بإدانتها والتأكيد على الحق القانوني لجميع البشر بالحماية، عبر إنشاء مبدأ قانوني يحمي مستقبل الإنسانية تسفر عنه المحاكمة التاريخية.. ففي الحرب الدائرة الآن على الأراضي الفلسطينية دمَّرت، الطائرات الإسرائيلية مربعات سكنية كاملة فى غزة، ضمن سياسة التدمير الشاملة التي ينتهجها الاحتلال في عدوانه المستمر على القطاع، وقتلت وأصابت ما يقارب 150 ألفًا، غالبيتهم من النساء والأطفال، في ما لا يزال آلاف الشهداء والجرحى لم يتم انتشالهم من تحت الأنقاض جراء تواصل القصف وخطورة الأوضاع الميدانية، في ظل حصار خانق للقطاع وقيود مُشددة على دخول الوقود والمساعدات الحيوية العاجلة للتخفيف من الأوضاع الإنسانية الكارثية..

"بن فيرينتس" كان يدرك، أو هكذا ظن، أن المخرج الوحيد للانتهاء من زهق الأرواح واحتلال الأراضي والبطش والعنصرية والجشع وغيرها من الظواهر التي تتسبب في معاناة إنسانية، هو القانون، لا الحرب، بينما تأتي تصريحات شخصيات، إن جاز إطلاق اللفظ عليها، مثل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، علنًا، بأنهم ملزمون بإعادة احتلال قطاع غزة وشمال الضفة الغربية والاستيطان هناك، والضغط لطرد الفلسطينيين، زاعمًا أن قرارات محكمة العدل الدولية معادية للسامية، ويصفها بالمواعظ غير المقبولة، والتحريض من وزير مالية تل أبيب سموتريتش ضد المحكمة مع سرعة وضرورة فرض السيادة على كامل الضفة الغربية ردا على قراراتها، وسط عالم بعد أن كان عليه، قديما، أن يكافح لإيجاد حل، بات حاليًّا يُنفق مئات المليارات في سباق التسلّح، ويسابق على من يصنع أسلحة تفتك أكثر بالبشر، وسط غياب أو تغييب حاكمي الشر.
-----------------------------
بقلم: عزت سلامة العاصي


مقالات اخرى للكاتب

مطلوب لأسرة مصرية!