18 - 09 - 2024

المؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين وفخ "تحضير الجثة وتغييب الروح"

المؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين وفخ

أقلقني كثيرا ما صدر في الآونة الأخيرة عن التحضيرات الجارية للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين، فقد أحسست مما نشر أن الأمر قد يفضي لإيقاع النقابة ومؤتمرها في فخ " تحضير الجثة وتغييب الروح" وان الوقوع في الفخ قد يحدث عرضا أو عمدا أو جهلا، بعبارة أدق الأمر على هذا النحو قد ينتهي بإغراق المؤتمر والجمعية العمومية والنقيب والمجلس في فخ الحديث عن قضايا ترتبط بجسد الجثة التي لامست هامتها الأرض ومسح بها البلاط، ودهستها الأحذية، قبل الحديث عن الروح التي يتعين بثها في الجسد ليعود من حالة الجثة الي حالة الكائن الحي... كيف؟

قلت سابقا في هذا المكان أن كل من عمل بهذه المهنة ولو ليوم واحد، يعلم جيدا  أن روح الصحافة والنفس الذي يتردد في صدرها ويمنحها الحياة هي الحرية، والشفافية واحترام الاختلاف والتنوع في الرأي، والانسياب السلس للمعلومات، والقدرة على تحقيق المعادلة الذهبية القائمة علي أن حق الجمهور في أن يعرف، مقدما على حق السلطة أو المصدر في أن يقول أو لا يقول.

إذا سلمنا بأن الحرية هي الروح التى تسكن جسد مهنة الصحافة، والنفس الذي يتردد في صدرها، فإن الحرية تكون بالضرورة هي مفتاح الحديث عن قضية مهنة الصحافة بمختلف جوانبها كافة، وأقول مفتاح، لأن المفتاح لا يلغي ما بعده، لكن لا شيء يأتي قبله، فالأصل في الأمور أن يكون لديك مفتاح باب الحجرة ، قبل ان تتحدث عما اذا كان ما تحتويه منظما بديعا قادرا على أداء وظائفه، أم مجرد كراكيب وأطلال عشوائية من زمن فات، تعيش حالة تنافس وصراع مع اثاث حديث ينازعها على وجودها ذاته.

لذلك ... من المقلق أن نجد المعلومات المتواترة عن لجان التحضير للمؤتمر  تتحدث بإسهاب عن الصحف ورقية ام الكترونية، تكسب أم تخسر، تتنافس كلية أم  تتحد في الموارد وتتنافس في المنتح والمحتوى، إلى غير ذلك، قبل أو ربما دون أن تتحدث عن روح المهنة المنزوعة من بين ضلوعها، وأخشي أن يستمر التحضير علي هذا النحو المفصول عن المدخل السليم لمناقشة القضية، فينجرف بها إلى التفاصيل الفرعية، التي تتجاوز وتقفز على المبدأ الرئيس الذى يحتوى هذه التفاصيل ويضبط حركتها. 

بعبارة أخرى، كل نقاش يتناول الصحافة قبل أن يتصدى أولا بالجرأة والموضوعية والشجاعة المطلوبة لقضية الحريات، هو نقاش عن جسد أو جسم روحه منزوعة، أو مخنوقة، أو في النزع الأخير، ولا طائل من أي حديث يقال خلاله عن تحديات المهنة ومستقبلها وفرص نجاحها، سواء كانت المهنة تمارس على الاحجار وأوراق البردي، أو عبر تطبيقات ويب من الجيل الثالث أو تطبيقات محمولة تعمل بأدوات الذكاء الاصطناعي.

بدون الحرية نكون امام صحافة تلامس هامتها الأرض، فاقدة للقدرة على الحركة، وغائب عنها رونقها وحيويتها وكل ما يلزم لجعلها تحوز ثقة واحترام زبائنها كافة، حتى لو كانت تنشر في الدقيقة ألف خبر او مادة، وكل حديث او كلام عن تأثيرها ووجودها ودورها في ظل غياب الحرية، هو حديث يعلم قائلوه قبل غيرهم أنه كلام استهلاكي لأغراض بعيدة عن الواقع الفعلي، وغير صحيح بالمرة.

الحديث عن الجروح التي اصابت جثة بلا روح لا يجدى نفعا، والبحث فيما إذا كانت ورقية أم رقمية أم حجرية، هو لف ودوران عبثي حول لب القضية وقوامها الرئيس وقوتها الناظمة.

دعونا نتنفس أولا، ثم ناقشوا ما إذا كنا نستطيع القيام من رقدتنا وعثرتنا بتثاقل أم سنقفز بحيوية.

 أخرجونا من الاحتجاز داخل الحوائط، وارفعوا عنا المشي قهرا وقسرا بجوارها خجولين قلقين من يد باطشة تتربص بنا، ثم ناقشوا ما إذا كنا نستطيع المشي متعثرين، أم سننطلق عدوا في نهر الطريق.

لا يستطيع المقيد بالحبال السباحة أو حتي البلبطة في بانيو منزله، ولا يستطيع المخنوق التنفس ولو على قمة الجبل أو في عرض البحر.

يعلم الكثير من الزملاء أنى استخدم التقنية وأدوات العالم الرقمي والمعلوماتية، بل وأشارك في صنع بعض منها منذ العام 1995 مع صدور صفحة لغة العصر بمؤسستنا العريقة الأهرام وحتي هذه اللحظة، وقضية الصحافة الرقمية واقتصاديات الصحافة وبعض جوانبها القانونية هرستها بحثا وممارسة بأوجهها العديدة منذ ذلك الوقت، حينما كانت مجلة لغة العصر التى أسستها ورأست تحريرها ما يزيد على 12 عاما تعمل بنظم داخلية لا ورقية ووفق نموذج عمل مختلف، بدءا من صدورها في العام 2000، واستطيع بسهولة تدبيج مقالات ودراسات حول القضية، من جوانبها التقنية والإدارية والقانونية والمهنية والاقتصادية والمهارية، بل ووضع تحليلات اعمال وتحليلات تقنية ونماذج عمل، حول محتوى صحفي تفاعلي فورى، يخرج من غرف اخبار هجين، تتعامل في محتوى متعدد الوسائط، وقائمة على تعدد مصادر المحتوي، وتمازج خطوط الإنتاج، وتنوع قنوات النشر، بين المطبوع والمواقع والمحمول ووسائل التواصل الاجتماعي وشرائط اخبار الفضائيات، والبث المخصص بشاشات الإعلانات بالشوارع، ومحطات المترو والحافلات والمطارات وردهات المولات.

لكن قناعتي التامة بعد ما يقرب من ربع قرن في معايشة صحافة التقنية وتقنيات الصحافة، أن لا جدوى من مناقشة القضية دون الحديث بالشجاعة والوضوح والإصرار والنضال من اجل الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية تداول وانسياب المعلومات، وغير ذلك أراه جهدا مشكورا ومحترما، لكنه حرث في الماء، لن يفضي إلى مهنة الصحافة التي نريدها وأفنينا فيها عمرنا، بل سيغرقنا جميعا في آلام وأوجاع جسد أو جثة هامدة او شبه هامدة، ترقد فاقدة الروح، مفاصلها مفككة، وهامتها على البلاط، في مرمى عجلات وأحذية شتى تأتيها من هنا وهناك، تدوسها وتثخنها بالجراح، وقد تسحقها سحقا وهي منبطحة لا يحس بها أحد، ومن دون ان يتحقق لها ما تستحقه من احترام ومصداقية.
-------------------------------
بقلم : جمال غيطاس
(نقلا عن صفحة الكاتب على موقع فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

المؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين وفخ