11 - 10 - 2024

جمال بدوي .. صحفياً ومؤرخاً

جمال بدوي .. صحفياً ومؤرخاً

يعد الأستاذ جمال بدوي من الكتاب الصحفيين الذين دخلوا مجال التاريخ من بوابة صاحبة الجلالة، وهو من جيل الوسط الذي تعلم من جيل الرواد أمثال: محمد التابعي، ومصطفى أمين، ومحمد حسنين هيكل، وعلي أمين، وغيرهم... وقد ظل يبدع ويعطي في المجال السياسي والصحفي والتاريخي ما يزيد على نصف قرن، واستفاد من تجارب سابقيه وطور منها، وسلك طريق الصحافة من المطابع ومن الديسك المركزي، ثم مارس كافة أنماط التحرير الصحفي؛ فأجرى الحوارات، وكتب التحقيقات والمقالات، ثم وجد ضالته في التاريخ في عصوره المختلفة، وكانت مصر حجر الزاوية في معظم كتاباته، فأبحر في التاريخ وهضم أحداثه، وأفرزت هذه الرحلة عن فصول تحولت إلى كتب رائدة، وقد عرف ما لوسائل الإعلام من أهمية لا تقل عن الصحف والمجلات، فقدم عصارة فكره في برامج كان يقبل الناس على مشاهدتها وحققت نجاحاً باهراً، واستفاد منها رجل الشارع العادي ثم المثقف والمتخصص.. 

وكان الأستاذ جمال بدوي صادقاً مع النفس، يطبق ميثاق الشرف الإعلامي بحذافيره، لم يلجأ إلى الإثارة والطرق الملتوية، وكان حسن السيرة متواضعاً إلى أقصى درجة، واستفاد من تجربته العشرات من الصحفيين الذين أخذ بأيديهم وذلل لهم العقبات، وقد أخبرني أحد الكتاب الصحفيين الكبار أنه كان كان يجعل المحررين يقسمون على المصحف بأن الأخبار الواردة في أعمالهم ليس بها ثمة زيف أو تدليس ..

حياته ونشأته:

ولد محمد جمال الدين اسماعيل بدوي في مدينة بسيون التي تتبع محافظة الغربية يوم 12 من فبراير عام 1934.. وكان والده تاجراً معروفاً بالبلدة، وقد توفي هذا الوالد وعمر كاتبنا لم يتجاوز السادسة، وتولته أمه بالرعاية وصممت على تعليمه، وفي جمعية المحافظة علي القرآن الكريم ببسيون تلقي جمال بدوي علومه الأولي مع حفظ القرآن، وبعد حصوله علي الشهادة الابتدائية انتقل إلي التعليم الثانوي بمدينة طنطا، وحصل على شهادة البكالوريا، وكان يزامله في المدرسة عمرو موسى وزير الخارجية والأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق، ثم التحق بقسم الصحافة في كلية الآداب جامعة القاهرة، وتخرج فيه عام 1961، وكان من رفاق دفعته: مصطفي شردي، وسناء منصور، وعبدالوهاب مطاوع، وعباس الطرابيلي، وقد تلقى العلم على أساطين الأساتذة من أمثال: أستاذه مصطفى أمين الذي كان منتدباً لإلقاء بعض المحاضرات في هذا القسم الوليد، وكانت علاقة أمين بطلابه ليست مجرد أستاذ يلقي مجموعة من المحاضرات أو الدروس النظرية لكي يمتحنوا فيها آخر العام، وإنما كان يكلفهم بتنفيذ مشروعات صحفية لتكون بمثابة تدريب علي ممارسة العمل الصحفي، وكان يمنح مكافأة مالية لأفضل المشروعات، وكان جمال بدوي يفوز فيها بالمرتبة الأولي، وأعجب به مصطفى أمين فكان ضمن مجموعة الطلاب الذين اختارهم للالتحاق بدار "أخبار اليوم" وهو في السنة الثانية من الدراسة الجامعية، وذات يوم اتصل مصطفي أمين، بأحد كبار مساعديه وهو الكاتب الصحفي عبدالسلام داوود، وقال له: أنه سيبعث له أفضل طلابه لكي يلتحق بقسم الأخبار.. ومنذ هذه اللحظة بدأت رحلة جمال بدوي في بلاط صاحبة الجلالة، ومع كتاباته بأخبار اليوم.. شارك بالكتابة في العديد من الصحف والمجلات العربية والمصرية مثل: "الجمهورية"، و"الاتحاد"، و"الشرق".. وشارك جمال بدوي في تأسيس صحيفة "الوفد" التي تصدر عن حزب الوفد الجديد عام 1984 مع صديقه الراحل مصطفي شردي، وكان مديراً لتحريرها، بالإضافة إلي أنه قدم 304 حلقات من سلسلة: "المصور.. شاهد عيان علي الحياة المصرية" في مجلة المصور .. وقد بدأ في كتابتها حتي رحيله في اليوم المتمم لعام 2007. ونشر بعضها في كتاب بهذا الاسم صدر عام 2004 عن دار الهلال. كما تولى رئاسة التحرير حتي عام 1999.. ثم كان أول رئيس لتحرير جريدة "صوت الأزهر" التي تصدر عن مشيخة الأزهر.

 مؤلفاته:

أثرى الأستاذ جمال بدوي المكتبة العربية بالعديد من الكتب التاريخية والثقافية، فبلغت مؤلفاته حوالي عشرين كتاباً في الفكر والتاريخ، منها: "في محراب الفكر"، و"محمد على وأولاده"، و"مسرور والسياف.. وأخوانه"، و"مسلمون وأقباط من المهد إلى المجد"، و"في دهاليز الصحافة"، و"الطغاة والبغاة"، و"مصر من نافذة التاريخ"، و"مسافرون إلى الله بلا متاع"، و"الوحدة الوطنية بديلاً عن الفتنة الطائفية"، و"حدث في مصر"، و"معارك صحفية"، و"المماليك على عرش فرعون"، و"حكايات مصرية"، و"أنا المصري"، و"من عيون التراث" وغيرها.

معارك ومواقف:

خاض جمال بدوي غمار العديد من المعارك الصحفية التي ساهم فيها بقلمه الجريء الحر، ومنها: معركته الشهيرة ضد الصحافة الصفراء وما تنشرة من أخبار كاذبة تضر بسمعة الوطن والشرفاء, وعلى أثر هذه المقالات اجتمع الرئيس محمد حسنى مبارك ولأول مرة مع عدد من الكتاب والصحفيين لبحث هذا الأمر مستشهداً ومشيداً بمقالات جمال بدوي فى نقده الشديد للصحافة الصفراء، وكذلك نذكر معركته ضد قانون اغتيال حرية الصحافة رقم 93 لعام 1995 والتي انتهت بالانتصار لحرية الصحافة.

في بلاط صاحبة الجلالة

   دخل جمال بدوي بلاط صاحبة الجلالة من بوابة القراءة، قبل أن يخطر بباله أن يكون صحفياً، ففي سن العاشرة شغف بقراءة كل ما يتسنى له من صحف ومجلات، وقد أخذ هذه العدوى من ابن عم له كان يكبره بثلاثين عاماً وكان مشغولاً بالسياسة ومعاركها، ونصيراً متشدداً لحزب الوفد، وكان في الصباح يقتني جميع الصحف من البائع الوحيد في بلدته، ثم يعيدها إليه آخر النهار مقابل قرش واحد، وبدأت عينه تتفتح على هذا العالم الواسع العريض خارج حدود بلدته الصغيرة، وأدرك أن هناك قضايا أضخم وأكثر جاذبية من القضايا المحلية المحدودة، وبدأ عقله الصغير ينشغل بما يجري في المحيط المصري العالمي، ويحفظ أسماء المشاهير من وزراء وزعماء وصنع لنفسه كراسة سجل فيها أسماءهم ومراكزهم فكانت بمثابة أرشيف خاص يعود إليه عند اللزوم.

وفي الصف الثاني الثانوي قرأ في مجلة "المصور" حديثاً مع ولي عهد أثيوبيا.. تحدث فيه عن هوايته الصحفية منذ أن كان يدرس في لندن، وصنع جمال بدوي لنفسه مجلة من ورقة واحدة يبث فيها خواطره وشجونه، فكان كاتبها وقارئها الوحيد، فأعجبته الفكرة فأخرج ورقتين متقابلتين من كراسة الخرائط، وجعل منها مجلة مدرسية تحوي أخباراً عن المدرسين والطلاب وانتقدت إهمال المسئولين في المدرسة عن إصلاح نوافذ الفصول وأبوابها المخلعة وقذارة دورة المياه.. 

وأعجب ناظر المدرسة بجمال بدوي واقترح عليه طباعة المجلة ولمعت الفكرة في ذهنه واستكتب المدرسين وأطلق على مجلته اسم "المجد"، وطبع منها ألف عدد في ثماني صفحات من حجم "التابلويد"، ونفذ العدد فور صدوره، وقد صدر من هذه المجلة أربعة أعداد كانت الإرهاصات الأولى التي قادته إلى بلاط صاحبة الجلالة، وعندما التحق بكلية الآداب قسم الصحافة، وأثناء دراسته اختاره مصطفى أمين للعمل في "أخبار اليوم"، وكان شعلة نشاط.. عمل الكثير من (الخبطات) الصحفية مع أهل الفن، وأجرى حواراً باهراً مع الأميرة علياء المنذر والدة الفنانة أسمهان والفنان فريد الأطرش، وكتب أيضاً تحقيقاً عن "زقاق المدق" الذي استوحى منه نجيب محفوظ روايته "زقاق المدق"، وأجرى حوارات مع أهل الزقاق"، ومنهم من أخبره بأنه قريب الشخصية الفلانية التي ظهرت في الفيلم؛ لأن الرواية تحولت إلى فيلم سينمائي وشاهده أهل الزقاق، وقد أعجب به الأديب نجيب محفوظ قبل نشره لما عرض عليه هذا التحقيق ونشر بأخبار اليوم، وكان أول تحقيق يحمل اسمه، من المفارقات التي حدثت أنه بعد نشر التحقيق أن استدعاه الأستاذ أحمد بهاء الدين، وقدم له وهو يضحك برقية من الأستاذ نجيب محفوظ أعلن فيها براءته من كل ما جاء في التحقيق الصحفي، وأن ما جاء على ألسنة أهل الزقاق هو محض اختلاق ولا علاقة له بالنشاط الأدبي.

 كما شاهد بدوي لحظة مقتل السفاح محمود أمين سليمان، الذي كتب عنه نجيب محفوظ رواية (اللص والكلاب)، وقد ركب السيارة التي تقله إلى المشرحة، ومن المواقف الطريفة التي رافقت الحدث أنه في اليوم التالي صدرت صحيفة الأخبار تحمل في صدر صفحتها مانشيت (مصرع السفاح) وتحته مباشرة مانشيت آخر (عبدالناصر في باكستان)، وكان عبدالناصر وقتها يقوم بزيارة رسمية إلى باكستان، وأغفل رئيس التحرير أن يضع خطاً فاصلاً بين السطرين مما جعلها جملة واحدة (مصرع السفاح .. عبدالناصر في باكستان)، وكانت غلطة غير مقصودة بالطبع، ولكن الذين تعودوا الصيد في الماء العكر، أوحوا إلى عبدالناصر أن مصطفى أمين يعبر عن مكنون نفسه بهذا الأسلوب الإيحائي، ويمهد نفسية الجماهير للقضاء عليه. وترسبت هذه الواقعة في نفس عبدالناصر وجعل منها ذريعة لتأميم الصحافة بعد أسابيع من هذه الواقعة.

انتدب جمال بدوي عام 1972- مع زميل دفعته ورفيق دربه مصطفى شردي - إلى دولة الإمارات العربية المتحدة لإصدار صحيفة "الاتحاد"، وعاد عام 1981 إلى أخبار اليوم، وشارك عام 1984 في تأسيس صحيفة "الوفد" مع الراحل مصطفى شردي وعمل مديراً للتحرير، ثم رئيساً للتحرير عام 1989، وكان له مقال ثابت في جريدة "الوفد" المصرية تحت عنوان "كلام في العضم". بعدها استقال من رئاسة تحرير الوفد، وعاد إلى "أخبار اليوم"، وتخصص في كتابة الدراسات التاريخية في صحف مؤسسة "أخبار اليوم"، ومجلة "المصور" بدار الهلال، و"الجمهورية"، و"الاتحاد" الإماراتية، و"الشرق" القطرية.

وعندما تأسست جريدة "صوت الأزهر" عام 1999، تولى رئاسة تحريرها وبدأ فيها بداية قوية، واستكتب فيها كل العلماء والكتَّاب من كافة التخصصات، وكان يكتب فصلاً تاريخياً في صفحة كاملة، أشهرها ما كتبه عن السلطان محمد الفاتح، وأهم الأبواب التي حرصت الجريدة في سنواتها الأولي عمل حوار شامل مع أحد العلماء ومعه أسرته من أمثال ما تم مع الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي، والدكتور محمد عمارة، والدكتور محمد المسير.. وغيرهم.

جمال بدوي مؤرخاً:

دخل جمال بدوي مجال التاريخ من بوابة الصحافة - كما ذكرنا - وعمل على تبسيط التاريخ وهضم عصوره من المصادر التاريخية، وإبراز هذه العصارات في فصول تاريخية استفاد منها المتخصص قبل القارىء العادي. وقد كتب حلقاته بنظرة معاصرة من العصر الفرعوني وحتي العصر الحديث مروراً بحقبه المختلفة، والجميل أنه يستحضر التاريخ بلغة الحاضر.. ويكشف عن مكامن القوة والضعف في الانسان من خلاله.. ويقدم صور الانتصار والانكسار في وقت واحد.. حيث ينتمي بتفسيره إلي مدرسة تنظر إلي التاريخ علي أنه أداة للازعاج واليقظة والوعي والتنوير.. فقد قدم فصولاً ممتعة استخلصها من خلال عملية تنقيب في تاريخنا الإسلامي. وهو يشير إلي أنه رغم أن التاريخ يتحدث عن الماضي إلا أنه سيهدينا إلي المستقبل.. فهو ذلك المنصف المرشد المثقف الذي يطوف بنا المتاحف والمساجد والمعابد والمقابر، ويأخذنا إلي آثار الأقدمين لنري وندرس ونتعلم منهم كيف ارتفعوا إلي الذرى العالية، ولماذا هبطوا إلي السفح.. فنضع أيدينا علي عوامل السمو والرفعة والقوة.. وندرك أسباب السقوط والتدهور والانحدار.. وتلك هي القيمة العظمي للتاريخ .. العبرة من الماضي والتفكير في الحاضر والتطلع إلي المستقبل. من المهد إلي المجد.

كان جمال بدوي على قدر المسئولية الوطنية حينما دعا إلى توحيد الصف الوطني بين عنصري الأمة، وذلك في كتابه "مسلمون وأقباط من المهد إلي المجد"؛ هذا الكتاب البديع الذي يمثل قيمة فكرية كبيرة فهو يتجاوز معني الوحدة الوطنية إلي الأصل الواحد والنسيج الواحد.. محذراً من خطورة الفرقة التي تأخذ من مكانة مصر ودورها في الحاضر والتاريخ. فهو يقول: "ما أكثر الشعوب التي لم تصمد أمام عوادي الزمن وقوي الشر، ولك أن تسأل: أين الأشوريون، والأكاديون، والكنعانيون، والبابليون، وكل الشعوب التي واكبت مسيرة المصريين القدماء؟!!.. لن تجد لهم ذكراً إلا في الكتب المقدسة، فهي شعوب بادت بفعل التآكل الذاتي أو النقمة الإلهية أو بفعل قوي قاهرة.. لكن هؤلاء المصريين الذين عاشوا علي ضفاف النيل ولا يزالون، فقد ذهب الدخلاء والأغراب وبقيت مصر. فما السر الذي حفظ للمصريين هذا الربيع الدائم والوجود الأدبي والتواصل التاريخي.. السر يتلخص في تعويذة واحدة اسمها "الوحدة الوطنية"، ومن حقنا نحن أحفاد الأقدمين أن نتعرف علي الأجداد الذين شكلوا نواة مصر البشرية"، ويستشهد جمال بدوي بالمفكر جمال حمدان في عبارة محددة يضعها في إطارها الصحيح: "أن معظم المصريين أو الكثير منهم اليوم إنما هم معظم الأقباط المصريين الذين أسلموا بالأمس بمثل ما أن أقباط اليوم إنما هم بقية قبط الأمس الذين استمروا علي عقيدتهم السابقة، ومعني هذا أن كلمة قبط مرادفة لكلمة مصري، وعلي أية حال فقبل أخوة الدين والعقيدة وعوضا عنها.. هناك أخوة الوطن.. فالكل مصريون قبل الأديان وبعدها.. وإذا صح التعبير الشائع عن الزواج الطبيعي بين أرض مصر وفيضان النيل فإنه من الصحيح أيضا أن ثمرته هي المصريين جميعا فالنيل أبوهم ومصر أمهم" . 

 ويشير بدوي إلي رأي الدكتور وليم سليمان قلادة صاحب كتاب "مبدأ المواطنة": أن التعددية الدينية في مصر بدأت في عام 640م مع لقاء عمرو بن العاص والبابا بنيامين بطريرك الكنيسة القبطية.. وأن أساس اللقاء احترام كل طرف لعقيدة الآخر أي تعايش العقيدتين الدينيتين معا لا يستبعد أحدهما الآخر، وأنه بدخول الإسلام أضيف عنصر جديد إلي مقومات الكيان المصري.

ويقول جمال بدوي تحت عنوان "القرآن في بيت عم صليب": "حفظت أوليات سور القرآن الكريم في بيت عم صليب، وكان من أعيان الأقباط في بسيون ولم يجد حرجاً في أن يؤجر بيته لجمعية المحافظة علي القرآن الكريم، وكانت فصول المدرسة لا تخلو من تلاميذ يحملون أسماء: مرقص، وجرجس، ومسيحة، وسمعان.. كنا نجلس معاً فوق دكة خشبية متهالكة لحفظ القرآن، ونتعلم القراءة والكتابة والحساب، ونتلقي من أفواه مشايخنا مباديء الحب والإخاء، ونتفاعل في بوتقة الامتزاج الحضاري الذي ورثناه عن أجدادنا من آلاف السنين".

وفي كتابه "محمد علي وأولاده" ينقلنا جمال بدوي إلي مصر الحديثة التي ولدت مع مطلع القرن التاسع عشر.. وهو يضع محمد علي في مكانه مستشهداً برأي المؤرخ عبدالرحمن الرافعي الذي يعترف بأن عصر محمد علي يمثل صفحة مجيدة من صحائف الحركة القومية.. ففيه نشأت الدولة المصرية الحديثة، وفيه تحقق الاستقلال القومي، وشيدت الدعائم الكفيلة للقيام به.. فيه تأسس الجيش المصري والأسطول المصري والثقافة المصرية.. وفيه وضعت أسس النهضة العلمية والاقتصادية للبلاد. وهو يقدم محمد علي بصورة أخري مناقضة لذلك أيضاً مستشهداً بوصف المفكر جمال حمدان فهو: "آخر المماليك العظام وأول الفراعنة الجدد"، والذي أتي به مزيج من الثورة الشعبية والانقلاب العسكري.. وجاء بنظام سياسي هو مزيج من الفرعونية والمملوكية ليصبح نسخة جديدة من الطغيان وعلما حديثا علي الأوتوقراطية المطلقة. وجمال بدوي بنظرته الموضوعية يقول: "وسواء صحت نظرية هؤلاء أو أولئك.. فإن العدالة في تقويم العظماء تقتضينا أن نحكم عليهم بمقاييس عصرهم وليس بمقاييس عصرنا وأن نفهم الظروف التي عاشوا فيها.. وكل هذا يتطلب أن ننتقل بعقولنا إلي العصر الذي كانت فيه مصر قبيل ظهور محمد علي لنحدد مقدار المكسب أو الخسارة من خلال المقارنة بين مصر القرن الثامن عشر ومصر القرن التاسع عشر. 

ثم كانت جهود جمال بدوي في تقديمه للعديد من البرامج الثقافية والتاريخية في الإذاعة والتليفزيون؛ حيث عرف ما لها من تأثير على الجمهور، فقدم العديد من البرامج، ومن أشهرها: "حكايات مصرية"، و"قطائف"، و"من ذاكرة الكاميرا"، و"ستائر النسيان"، وكان يتميز حديثة بالبساطة وسلاسة الحكى وعمق الثقافة وغزارة المعلومات.

جمال بدوي والمحن:

مر جمال بدوي طيلة حياته الإنسانية والصحفية بكثير من الأحداث الصعبة والمعاناة حيث توفي والده وهو مازال طفلاً صغيراً فتولى هو رعاية والدته وشقيقته الوحيدة، وتزوج جمال بدوي عام 1949 وهو في سن صغيرة من ابنة خاله، وظلت الزوجة الصغيرة (17 عاماً) مقيمة مع والدة زوجها بمدينة بسيون لرعايتها وتربية أطفالها الصغار في الوقت الذي كان فيه جمال بدوي يقيم بالقاهرة للدراسة بالجامعة، وفي أثناء الدراسة الجامعية وحتى بعد التخرج والعمل بالصحافة تعرض جمال بدوي لمرات عديدة من الاعتقال والمطاردات بسبب كفاحه وآرائه الجريئة المطالبة بالحرية والديمقراطية، وتسبب هذا الوضع في مشاكل كثيرة ومتاعب للأم الصغيرة التي كان عليها أن تسافر عدة مرات ما بين القرية والقاهرة وهي تحمل على كتفيها ثلاثة أطفال للبحث عن الزوج والأب في المعتقلات .

وبسبب رعاية الزوجة والأم لأسرتها الكبيرة وتحملها الكثير من المشاق ودفعها لزوجها نحو النجاح الدراسي تفوق جمال بدوي في دراسته .

وقد تعرض جمال بدوي للعديد من الأزمات الصحية التي دخل على آثرها المستشفى لعدة مرات حيث أصيب بجلطة في المخ وعانى من أمراض الضغط والسكر، وقد أفاضت عليه زوجته الوفية بكل الحب والرعاية والاهتمام .وتعرض جمال بدوي وزوجته لمحنة كبيرة ومأساة حزينة حيث أصيب ابنهما الأول (إسماعيل) بمرض خبيث في الكبد، وبعد عدة أعوام من المعاناة والألم توفي نجلهما البكري... ولكن ظلت الأسرة على إيمانها وتماسكها وقبولها بقضاء الله وقدره .. وبعد حوالي خمسة أعوام تكررت المأساة مرة أخرى حيث فقدت الأسرة ابنها الثاني "سيف" بنفس مرض شقيقه الأكبر بعد معاناة طويلة مع الألم ... واحتسبت الأسرة عند الله مصابها، وظلت على تماسكها وصمودها وإيمانها رغم هاتين المحنتين .

بعد مرور خمسة أشهر على وفاة الابن الثاني للأسرة عاود ملك الموت زيارته للأسرة ولكن في هذه المرة في عميدها ورأسها جمال بدوي، حيث أصيب فجر يوم 31/12/2007 بأزمة قلبية توفي على أثرها بعد أن أصر وهو يصارع الموت في غرفة نومه على الانتقال إلى غرفة مكتبه ليلقي نظرة وداع أخيرة على كتبه ومكتبته العظيمة وبعد أن أطمأن عليها رحل عن الدنيا وهو في أحضان زوجته الوفية..

صور من التكريم:

وخلال مشواره الطويل في بلاط صاحبة الجلالة لقب جمال بدوي بعدة ألقاب منها: شيخ الصحافة المتحرر، والحارس على ذاكرة الأمة، وجبرتي العصر راهب الفكر والقلم.. كما صدر عنه العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت مشواره الصحفي وأسلوبه المهني الذي كان يدرس في أقسام الصحافة بالمعاهد والجامعات، كما أصدر عنه صالون غازي الثقافي العربي كتاباً ودراسة ضمن سلسلة المبدعين العرب بعنوان "جمال بدوي .. الوجه الجمالي للشخصية العربية" للدكتور عادل عوض.

وقد نال جمال بدوي العديد من مظاهر التكريم، فقد حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى سنة 1995 عن عطائه الغزير، وجائزةأفضل مقال نشر على مستوى العالم العربي لعام 1996 من جريدة "الشرق الأوسط"، كما حاز كتابه "أنا المصـري" على أوسكار أفضل كتاب بالمعرض الدولى للكتاب عام 2004 .
-----------------------------
بقلم: أبوالحسن الجمال  
* كاتب ومؤرخ مصري

مراجع المقال: 

- أحاديث أجراها الباحث مع ابنته الأستاذة إقبال جمال بدوي، وزوجها الأستاذ إسماعيل.

- عادل عوض، "جمال بدوي الوجه الجمالي للشخصية العربية" سلسلة كتب صالون غازي الثقافي، الكتاب الثالث، القاهرة، 2007. 

- إضافة إلى كتب جمال بدوي ومجموعة من مقالاته.