18 - 09 - 2024

محمود فطين السيسي لـ "المشهد": أرفض شيطنة ثورة يناير

محمود فطين السيسي لـ

- يكفي الثورة أنها أبطلت سيناريو التوريث واعترف بها الدستور  

يعتبر كتاب "أشباح يناير" الصادر حديثا عن دار "المرايا"، هو العنوان الثالث للكاتب الطبيب محمود فطين السيسي خريج طب القاهرة، والذي قدم من قبل مجموعتين قصصيتين، هما "المركب بتغرق يا قبطان"، و"كلنا عبده العبيط" ونال عن الثانية جائزة تقديرية خاصة من مؤسسة ساويرس الثقافية اعترافا بموهبته المتفردة. 

وفي كتاب "أشباح يناير" يطرق محمود فطين السيسي إلى الكثير من المسكوت عنه بخصوص ثورة 25 يناير 2011، وغيرها من ثورات الربيع العربي التي حاولت الخروج من شرنقة افتقاد العدالة الاجتماعية، ورسوخ الاستبداد السياسي وما يتبعهما من فساد، وتراجع في قيم حرية التعبير، والكثير من حقوق الإنسان. الكتاب الذي يتألف من 320 صفحة من القطع المتوسط يقدم تشريحا لصدمة الخروج نحو النور بحلم لم يكتمل، ويستعرض عوالم ورؤى سياسية واجتماعية وثقافية ترتبط بالثورة المجهضة. 

يضم الكتاب ثمانية فصول وخاتمة تناقش مواقف التيارات الدينية والعلمانية من الثورة، ومراوحتها مابين الأمل في استعادة الوعي، والصدام مع أليات البيروقراطية والخطاب الرجعي.  محمود فطين السيسي الكاتب والقاص والباحث، درس الطب ويمارسه، يجيب في هذا الحوار، عن الكثير من الأسئلة الشائكة فيما يخص الثورة بعد مرور نحو 13 عاما ونصف على اندلاعها، وفيما يتعلق باقترابه من الشباب الذين شاركوا فيها، بالإضافة لعلاقته بالسياسة عموما وانعكاس ذلك في عمليه الإبداعيين. 

* سألته بداية: لماذا "أشباح يناير" الآن؟ وهل كان هناك تعمد لاختيار التوقيت في ظل الظرف السياسي الراهن؟ ولماذا كل هذه المطاردات والنفي لكل ما ارتبط بالثورة في مصر؟

- كان هناك بعض التأخير الاضطراري في البحث، في البداية كنت أريد أن أنجز هذا الكتاب بحلول الذكرى العاشرة للثورة ولكن ثبت لي عدم إمكان ذلك، ربما لضخامة المهمة وربما لأني في الأساس لست باحثا محترفا أجيد وضع إطار زماني للمشروع؛ ولأني أيضا أعمل عليه إلى جانب كتابات أخرى أدبية، وإلى جانب العمل المهني طبعا الذي لا يمكنني الاستغناء عنه، والمشروع كان كبيرا حقا، فمثلا عندما نتناول بالدراسة وائل غنيم وصفحة "كلنا خالد سعيد" وجرافيتي الثورة، يغريك الأمر بالتطرق ولو قليلا للمتغيرات التي أحدثتها ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وهو مبحث يستحق كتبا لا كتابا واحدا. كما يغريك الجرافيتي بالبحث في تأثير الصورة وعلاقة ذلك بوسائل التواصل نفسها، وهكذا. البحث مثلا في روابط الألتراس يجعلك بالضرورة تتطرق إلى سهولة تكوين الجماعات الاحتجاجية بالمقارنة بصعوبة تكوين جماعات سياسية منظمة كالأحزاب (وهو أيضا أمر يستحق بحثا مستقلا وإن كان قد أنجز فعلا بعنوان "أحزاب ثورة يناير" صدر عن دار المرايا أيضا مثل كتابي). وبالبحث في الأفكار السياسية السائدة لدى جيل الثورة لا بد أن نلاحظ حالة متوترة من الاستمرارية مع ثقافة المجتمع قبل الثورة، نلاحظ غياب القطيعة المعرفية بين ما بعد الثورة وما قبلها، نلاخظ أن الثورة كانت لها رموزها وفنها ومعاركها، ولكن لم يكن لها عقل خاص بها مختلف كثيرا (ليس بالضرورة كليا) عن عقل المجتمع، هذا يؤدي بطبيعة الحال إلى أن يكون سقفها الفعلي منخفضا رغم أن شعاراتها عالية السقف للغاية، وعدم انتباه الغالبية لهذا التناقض بين الشعارات والأهداف الطموحة إلى أبعد حد وبين الإمكانيات الضئيلة موضوعيا، هو أيضا موضع بحث يسلمنا في النهاية إلى أننا لم نكن نمتلك -لا قبل الثورة ولا أثناءها ولا بعدها حتى الآن- عقلا علميا ندرك به الواقع كما هو، لا كما نتمنى، ما أوصلنا في نهاية الكتاب إلى أن نتناول الكتابات السياسية لاثنين من رموز الثورة أحدهما مع الإسلام السياسي والآخر ضده ظاهريا (محمد يسري سلامة وعلاء الأسواني بالترتيب)، ونكشف عن التشابه العميق بينهما رغم ما يبدو على السطح من تناقض هو واقعيا جزئي، وهذا ما فرض في النهاية أن يستغرق فصل للبحث عن علاقة الثورة بالدين وموقفها من العلمانية حوالي ثلث الكتاب تقريبا، كان هناك الكثير من التفاصيل ولكن معظمها ضروري في مكانه، وكانت المراهنة هي أنني كقاص في الأساس أستطيع ألا أكون مملا.

ضرورة الثورة

يضيف محمود فطين السيسي: "الثورة كانت ضرورة رغم كل ما نقدمه من نقد لها في الكتاب، ولكن البعض الآن  يتناسون ما كنا متجهين إليه لو تم التوريث بنجاح. دعنا نؤكد أنه كان سيكون أقبح من الحالي بكثير، وكل ما لا يعجبك الآن كان على أجندة الابن أضعافه. والبعض الآخر ملكيون أكثر من الملك، يطلبون الرضا السامي للرئيس عبر شيطنة الثورة التي يعترف بها دستور البلد والرئيس نفسه أيضا، وإن كان بطبيعة الحال يشير في خطابه عنها إلى اعتبار يمكننا أن نتفهمه: أن هناك فرقا بين أن الثورة كانت ضرورية لإنهاء الحكم العائلي، وبين أن نعتمدها أسلوبا لمواجهة كل المشكلات أو كل اختلافاتنا مع النظام الحالي أو أن نحاول إعادتها كل بضع سنين، طبيعي أن ذلك أمر غير مفيد عمليا ولا هو ممكن أصلا".


*هل يمكننا القول إنك استشرفت الثورة في مجموعتك القصصية"المركب بتغرق يا قبطان"؟ 

- نعم، هذه المجموعة كانت فعلا استشرافا لانهيار النظام وقتها واحتضاره البطيء المعاند، أذكر مثلا أنها تضمنت نصا يصف مسؤولا رفيع المستوى مات على كرسيه وتيبَّست جثته ولم يجرؤ أحد على أن يدخل عليه مكتبه إلى اليوم التالي ولم يستطيعوا فك الجثة عن الكرسي فاضطروا لحمله به في نعش مربع ودفنه معه وسط طوفان من التساؤلات، ومع هذا الاحتضار لم يكن أمام أعيننا بديل يولد، قادر على ما هو أكثر من مجرد الاحتجاج، هذا المأزق عملت عليه لسنوات طويلة فجاءت مجموعة "كلنا عبده العبيط" المكتوبة وقت الثورة وبعدها بقليل، راصدة لحالات من العجز والتخبط يعانيها الجيل، تتناقض مع ما نزعمه لأنفسنا من قدرات وانتصارات، ولكن المجموعة قدمت هذا ومعه في النهاية شيء من الأمل في أن هذا العجز ليس قدرا حتميا وربما يمكن تغييره على أيدي من هم خارج المشهد تماما ومن لا نلقي لهم انتباها، ونفس المأزق بنفس الروح عملت عليه علميا- أو حاولت على الأقل - في كتاب "أشباح يناير"؛ لأجيب أساسا على سؤال رئيسي هو: لماذا كانت النهاية هكذا؟، والآن أنتظر نشر مجموعة قصصية أخرى تحضر فيها متغيرات ما بعد عام 2013 ولكن من زاوية أبعد قد تكون غريبة نوعا ما، حيث المجموعة محورها هو الموت وكل نصوصها هي حكايات موتى، ولكنها قد تكشف كثيرا عن نوعية حياة صرنا نحياها قد لا يعتبر المرء أنه يخسر شيئا لو غادرها.

الطب والأدب 

* كان لك الجدارة في الفوز بجائزة خاصة (القائمة القصيرة لأفضل مجموعة قصصية في جائزة ساويرس عام ٢٠١٩)، ما هو تفسيرك لهذه الجائزة ولهذه الحالة من التكريم؟

- الجائزة قيمة حقا وإن كانت لا تخلو من مآخذ يمكننا الحديث عنها بتوسع عندما نتحدث عن دور الجوائز الثقافية عموما، ولكن في حالة مجموعة "كلنا عبده العبيط" ربما يمكننا اعتبار أن المجموعة في ذلك الوقت مثلت أسلوبا مغايرا للمعتاد بعض الشيء، بحضور الهم الاجتماعي وتساؤلات المستقبل مطروحة بتشكك ولكن دون حكم نهائي بالعجز، وذلك دون انفصال عن ذاتية الكاتب والشخصيات وبقدر من التجريب ربما يكون لا بأس به، أعتقد أن ذلك كان فيه قدر من الجدة وقت أن صدرت المجموعة فاستحقت به شيئا من الاحتفاء.

* كيف استفدت من دراستك للطب وممارسته في الكتابة الأدبية وأيهما أقرب لروحك ووجدانك وأيهما أثر في الآخر فيما يخص موقفك الوجودي؟

- كل من المجالين يفيد الآخر، الطب كعلم دقيق، متحرك، متغير، قائم على الأدلة، شامل المنظور من الجزئى إلى الكلي، يوسع كثيرا من أفق دارسه إن كان على استعداد لذلك فعلا، ذلك لو تحدثنا عن تأثير الدراسة فقط دون العمل المهني الغني بالدراما اليومية، والعلم نفسه كثيرا ما يحتاج إلى الخيال فنرى مثلا أمراضا أو متلازمات أو عمليات تستلهم أسماؤها من شخصيات روائية أو أحداث أسطورية وهكذا، وبالمقابل فالأدب يفيد في الممارسة العملية، فيمكن الطبيب من إدراك الإنسان في وجوده ككل اجتماعي وليس ككائن بيولوجي فقط، فيستطيع مثلا التعرف على الأبعاد الاجتماعية والثقافية للظواهر المرضية وعلاقات السببية بينهما وأيهما يؤثر على الآخر وبأي قدر، وهذا الإدارك عادة لا يتيسر للطبيب؛ ما لم يحط أولا بشيء من العلوم الإنسانية وعلى الأخص الفلسفة التي سيفاجأ البعض من ذكرها وكأنها بلا قيمة، رغم أنها واقعيا هي الأساس الذي تنبني عليه اخلاقيات المهنة أصلا، ويليها الأدب الذي ربما يمكن تلخيص علاقته بالطب بأنهما سويا محاولة للنظر إلى الداخل ولكن بأسلوبين مختلفين. وبالنسبة لي شخصيا أنا أعتمد على الطب طبعا كوسيلة للعيش، ولكني أفترض أن لو كانت الظروف مختلفة وكان يمكنني حقا العيش من الكتابة وحدها كنت أيضا سأظل أمارس الاثنين معا ويظل كل منهما وقودا لحركة الآخر.


تواصل الأجيال

* هناك احتفاء إنساني بالشاعر محمود قرني، حدثنا عن دوره في علاقتك بالكتابة وتحديدا بكتابك "أشباح يناير"؟

- أذكر عن العم محمود قرني رحمة الله عليه كلمة جميلة أن "الشاعر الكبير هو مثقف كبير"، وهو نفسه كان مثالا لصدق تلك الكلمة، حيث الشعر والفن عموما ليس موهبة خلق الجمال فحسب، ولكنه أيضا وعي ورؤية وانحيازات، قد تستطيع أن تكون شاعرا أو فنانا بالموهبة الفطرية وحدها، ولكنك لكي تكون كبيرا بحق فعليك أن تمتلك كل هذا بتمكن: الوعي والرؤية والانحياز والموقف بكل معانيه الجمالية والاجتماعية والسياسية أيضا. وهو ما يجعلك مثقفا ومفكرا كبيرا في الوقت نفسه، والكبير مثل عمنا محمود قرني يعرف قدره، ولأنه يعرف قدره فهو لا يخشى عليه، لهذا لا تجده يتآمر أو يحقد أو ينكر أحدا أو يستجدي أحدا، تراه ينزل الناس منازلهم، يدعم كل كتابة جيدة دون التفات لشخص صاحبها ويقدمها بحب للجمال وحده على مدار عقد ونصف، كتب عن كثيرين من جيلي مثلا ونحن لا نملك ما نكافئه به حتى ولو بمجرد الود أحيانا، حيث الناس ليسوا سواء في حفظ الجميل. لم يمهله العمر أن يقرأ كتاب "أشباح يناير" كاملا، ولكنه كان على علم بمشروعي هذا أثناء العمل عليه وكان دائم التشجيع له والسؤال عن إتمامه، قرأ مقدمة الكتاب قبل تفاقم أزمته الصحية وأشاد بها وقال إنها تبشر بكتاب جاد ومهم، وسواء لو رحل أو كان باقيا عند إصدار الكتاب، كنت سأرى إهداءه لاسمه واجبا.

* حدثنا عن الخارطة النقدية المصرية والعربية فيما يخص الاشتباك أو التعامل مع نصوصك الأدبية؟

- في مجتمع مثقل بالأزمات كمجتمعنا، لا يمكن أن تكون الثقافة - والنقد بالتبعية - بلا أزمات، تؤثر في أزمات المجتمع الأعم وتتأثر بها، تسبقها أحيانا وتلحق بها في معظم الأوقات، وبالتالي يعاني النقد كما نعاني جميعا سطوة التخلف وغياب العلمية لصالح عشرات من الاعتبارات الأخرى كسلطة المألوف والمستقر والاستسهال وروح العصبوية والشللية ما ينتهي في الأخير إلى العجز عن الإبداع، لا أعني غياب الإبداع بالكامل، وإلا كنا نتحدث عن مجتمع مات بالفعل، قدر ما أعني تهميشه، وهو ما يحدث في ثقافة مأزومة سواء للأدب أو للنقد. ومن هنا لا تجد أعمالا كثيرة جيدة ومبشرة ما تستحقه من الاهتمام بها والجدل معها، وأعتقد أن أعمالي تقع ضمن تلك الأعمال، رغم أني سعدت بكتابات كريمة مخلصة ذات قيمة كبرى لي حتى لو لم تكن كثيرة عددا، إلا أن هذا الكتابات تشهد لأصحابها لا للمشهد النقدي ككل.


الحلم بالخلاص

* هل ينتهي حلم الكاتب بالخلاص عندما ينتهي من كتابة نصه؟ 

- بالنسبة لي أعتبر أن عملي قد انتهى حين أنتهي من الكتابة وبعض المراجعة بعدها، لا أرضى تماما عن كل ما أكتب ولكن حين أصل إلى درجة معقولة من الرضا عنه - درجة أن أنساه وأستطيع قراءته من جديد كأني قارئ آخر فلا أجد فيه ما يثير استيائي- قليلا ما أعود إليه بتعديل فيما بعد. حينها أكون مرتاحا إلى أن هناك إنجازا ما قد قمت به، أما ما سيترتب عليه فليس لي فيه إلا التمني، سواء كان سيغير مثلا من الذائقة العامة والمعرفة السائدة أو سيثير أسئلة جديدة أو على الأقل يقدم شيئا من المتعة لمن يقرأه، كل ذلك أتمناه ولكن ليس لي أن أتولاه بنفسي، وهنا نصل إلى مشكلة لها علاقة بالسؤالين السابقين، إذ أن المفترض - بالنسبة لي على الأقل - أن المبدع يصل إلى خلاصه وتحققه حين ينجز نصه، ولكن في واقعنا نراه مسؤولا ليس فقط عن كتابة النص بل عن نشره وتسويقه والدعاية له وتقديمه لجوائز ولنقاد لا يبادر معظمهم من نفسه للجديد، وهنا كل شخص وما يراه وما يرتضيه لنفسه من أولويات.


* في ظل كوارث الحروب عبر الهوية والديانات والمعتقد وحتى الجغرافيا، كيف ترى مستقبل الأدب والفن؟

- رغم كل تلك الكوارث، سيظل الفن بنفس أهميته أو تزيد، ليس ذلك عن رومانسية ولكنه إقرار بحقيقة بسيطة هي أن الفن نتاج للانفعال والتساؤل وهما ملازمان للإنسان بالضرورة، فلا يمكننا أن نتخيل وضعا اكتملت فيه معرفة الإنسان بكل شيء فما عاد يرغب في السؤال عن المزيد، أو تبلَّد تماما فلم يعد ينفعل بحاضره ولا ماضيه أو مستقبله، لا أرغب في أن أردد كليشيهات، ولكن هنا يمكننا أن نستحضر قول بريخت: "في الأيام السوداء أسيكون هناك غناء أيضا؟" نعم، سيكون غناء عن الأيام السوداء، ولكن طبعا سيكون هناك متغيرات كثيرة، لعل أهمها الخفة والسرعة، لا يعني ذلك بالضرورة أن النصوص ستكون أصغر حجما قدر ما يعني أن الايقاع سيكون أسرع والنصوص أكثر تكثيفا وأقوى بصريا لكي لا تخسر المنافسة مع تدفق المثيرات والمشتتات ولكي تستطيع أن تعبر عن روح هذا العصر المغمورة بالقلق بما يعنيه هذا من تغيرات ضرورية في الشكل الفني، وبما يعيد الاعتبار لأجناس أدبية قيل سابقا أن الزمن القادم ليس زمانها ولكنها تبدو الآن مرشحة للنمو بشدة، وهي في تقديري القصة القصيرة وقصيدة النثر والنصوص عبر النوعية.


شجاعة النشر

*في إصداراتك الثلاثة كان هناك تعامل مع أكثر من دار للنشر. حدثنا عن تلك التجارب وتحديدا في كتابك الأخير؟ 

- في تجربتي الشخصية، كنت سعيد الحظ بالتعامل مع دور نشر جادة لها معايير حقيقية في عملها، سواء "الدار" أو "الثقافة الجديدة" في المجموعتين القصصيتين، أو "المرايا" في الكتاب غير القصصي، والأخير تحديدا لا تتحمس له من دور النشر إلا أسماء قليلة جدا، على رأسها المرايا، وهي صاحبة عدد كبير من العناوين المهمة جدا في السنين الأخيرة، والأهم أنها تجيد تسويق إصداراتها بنفس درجة جرأتها في اختيار هذه الإصدارات، وهو ما نفتقده في دور غيرها.

ورغم كل ذلك، إلا أن الوضع العام للنشر ليس جيدا، واضطرار الكاتب لدفع تكلفة نشر كتابه في أغلب الأوقات ليس وضعا سليما على الإطلاق -دون أن يعني ذلك إطلاقا أني ألوم الكاتب لأني شخصيا أدفع تكلفة نشر أعمالي- وفي الوقت نفسه لا ألوم أيضا دور النشر؛ لأن لا أحد يمكنه أن يداوم على المغامرة بتحمل تكلفة قد لا تسترد، وفي وضع كهذا لا يبدو حل إلا أن تدعم الدولة هذه الصناعة ولو حتى من المنطلق العملي البحت باعتبار المنتج الثقافي أيضا منتج يستحق دعمه كدعم المصدرين، إضافة إلى أن "تصدير" هذا المنتج بالذات يحمل فائدة للقوة الناعمة للبلد فوق فائدته الاقتصادية، ولتضع الدولة ما شاءت من شروط لضمان جدارة المستحقين.


الجوائز والنسوية

* في ظل كثرة وتعدد الجوائز في، مصر والعالم العربي، كيف ترى تلك العتبات أو القواعد أو الآليات التي تلجأ إليها لجان التحكيم فيما يخص مسألتي منح وحجب الجوائز؟

- أعتقد أني لا أذيع سرا حين أقول إن وجود جائزة محايدة تماما وبلا أي غرض سوى "خدمة الثقافة" فحسب، هو شيء ليس ممكنا إلا نظريا، يمكنني طبعا أن أصدق أن هذا المثقف أو ذاك في لجنة تحكيم أو أخرى خالٍ من الغرض، ولكن هذا لا يصدق على المؤسسات بنفس الدرجة، كل جائزة تهدف بطبيعة الحال لخدمة جهة مرتبطة بها سواء علنا أو سرا، وليس ذلك عيبا طالما لا تتقدم تلك الخدمة على اعتبارات قيمة الكتابة نفسها، ولكن هذه الموازنة بين الأمرين أراها عسيرة المنال في أغلب الأوقات، وعندما يكون الأمر هكذا أقول لنفسي ببساطة: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وهو نفس ما أقوله لأي أحد. فالأمر شخصي جدا، إلا في حالات نادرة يكون الارتياب فيها أكثر مما يمكن تحمله لأغلب من يحترمون أنفسهم، والأهم من كل ذلك، ولكي يمكن للمرء أن يرى كل ذلك أصلا، عليه التوقف عن أن ينتظر من عمله شيئا.

* عن نظريات أو مصطلحات الكتابة النسوية والمجتمع الذكوري وآليات الاشتباك الدائمة بين الرجل والمرأة في الكتابة وفي الحياة حدثنا عن رؤيتك لهذه الطروحات؟

- بكل صراحة لا أحب مصطلح "الكتابة النسوية" هذا، أعرف أن للمرأة قضيتها وحقوقها التي لا زالت بعيدة عن نيلها حتى الآن، ولكن الكتابة ليست مجالا لجدل كهذا إلا في عمق المضمون وليس العنوان أن هذا أدب نسوي وهذا أدب ذكوري وهكذا، أولا تكون الكتابة كتابة، بمعنى أن تكون جيدة أولا فنيا دون أي أفضلية تكتسبها من كونها كتبت بيد امرأة بالذات، وبعد ذلك نناقش المضمون الذي قد يكون داعما لقضية المرأة أو أي قضية عادلة عموما وقد لا يكون. أقصد أن هذا التصنيف في بداية تناولنا لأي كتابة هو في الواقع ضد مفهوم الأدب كما أراه، حيث سيواجهنا سؤال ماذا لو كان النص جيدا ولكنه رجعي في مضمونه. وهذا المثال ليس نادر الحدوث. أو العكس لو كان تقدميا ولكنه فنيا رديء، لو وجدنا أننا نهمش الأول ونحتفل بالثاني نكون أمام شيء آخر مختلف تماما عن الأدب، هو الدعاية لا أكثر.

دوافع الكتابة

* فيما يخص علاقتك بالأدب هل كان هناك أسماء أو دوافع أو رموز أو عناوين لأعمال كان لها السطوة في اختيارك لمجال الكتابة؟

- أعتقد أن كل تحول أو منعطف يمر به الكاتب له آباؤه في العالم وفي الخيال، بحيث نقول إن الكاتب لو ظل تحت عباءة اسم بعينه أو مجموعة أسماء طوال رحلته، فلن يحقق جديدا أكثر مما حققوه هم أنفسهم. وهكذا لا يكون هناك داع للكتابة من الأساس؛ اللهم إلا الفائدة النفسية منها لصاحبها ولكن لا فائدة موضوعية منها لغيره. هنا يكون التجاوز المستمر واجبا، وكل مرحلة من حياة الكاتب لها ما أسماه إيتالو كالفينو بـ "رف الكتب الافتراضي"، لكل نص يكتبه الكاتب مجموعة نصوص يطمح الكاتب أن يجاورها. مثلا هناك قصة أتمنى أن تدفع القارئ للمقارنة بينها وبين عمل آخر عظيم، وقصة أخرى تذكر بعمل غيره، وهكذا إلى أن يصل الكاتب إلى عمل لا يمكن مقارنته بغيره ولا يشبه شيئا سواه، يصبح لاحقا أبا ينسج فنانون بعده أعمالا أخرى تحت عباءته هو، وذلك ما لا يتحقق إلا لقلة من المبدعين الذين يعترف بهم في النهاية روادا لطرق كانت مجهولة قبلهم، وهذا طبعا لا أدعيه لنفسي الآن ولا لاحقا، كون ذلك الحكم هو أيضا حكم موضوعي لا يصدره المرء لصالحه بل يصدره المتلقي، ولا يهم كثيرا أن يصدره في وقته المناسب أو يتأخر فيه كثيرا أو قليلا، كل ما يهم أن الحكم سيصدر لصالح ما يستحقه ومن يستحقه، أو هكذا أتمنى.
-----------------------------
حوار: حسين عبد الرحيم