05 - 11 - 2024

حلمي القاعود: السَّردُ لا يَأتي مُصَادفةً .. مَحْضَرُ غِشّ وسردُ الأواني المستطْرقةِ

حلمي القاعود: السَّردُ لا يَأتي مُصَادفةً .. مَحْضَرُ غِشّ وسردُ الأواني المستطْرقةِ

الأستاذ الدكتور حلمي القاعود ناقدٌ مصريٌّ معروفٌ (1946م-  )، ولهُ اتّجاهُهُ الذي يَشِي بهِ ذِكرُ اسمهِ على مقالٍ من مئاتٍ المقالاتِ التي كتبَها، وعشراتِ الكتبِ الأكاديميَّةِ التي ألَّفها، ولكنْ ماذا عن سَردهِ الرِّوائيّ؟

هل يأتي مُصادَفةً إِيماءً إلى رِوايتِهِ الأُولى التي كتبَها منذُ ما يقربُ من نصفِ قرنٍ:"الحب يأتي مُصادَفةً" ونُشرتْ في روايات الهلال سنة 1976م، وهي روايةٌ من أدبِ الحرب، ويمكن عدُّها روايةً سيريَّةً نوعيَّةً؛ إذ تحكِي تجربتَهُ الذّاتيَّةَ في حربِ أكتوبر المجيدة  1973م، وقد كانَ  من الجيلِ الذي قضى سنواتِ الخدمةِ العسكريَّة مابين نكسةِ يونيو إلى انتصار أكتوبر، ثمّ أعادَ نشرها 2016م في دار النِّشر للجامعاتِ، التي نشرت له ايضًا روايته" رائحة الحبيب" سنة 2018م، وقبل ذلك الحينِ وهو يعاودُ الكتاباتِ السّرديَّة بلا كلَلٍ ولا مَلَلٍ ؛ فنشَرَ روايتَهُ "الشَّمسُ الحارقَة" سنة 2003م عن  دار البشير للثقافة والعلوم، :" الرَّجُل الأَنَانيّ" عن دار نشْر"مبدعون" مع دار نشْر"مفكّرون" عام 2019م، وعن الدّار نفسِهَا نَشرَ رِوايتَهُ:" شكوى مجهولة" سنة 2020م، وفي العام نفسهِ نشرَ سردياتهِ القصيرة:"منامات الشّيخوخة عن اتّحاد الكتَّاب المصريِّ  بما يَتصَادَى مع "أحلامِ فترة النّقاهةِ" للنجيب المحفوظ، ثمَّ نشرَ روايته:"شجرة الجميز" عن دار الناَّبغة بطنطا 2021م، وغيرها كثيرٌ.

وقد صدرتْ روايتُهُ:"مَحْضَرُ غِشٍّ"عن دار نشْر"مبدعون" مع دار نشْر"مفكّرون" عام 2018م التي نُحاولُ قراءتها قراءةً نقديَّةً، لا يخجلُ فيها التّلميذُ أن ينتقدَ سردَ أستاذِهِ؛ وَفاءً لحقّ الأُستاذيَّةِ، وموضوعيَّة النَّقدِ.

الأحبولةُ المخاتلةُ( بساطَةُ الحكايةِ وعُمقُ المغزَى)

تتدفّقُ سرديّة الغشّ في الرّواية على طول مائتين وعشرين صفحةً علىلسان السَّاردة، وهي البطلة المشاركة في الحدث"شريفة" بإيقاع سريعٍ مدهشٍ، تُكتم فيه الأنفاسُ في متابعةٍ لما ستؤولُ إليهِ حالُ الطالبةِ النَّجيبةِ التي تتفوَّق على كلّ طالبات قسم اللغة الفرنسيَّة في سبيلها لتعيّن معيدةً، فدكتورة، فأستاذة لتعوّض أباها الذي أكلتْهُ الغربةُ في العراق ليكوِّنَ نفسَهُ ماديًّا، ويعالج عُقدة النّقص لديه من عدم قدرته على تحقيق حلمِهِ بالتَّعلُّم الجامعيِّ، وتميل إلى محمود المعيد بقسم الإعلام، وتُخطب إليه لتحقِّق حلمَها وحلم والديها، وتصلَ إلى مبتغاها، ولكنّهُ يصطدم بمرضِ والده الذي يستلزم أن يتبرَّع له ولدهُ بفصٍّ من كبِدِهِ؛ فيرضى وتأبى شريفةهذه التَّضحيّةَ وتتركهُ، لتُخطبَ إلى زميلها "مخلوف" الفلاح الشّرقاويّ الذي أنجزَ درجة البكالوريوس، ونال وظيفةً مرموقةً في القاهرة، ويستزيد بليسانس في اللُّغاتِ، ولكنَّهُ يتركهَا، أيضًا، لخلافٍ مع والدها، الذي رفضَ أن ترحلَ ابنتُه إلى القريةِ بعيدًا عنه، ولكنَّ المفاجأةَ التي ادَّخرها السَّارد لنَا أنَّ شريفة كانت تصلُ إلى ما وصلتْ إليه منْ تفوُّقٍ عن طريقِ الغِشّ، وقد  رصدَها المراقبان متلبّسةً بحالةِ غشّ في الفصْل الدِّراسيّ الأخير؛ فتحرمُ من التّعيينِ في الجامعةِ التي لا تقبل في هذه الوظيفةِ المرموقة طالبًا تحقَّقتْ فيه تهمةُ الغِشّ، وينتهي بها الحال إلى الزّواج من شابٍّ معه دبلوم معهد فنَّي، يعمل  في تجارة متواضعةٍ، ويواجه أباها الفقرُ بعد غنًى ؛ إذ احتالتْ عليه"مستريحةٌ"؛ فأخذتْ منه مدَّخراتِ العُمر كلّه، وتُصَاب الأُسرةُ بحالة منَ الضَّياع؛ ممّا يجعلها تتوب إلى الله وتلتمسُ طريقَ الإيمانِ بعدماأودى بها  طريق الغِشّ إلى الفشل والضَّياعِ...!

الشَّيطانُ يكمنُ في التَّفاصيلِ:

هكذا تبدو الحكاية سهلةً لا جديدَ فيها، ولكنّ الشّيطانَ يكمنُ في التّفاصيل؛ كما يقول المثل الإنجليزيّ الشَّهير؛ فقد كان محضرُ الغشّ الذي أُعدّ لشريفة هو الفخّ السّرديّ الذي تتفجّر حوله الأحداثُ جميعها، وتتحدّد وجهة النّظرِ؛ فقد حدّثها المعيد محمودٌ خطيبُها الأوَّل عن نظائرهِ من محاضر الغِشّ، وعن ابتداع الطلّاب لطرائق الغش المختلفةِ، واستطرد في سردهِ متجاوزًا التّعليم الجامعيّ إلى التّعليم في كلّ مراحلهِ بلا استثناءٍ، وكان ابنُ رئيسٍ لأحد أقسامِ الكليّة يغشُّ مُتبجِّحًا ومُهدّدًا مُحتميًا بسلطةِ أبيهِ، الذي لايني يدافع عنهُ، وثمة أساتذةٌ لشريفة أنبأَها خطيبها الثّاني مخلوفٌ عن وقائعِ سرقاتٍ له؛ فقد  قاموا بسرقة كتب زملائهم، وتوزيعها على طلاب القسم ذاته بمبالغ كبيرة، بل وصلَ الأمرُ إلى أنّ أستاذتها المتّهمةَ في شرفها الأخلاقيّ، وسمعتها متّهمةٌ، أيضًا، أنَّ هناك من كتبَ لها رسالتيها، وأنَّ أستاذَها وزميلَها الدكتور مختار المتعصّب للحملة الفرنسيّة والمنبهر بالثّقافة الفرنسيّة وأعلام التّنوير على حساب الهويّة الوطنيّة والدّينيّةِ يعلم ويعلم غيره أن رسالتيها قد كتبهما غيرها، أو ساعدوها فيهما؛ لتصل إلى ما وصلت إليه دون حقٍّ؛ لذا اختارها في فريقه حين اُختير في منصبٍ ثقافيّ كبيرٍ...!

واتّهم أستاذها سعيد محفوظ بسرقة رسالته للدكتوراه من زميل فرنسيّ في السوربون، وقد أسفر التّحقيق عن تأكيد التّهمة، وإلغاء الدّرجة العلميَّةِ،وهكذا تتابعَ صورُ الفسادِ والغش الجامعيّ بما يذكّرنا بروايةٍ نشرها أستاذ اللغة الإنجليزيَّة بكليّة اللِّغات والتّرجمة بجامعة الأزهر الشّريف الدكتور وجدي الفيشاويّ بعُنوانِ:"الجامعة والصعود إلى الهاويةِ"، وما نشرَهُ، أيضًا، أستاذ التّاريخ الحديثِ المرموق الدكتور رؤوف عبّاس في سيرته الذاتيّة:" مشيناها خطًى" وما نشرهُ: الدكتور" محمود الرّبيعي " أيضًا في سيرته" في الخمسين عرفتُ طريقي" بجزءَيها، وإن كانت صور الفساد مختلفة؛ فالغشّ واحدٌ وإن تعدَّدت صورهُ في كلّ مناحي الحياة؛ كما وضَّح لشريفة وزملائها أستاذهم القدوة  الدكتور عمارة الذي جمعَ بين العلم المكين في الحضارة الفرنسيَّة، والثّقافة العربيّة الإسلاميّة الرّاسخة التي لا تعترف للمستعمر الفرنسيّ  باستنارة ولا تنويرٍ، وقد قتل سُبعَ الشَّعبِ المصريِّ، وواجههم بأسلحته البشعة؛ فقد قتل منهم ثلاثمائة ألفٍ في وقت كان عددهم لايزيد عن المليونين ومائة ألفٍ؛ لذا يرى الاستنارة الحقَّة فيما جاء به الرّازي وابن رشد وابن الهيثم وابن حيّان وأضرابهم؛ إذ هي استنارةٌ علميَّةٌ على أُسسٍ من العدلِ والخيرِ والحقّ والجمالِ، في علمٍ تجريبيٍّ راسخٍ لا ينكرُ الرّوحيَّ والمقدَّسَ..! 

الغشُّ والأَواني المستطرقَةُ:

سعتِ الرّوايةُ في نقدها الاجتماعيّ لواقعة الغشِّ الجامعيّ إلى تداخل الدّوائرِ، واتّساعها على طريقة الأواني المستطرقة؛ لتمرّرَ رسالتها بأنّ حالة الغش في الامتحانات ليست مجرّد حادثة عابرَةٍ، تمرُّ في خبر صحفيّ مستقلّ، بل هي متشابكة مع كلّ  الكوارثِ التي شارك فيها بعضُ الأطباء والمهندسين والمدرسين والموظفين الفاشلين الذين أتى بهم الغشُّ إلى مواقعهم ليصيروا سُوسًا ينخرُ في عظام الوطنِ، ويصيرُ الغشُّ المجانيُّ في الجامعة غِشًّا بمليارات الدّولاراتِ تنشرها الجرائد الرّسمية؛ كما قرأهَا لهم أستاذهم الدكتورة عمارة في مكتبه، مُجاورةً لأخبار الغشِّ في الامتحانات، وهو أيضًا الغشُّ الذي يصحبُ عملياتِ البناء بدونِ ترخيصٍ لتشويه المدنِ والقضاء على المساحات الخضراء...!

سِيميائيَّةُ الأعلامِ بينَ المفَارقةِ والاتِّساقِ

لم تأتِ أسماء الشّخصيَّاتِ في الروايةِ اعتباطيًّا، بل اُختِيرَتْ بعنايةٍ فائقةٍ؛ فالبطلةُ "شريفة" التي تبدو طوال الرّواية متفوّقةً على أقرانها بلا منافسٍ، وتتصدّر أوائل دفعتِها  في كلّ فصل دراسيٍّ، ومسالمةً ذاتَ خلقٍ وجمالٍ، ومحافظةً على العفَّةِ والأخلاق، نكتشف في النّهايةِ أنَّها غشَّاشةٌ، وأن الشَّرف الذي تدّعيهِ مزيفٌ، لا أصلَ له؛ فكلُّ خلق مبنيٌّ على الغشِّ فاقدٌ لكلِّ معاني الشَّرفِ، والأستاذ الجامعيّ الذي يمثّل النُّخبة التي تسعى للذّوبان في الآخر الأوربيّ التّنويريّ دونما جذورٍ وطنيَّة يتشبّثُ بها أسمَاه "مُختار" ليحملَ الاسمُ التّوافقَ الظَّاهريَّ من جهةٍ والمفارقةَ المعنويَّةَ من جهةٍ أُخْرى على طريقةِ تسميةِ البطلةِ"شَريفَة"، وأستاذتها التي تفتقدُ الفضيلةَ رَمَزَ لها بالحرفِ "ف" وأستاذها السَّارق سعيد محفوظ  يحملُ سيمياء "سعيد مهران" في " اللِّصّ والكلاب"، ويحلّ محلَّه أستاذٌ ملتزمٌ، يخشَى ربَّهُ، ويراعي دينه فيما يجب الالتزامُ به من أخلاقٍ؛ فيسميهِ" رمضان عبده"...إلخ.

والأستاذ المثال الذي يربطُ جذوره بدينهِ ووطنهِ وعروبتِهِ قبل أن يتقنَ أُصولَ الحضارة الأوربيَّة أسماه "عمارة" ليأتيَ متّسقًا مع عمارة الأرض وَفقَ رسالةٍ دينيَّةٍ ودنيويّةٍ، وكذا خطيبها الأول "محمود" الذي كان محمود السيرة والمسيرة، ومثله خطيبها الثاني "مخلوف" الذي خلفه زوجُها الأخير، وسبقه محمودٌ، وهكذا.

نقدُ اللُّغَةِ و المبالَغَةُ في التَّناصِّ:

مع الحرص الشَّديدِ من الدكتور حلمي لتأتي لغة روايتهِ فصِيحةً صَحِيحةً خاليةً من الأخطاء فإنّها لم تسلمْ من هَناتٍ نحويّةٍ وأسلوبيَّةٍ، يجب أن نشيرَ إليها من بابِ الوفاء بما تعلّمناه منه، والوفاء للقيمة النّقديَّةِ؛ فمن ذلك أن يأتي المفعولُ مرفوعًا: رأيتهما ممدان(ص10)، وكذا خبر كان( ولكنهما كانا مشغولان ص156)  ونصب النعت للمنعوت المجرور (تقدمي بطلب مرفقا به ص 178)  وتذكير العدد المؤنث ( عشر طلاب ص 151) وتذكير الاسم الموصول المؤنث؛ كأن تقول شريفة: (وأنا الذي كتبتها بنفسي ص163)، وهو خطأ طباعي بلا شك؛ مثله مثل( كنت أريد أن كون جوار زوجي 204)

ومن الأخطاء التي تختلف فيها وجهات النّظر" وبنَاها بيتًا صغيرًا من ثلاث طبقات ص19" والشّائع المستساغ في بناء المنازل البشرية ان يقولَ: "من ثلاثة طوابق"، وكذا" هناك ملاحظون عديدون ص153، والأوفق عدة)...إلخ.

ومن الملحوظات الأسلوبيَّة ضبط المأثورات بلاداعٍ؛ كضبطه:( كلّ شيءٍ نصيبٌ ص5) (فالأمر في النهاية قسمةٌ ص78)، مع أنّ إهمال ضبطها أولى وأوفق للموقفِ السّرديِّ، ولِلُغةِ الشَّخصيَّة..إلخ.

وهيَ هَناتٌ لايسلم منها أحدٌ، ولعلَّها من طغيان القلم؛ كما يقول الصّفديُّ.

ولكن ما نختلف فيه مع أستاذنا هو الإسراف في التّناصّ بلا داعٍ، وتحميل الشّخصيّات من ثقافة السّارد لا من ثقافة الشّخصيّة؛كأن يختار أستاذ الفرنسية رواية  صحيح مسلم غير المشهورة للحديث الشريف: "من غشَّ فليس منَّا" ص52، ويترك الرواية الأشهر المذكورة في صحيح مسلم أيضًا:"من غشَّنا فليس منَّا"، مع أنّه في التناص القرآني" وكفى الله المؤمنين القتال : الأحزاب25" يوردها على لسان البطلة لشهرتها: وكفى الله المؤمنين شر القتال ص156)، والعجيب حقًّا أن يردَ على لسان أبي شريفة في حوار طويل لايناسب ثقافته المتواضعة قوله: هذا ما حارت البرية فيه.ص190)، وهو صدر بيت مشهور للمعري:

والّذي حارَتِ البَرِيّةُ فِيهِ       حَيَوَانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِن جَمادِ

كما أورد السارد آياتٍ كريمةً كثيرةً تتفقُ والاتّجاه الأخلاقيّ الذي يتبنّاهُ والقيمَ الدّينيّة التي يستهدفُها، وهو مما تختلفُ حوله وجهاتُ النّظر أيضًا، ولنا أن نحترمها في الوقت الذي يمزج فيه آخرون سردهم بأقوال الفلاسفة والأدباء والفنانين، ويبالغون في ذلك حتى ليصدِّر بعضهم كلّ فصول روايته بمستنسخات مما يستحسنُ من حفظهِ شعرًا ونثرًا.

ولتكن النّهاية باختلافٍ لا باتّفاقٍ؛ تأكيدًا على النَّزاهة والموضوعيَّة؛ فأتساءلُ: لمَ انتظر محمودٌ خطيبُ شريفة وقتًا طويلًا لزيارتها إيَّاه، ثمّ أرسل لها رسالة خطِّيَّةً مع صديقه(ص75) في عصر الموبايل ووسائل الاتصال الحديثة؟!

ولعلّني في هذه المقالة أحاور أحد المبدعين المهمينَ من  النّقّادِ البارزينَ  في هذا العصر الذين لم يتوقَّفوا عن الكتابةِ إبداعًا ونقدًا  لفترةٍ تربُو عن نصفِ قرنٍ؛ لنلفتَ النّظرَ إلى نقدِ سرده وسرد النّقّاد المبدعين؛ فهنيئًا لقراء حلمي القاعود ساردًا ومبدعًا...!
------------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)
أستاذ الأدب والنّقد بكليَّة الآداب - جامعة العريش