08 - 11 - 2024

أعلامٌ مصريَّةٌ من الغربيَّةِ (5) | إحسان عبدالقدوس: من كفر ميمونة شبرا اليمن زفتى إلى العالميَّة (1919-1990م)

أعلامٌ مصريَّةٌ من الغربيَّةِ (5) | إحسان عبدالقدوس: من كفر ميمونة شبرا اليمن زفتى إلى العالميَّة (1919-1990م)

نشأ إحسان عبدالقدوس في قريتهِ كفر ميمونة إحدى القرى الملحقة بقرية شيرا اليمن مركز زفتى لدى جدِّهِ لأبيهِ الشّيخ أحمد رضوان القاضي الشَّرعيّ الذي تلقَّى التّعليم الدّيني في الأزهر الشّريف؛ فكان يديمُ الحضورَ لجلساتهِ؛ فيحفظ القرآنَ الكريمَ، ويَتلقَّى مِن جُلَسائهِ منَ الشُّيُوخِ الأحاديثَ الشَّريفةَ، ومسائلَ الفِقهِ والتَّوحيدِ وعلُومِ الشَّريعةِ الإسلاميَّة، ثمَّ يعودُ إلى أُمّهِ روزَا اليُوسف التي كانت نجمةَ المسرح الأُولى بعد طُلّقتْ من أبيهِ مهندس الرّيّ محمد عبدالقدوس الذي هجر الهندسة من أجل التّمثيل والكتابة المسرحيّة؛ فأصابهُ غضبُ الأبِ ونقمتهُ..!

 وكان لوالدتهِ روز اليوسف، التي اعتزلت الفنّ سنة 1924م لتشتغل بالصّحافة وتؤسّس مجموعة متعدّدَةً من الصّحف سنة 1925م، صالونٌ ثقافيٌّ كبيرٌ مشهورٌ، يتردَّدُ عليه كبار الكُتّاب والصّحفيّينَ؛  كالعقَّاد وأضرابهِ من الأدباءِ والسّياسيّينَ والمناضلِينَ؛ فيسمعُ إحسان منهم حكاياتِهم النّادرة الفاتنة المبهرةِ في الأدبِ والفنِّ والسّياسةِ؛ فيجمعُ بينَ النَّقيضينِ؛ وهو ما وسَّعَ أُفقهُوقلمَهُ وقلبَهُ وعقْلَهُ لالتقاء النَّقيضِينِ؛ فكَانَ يَعملُ نهارًا صَحفيًّا وسياسيًّا ومُديرًا لمؤسَّسة صَحفيَّةٍ، وفي اللَّيلِ يكتبُ الرّواياتِ الرُّومانسيَّةَ ذات الاتّجاه الواقعيّ؛ ليكشفَ زيف النّفوسِ البشريَّةِ، وطبيعةَ العلاقاتِ بين الرّجلِ والمرأةِ، كما كشفَ طبيعَةَ العلاقاتِ بينَ الحاكم والمحكومينَ، والسَّاسةِ والمسوسينَ...!

إحسان بين أدب الحربِ وأَدَبِ الفِرَاشِ:

لعلَّ قولةَ إحسان عبدالقدوس الشَّهيرة التي صارَتْ قَولًا مأثورًا:" تُصبحُونَ على حُبٍّ" اختزالٌ مكثَّفٌ مُوفَّقٌ لهذا الكاتبِ الذي ملأَ الدُّنْيا حُبًّا، وشغلَ النَّاسَ بقضَايا الحريَّةِ، والكرامةِ الإنسانيَّةِ، والاستقلَالِ الذّاتيِّ والوطنيِّ؛ فلم يعرفِ الأدبُ العربيُّ في النِّصف الثَّاني من القرنِ العشرين أديبًا أثارَ ما أثارهُ إحسان عبدالقدوس منَ الجدلِ السِّياسيِّ، وقد كتبَ أَشهر المقالاتِ السّياسيَّةِ التي كان يُعنونها بــ" على مقهَى في الشَّارع السّياسِيّ"  كما كانَ لهُ السّبقُ في فَضْحِ قَضيَّةِ الأَسْلِحةِ الفاسِدةِ ومقاضاة مجرمي حرب فلسطين في الفترة بين 1948-1950م؛ فتعرَّض بسببها للاعتقالِ، ثمَّ للاعتقالِ، والسَّجنِ الحربيّ، ومحاولاتِ الاغتيالِ التي تأكَّد من بينها ثلاثُ محاولاتٍ بسبَبِ معارِكهِ السّياسيَّةِ بعد ذلكَ، وَكان قد أَخفَى في بيتهِ حُسين توفيق قاتلَ أمين عُثمان الذي اُتّهِم بقتلهِ الرّئيس السَّادات، وكتبَ هذه الحادثَة في روايتهِ الشَّهيرةِ "في بيتنا رَجُل"...!

وكما ناضل إحسان عبدالقدوس في قضيّة الوطنِ، ناضل في قضايا تحرير المرأةِ؛ ممَّا دفَعهُ لأنْ يكتبَ أدبًا جريئًا، وصَفهُ العقّادُ بأدبِ الفِراشِ، ولكِنّهُ ظلَّ  مُناضِلًا من أجلِ الإصلاحِ الجنْسِيّ؛ مما أدَّى إلى غَضَبِ الرَّئيس جمال عبدالنَّاصر عليهِ بسببِ مجموعتهِ " البنات والصَّيف"، ولكنّهُ لم يألُ جُهدًا في محاولاتِ الإصلاحِ الأَخلاقيّ والدّينيّ والاجتماعِيّ والثّقافيِّ والفنّيِّ؛ حتّى صارَ موضُوعًا للخُطَبِ في المساجدِ،  وأنيسَ النِّساء في المخادعِ...!

طَبيبُ النِّسَاءِ والمسكوت عنهُ:

كتبَ إحسان عبدالقدوس عن عالم  المرأةِ خِلْقةً وخُلُقًا ونَفسيَّةً بما لم تُوفَّق امرأةٌ كاتبَةٌ في كتابةِ مثلهِ، أو قريبٍ منهُ، وكأنَّهُ مُنِحَ سِرُّهنَّ وطِبُّهنّ؛ كما أخبرَ علقمةُ بنُ عبَدَة الفَحْلُ حينَأَعلَنَ عن خِبرتهِ بِطبّهِنَّ:

فَإِن تَسأَلوني بِالنِّساءِ فَإِنَّني       بَصيرٌ بِأَدواءِ النِّسَاءِ طَبيبُ

وفي مقدمةِ مجموعتهِ "النظَّارة السَّوداء" يُنافسُ إحسان خِبْرةَ علقمةَ حين يعلنُ عن ثقتهِ بأدواءِ النِّسَاءِ وطبائعهِنَّ:" حَاوَلْتُ أَنْ أَكُونَ كاتبًا، وحَاوَلْتُ أَنْ أَكُونَ طَبيبًا"...!

وفي محاولة جمعهِ بين ما يُتوهَّم أنّهما نقيضانِ يؤكِّدُ إحسان أنَّ الصِّدقَ له وجهٌ واحِدٌ يسري في كُلِّ القضَايا الإنسانيَّةِ مُتمثّلًا بمواقفِ بدوڤيسكي رئيس بولونيا الذياحْترَفَ عزفَ البِيَانُو، ودِزرائيلِيّ رئيسِ وزراءِ بريطانيا الذي كتبَ الرِّواياتِ الغراميَّةَ، وغاندي بطل الهندِ العظيمِ الذي كتبَ عنْ تجاربهِ العاطفِيَّةِ مع النِّسَاء، وغيرهم ممن التزمُوا الصِّدقَ في كلّ مناشطِ حياتِهم، لايفرِّقون في ذلكَ كلّهِ بينَ القضايا الوطنيَّةِ الكُبرى، وتجاربِ الحُبِّ والغَرامِ، وأَدبِ الفِراشِ؛ كما أسماهُ العقَّاد وغيرهُ من النقّادِ الذين لم يلتفِتْ إِليهم إحسان، وجعل القارئ العام همَّه ورسالتَهُ، والفكرةَ الأصيلةَ هي هدفَهُ وغايَتَهُ، وما المرأةُ والجِنسُ والحُبُّ إلا أدواتٌ تحملُ أفكارَهُ، وتخدمُها، وتجعلُهُ يكتبُ من خلالِ سردِهنِّ المحبَّب للنُّفوسِ، مع نفاقِ المجتمعِ الظَّاهر، ونفورهِ المزيّف، ما لا تحتملهُ لغةُ المقالِ الواضِحةُ الصَّريحةُ المباشرةُ؛ لذا كان يوجِّهُ الصَّحفيينَ أن يكتبوا الأفكارَ المسكوتَ عنها في صورٍ سَرديَّة تخييليَّةٍ؛ بوصفِهِ أصغرَ رئيس تحريرٍ عَرفتْهُ الصَّحافةُ العربِيَّةُ؛ إذْ تولَّى رئاسةَ تحرير" روز اليوسف" وعمرهُ ستٌّ وعشرونَ سنةً بعد أن فَشلَ في المحاماةِ؛ إذ درس القانونَ في كليَّة الحقُوقِ وسَخِرَ من أدائِهِ القانُونيّ الضَّعيفِ ومُشاجراتهِ المصنوعةِ مع القُضاةِ ونِكاتهِ البَلهاءِ مع زملائهِ في المحاماةِ، لِيَظلَّ شِعارهُ: الصِّدقُ وحدَهُ طريقُ الحريَّةِ والحبِّ والكرامةِ الإنسانيَّةِ...!

قَلَمُ المحبَّةِ  الصَّادِقِ في سَبيلِ الحُرِّيَّةِ:

كان يُمكنُ لإحسان أنْ يتجنَّبَ كثيرًا من المتاعبِ الكبرى، والكوارثِ العُظمى، والمآزقِ المتعدّدةِ التي واجهتْهُ، لو تخلَّى عن قليلٍ من صِدقِهِ الذي التزمهُ في كلّ ما كتبَ:"  إنِّي أَستطيعُ أنْ أَضْغطَ على القَلم... وأدّعِي الوَقارَ..ولكنّي  لا أريدُ، لأنّي أَقْوى مِنَ الكَذبِ ومنَ الادِّعاء..إنّني كاتبٌ قد أمُوتُفي سبيلِ المبادئ التي أُدافعُ عنها..."!

لم يملك إحسان سوى الحبِّ والقلم، أو محبَّة القلم، وقلم المحبَّة، وهو ما جعلَهُ متدفّقَ الأسلُوبِ في كلّ مناحي الكتابةِ، وإن انتقدت لغتهُ بالوضوحِ الزَّائدِ، والتّلقائيَّة والمباشرة، وبافتقادها الإحكام السّرديّ والتّطوُّر والتلوّن حسب المواقف والشّخصيّات والمشاهد السّرديَّة، فظلّتْ هي لغة إحسان واحدة في سرده الطَّويل والقصير، الوصفيّ والسّردي والحواريّ، بإيقاعها الواحد المعروف المشهورِ، الذي لا تخطؤه عينٌ ولا أذنٌ...!

 ومع ذلك فقد أودتْ بهِ لغة مقَالاتهِ السّياسيَّةِ إلى عالم المعتَقلَاتِ، والسُّجُونِ، حِينًا، والإقصَاءِ والحاجَةِ التي اضطرتْهُ أنْ يتَزوَّجَ سِرًّا من حَبيبةِ قلبِهِ الأُولى والأَخيرة "لولا" في بيتِ أُستاذِهِ وصديقِهِ الذي سبقهُ في لقبِ ساحرِ النِّساءِ وأَمير الصَّحافةِ العربيَّةِ محمد التَّابعي...!

وبالرّغْمِ مِن كلّ ذلكَ؛ فقدْ ربطتهُ صداقةٌ وطيدةٌ بالرّؤساءِ؛ فكانَ يُنادي الرَّئيس جمال عبدالنَّاصر" ياجيمي"، قبل الجفْوةِ التي وقعَتْ بينهما، وكانَتْ صَداقتُهُ أقوى بالرّئيس السَّادات؛ فَظَّلَّ إحسان أشهر من أدارَ أهَمَّ  المؤسَّساتِ الصَّحفيَّةِ، بل عُرِض السَّاداتُ عليه وزارة الثّقافَة مرَّاتٍ ليتولّاها، ولكنّهُ آثرَ أن يقضَّ مضاجعَ الحكوماتِ، وأن يكونَ لِسانَ شَعبهِ لا أنْ يتاجرَ بكلمتهِ، أويتسلّقَ بقلمهِ إلى أرفعِ المناصبِ، وتحقيق المكاسبِ؛ كما فعلَ كثيرُونَ غيرهُ..!

سينما الرِّوائيِّ والكاتِب النَّجْم:

لم تعرفِ السّينما العربيَّةُ مَن أُخذَ من رواياتهِ وقِصصهِ مثلَ إحسانٍ سِوَى نجيب محفوظ؛ إذ يكتبُ إحسان مشاهد سينمائيَّة مكتملة في رواياتهِ التي لا يعوزها السّيناريو أو الحوار؛ لِذَا  وَصَلَ ما أنتجتْهُ السِّينما من  أَدَبِ إحسان حَوالي خمسين نصًّا سرديًّا في خمسين فيلمًا؛ حتّى عُرفتْ هذه الأفلامُ بسينما الرّوائيِّ؛ لأنَّها تقومُ على رُؤيةِ الكاتبِ وشَخصياتِهِ، ورؤاهُ، وأيديولوجيَّتِهِ، وقَضاياهُ، ولم تُعْرَفْ سينما المؤلِّفِ إلَّا مَعهُ ومعَ صديقِ رِحلتهِ نجيب محفوظ الذي كتَبَأكثرَ من سيناريو لبعض قَصصِ إحسان بمحبَّةٍ لهُ ولِلحُريَّةِ عامَّةً، ولِحريَّةِ المرأةِ ونيلِ حقُوقِها المشرُوعةِ خاصَّةً...!

ولعلَّ من  أشهر الأفلامِ التي أُخِذتْ عن سُرودٍ لهُ: في بيتنا رَجُلٌ، أينَ عُمرِي؟، أَنا حُرَّةٌ، لا تُطفِئ الشَّمسَ، الخَيطُ الرَّفيعُ، الرَّصاصَةُ لاتزالُ في جيبي، ياعزيزي كلُّنا لصوصٌ؛ فهُو أكثرُ مَنْ حُوِّلَتْ نصُوصُهُ السَّرديّةُ إلى أفلامٍ، بل تَحوّل بعضُها إلىمَسرحيَّاتٍ مَشهورةٍ؛ منها:  الطَّريقُ المسدُودُ، وشَيءٌ في صَدرِي، وإمبراطوريَّة ميم، وسارقُ الأتوبيس، وهو، أَيضًا، من أكثر من حُوّلتْ نُصوصُه السَّرديَّةُ إلى  مُسلْسَلَاتٍ إذاعيَّةٍ؛ منها:  السَّاحرُ، لا شَيءَ يَهُمُّ، مَنْ أَطلقَ هذِه الرَّصَاصَةَ؟، آمَنْتُ باللهِ، قَلْبي لَيسَ في جَيبي، أَنفٌ وثلَاث عُيونٍ، ثُقُوبٌ في الثَّوب الأَسودِ، و أكثر من عَشرِ مُسلْسَلَاتٍ تلفزيونيَّةٍ، حَظِيَ بعضُها بمشاهداتٍ غير مَسبوقةٍ؛ منها : لن أعيشَ في جلباب أبي ، النَّظَّارة السَّاحرة، وحَبيبي أصغرُ منّي، الوصيَّةُ، نوعٌ آخرُ من الجنونِ، أَنا لا أكذبُ ولكنِّي أتجمَّلُ، ونَسِيتُ أنِّي امرأةٌ،... وظلَّ الكاتبَ المدلَّلَ لدى المخرجينَ والمنتجين، وهو الكاتبُ الوحيدُ الذي كان يُعاملُ مُعاملةَ النَّجمِ الأَوَّلِ ...!

الفَارِسُ النَّبيلُ:

تركَ إحسان عبدالقدوس أكثرَ من ستمائة قصَّة قصيرة، وأكثرَ من عشرينَ رِوايةٍ، وآلافِ المقالاتِ الصَّحفيَّةِ السِّياسِيَّةِ، فهُو أَشْهرُ من ترأَّس مؤسَّسةً صَحفيَّةً تحملُ اسمَ والدتهِ "روز اليوسف"، وأَشْهرُ من ساندَ الأُدباء والفنّانينَ والموهوبينَ؛ فكان أوّل من نادى بإنشاء نادي القصَةِ سنة 1950م، وغيره من الأنشطة الخاصَّة بالكتابة والكُتّابِ، ومن رسم طرائق جديدة للمشهورين؛ كما غيّر  طريق فاتن حمامة، وعمر الشّريف، ورشدي أباظة، وشكري سرحان، وأضاف إلى قائمة الصّحفيين والكتّاب والنُّقَّاد الكثيرين؛ لأنه كان يؤمن بأنَّ الحبَّ عطاء، وأنَّ الأديبَ الحقيقيَّ هو من يعضِّد  الآخرينَ، ويدعمهم لا من يغتال مواهبهم، ويبني صروحَ أمجاده وضريحه من أنقاض منافسيهِ، ويكفي أنّه اختار الشَّاب أحمد بهاء الدّين ليكون أصغر رئيس تحرير بعدهُ لصَحيفةِ "صباح الخير" التي كان يترأس مجلس إدارتها بتوكيل من مالكتها روز اليوسف أمّه التي شكّلتِ الجانبَ الأعظم من شَخصيَّتهِ، قبل أن تتسلَّم الرّاية منها امرأةٌ أخرى على وزن "روزا" هي "لولا" زوجتهُ وحُبّ حياتهِ التي كان ينعتُها برئيس جمهوريّتهِ...!

عالميَّةُ إحسان  والقضايا الشَّائكةُ:

نشر إحسان عبدالقدوس  مجموعته "العذراء والشّعر الأبيض" 1977م، في العام الذي توفّي فيه الرّوسي من أصلٍ أمريكيٍّ فلاديمير نابوكوڤ (1899-1977م)و يمكننا  أن نعدّها نوڤيلا، وفيها  يتجاوز إحسان عبدالقدوس جرأة نابوكوڤ في روايته الشَّهيرة الملهمة" لوليتا" التي تحكي قصَّة الغرام  الجنسيّ للكهل"همبرت" الذي يبلغ  السَّابعة والثّلاثينَ من عمره  بالطّفلة" لوليتا" التي تبلغُ منَ العُمر اثنتي عشرةَ سنة؛ لذا أثارَتِ الروايَّةُ ضجَّةً وجلبةً في أوربا وأمريكا وقْتَ نَشرِها، ورفضتْها أَربعُ دُور نَشر كُبرى...!

وفي قصة إحسان عبدالقدوس التي تحمل عنوان مجموعته "العذراء والشّعر الأبيض" يحكي عن الغرام  الجنسيِّ للمحاسِب الطَّنطاويّ الكَهل محمد عبدالله ذي الثَّلاثِ وأربعين سنة بالطفلةِ" بُثَيْنَةَ" ابنتهِ بالتَّبنِّي التي تَحمِلُ منهُ سِفاحًا، وعمرُها لم يتجاوزْ سَبعَ عَشرةَ سَنةً، ومع ذلكَ تبحثُ"دَولت" أمُّها بالتَّبنِّي وزوجَتُهُ عن حَلٍّ لهذه الأَزمةِ، ولو بالسَّفرِ إلى أوربا، وتَزْويجهِ إيَّاها، وتبنِّي المولودِ لِتُعوّضَ غريزةَ الأُمومةِ التي حُرمتْ منها، ومن أَجلِها ضَحَّتْ بزوجِها الأَوَّلِ الثَّريِّ مِثْلِهَا إلى محمد عبدالله الفَقيرِ لتَستَعِيضَ بِهِ عَن الأُمومةِ، ثمَّ تلتمِسَها في بُثينةَ؛ فأبناءِ بُثينةَ،...!

هذه القِصَّةُ هي مجرّد مثالٍ على جُرأةِ إحسان عبدالقدوس التي تَجاوزتْ كلَّ جُرأةٍ في طَرحِ الأفكار دونَ أن يأتي بلفظٍ واحدٍ نابٍ في القِصّةِ، أو وصفٍ لما وقعَ بينهُما يثيرُ الغرائز الجنسيَّة، بل ظلَّ تركيزهُ على الفِكرةِ حتّى النِّهايةِ.. لتَظلَّ البطلَ الحقيقيّ لرواياتهِ وقِصصِهِ، وهو ماعَابهُ عليهِ يوسف إدريس وغيرهُ من نقّاد السَّردِ الذين لم يملكُوا جُرأةَ إحسان ليكتبُوا عن سَردٍ مُختلفٍ كلّ الاختلافِ، ولكنَّهُ صادِقٌ كلّ الصِّدقِ، وإنسانيٌّ إِلى أبعدِ مَدًى؛ لذا استحقَّ أن يُترجَمَ إلى لُغاتٍ عِدّةٍ؛ منها الإنجليزيَّةُ والفرنسيَّةُ والصِّينيَّةُ والألمانيَّةُ والأوكرانيَّةُ، ويظلَّ الفيلم المأخوذُ عن قصَّتهِ" أبي فوق الشَّجرة" يُعرضُ في دور العرضِ باليابان لمدة عامٍ كاملٍ، دون انقطاعٍ، في سابقةٍ لم تحدث لأيَّةِ روايةٍ عربيَّةٍ ممثَّلَةٍ؛ ليحفرَ ابنُ ميمونة وشبرا اليمن مركز زفتى اسمه في لوحَة الشَّرف العالميَّة...!

وأنهي هذا المقال بعتبة إهداء ولده الصّحفي محمد عبدالقدوس، ولطالما اهتمّ إحسان بقضيَّة العتباتِ؛ إذ يقول في إهدائهِ أوَّل عمل أدبيّ لهُ حمل  عنوانه "سيدنا الشّيخ في المقهى" المفارقةَ التي تجسّدُ حياةَ أبيهِ، وتخّصها، وتتناسلُ  في قلمِ ولدهِ:"  أبي إحسان عبدالقدوس..رحمة الله عليكَ! أُهدِي بَاكُورةَ إِنتاجِي الأَدبيّ إليكَ..فلَكَ في عُنقِي دينٌ كبيرٌ، وعلى قلمي تأثيرٌ عميقٌ، وفي قلبي حبٌّ عظيمٌ..حفظك الله ورعاكَ حيثُ تُوجدُ في العالَمِ الآخَرِ..!"
-------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)
أُستاذُ الأدب والنّقد بكليَّة الآداب- جامعة العريش