15 - 10 - 2024

عام على طوفان الأقصى .. ما وراء حسابات الربح والخسارة (2): ليست معركة النهاية الفاصلة

عام على طوفان الأقصى .. ما وراء حسابات الربح والخسارة (2): ليست معركة النهاية الفاصلة

دخول المسيرات في معادلة القوة وظهور أنماط جديدة سيكون تأثيرها حاسماً في المستقبل
احتمالات استمرار الحرب وتوسعها إقليمياً قائم وهو ما تسعى إليه قيادة حماس

في الحلقة الماضية تحثنا عن نهجين لإدارة الصراع وقلنا إن أولى هذه الفرضيات يتعلق بإمكانية وفرص تحقيق مصالحة بين نهجين لإدارة الصراع مع إسرائيل، تبلورا قبل طوفان الأقصى، مباشرة، في محورين متنافسين دوما، ومتصارعين أحياناً، هما: محور أنصار التسوية السياسية والسعي لإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تطبيع العلاقات معها، ومحور يرى أهمية استمرار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بكل الوسائل المشروعة، وفضح ممارساته وأساليبه، وتصعيد الضغوط الخارجية عليه بتدشين تحالفات دولية إقليمية داعمة للمقاومة.

هناك مخاطر ناجمة عن الصراع بين النهجين واستبعاد أحدهما لصالح الآخر، ومخاطر أخرى ناجمة عن الانحراف بأي من هذين النهجين عن الهدف المتمثل في إنجاز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتتويج نضاله وتضحياته من أجل قضيته العادلة، سواء بالتوصل إلى تسويات على حساب هذه الحقوق وعلى حساب الفلسطينيين، أو باستغلال المقاومة المسلحة والقضية الفلسطينية لتحقيق طموحات إقليمية أخرى على حساب الشعب الفلسطيني أيضاً.. وهنا استكمال لما نشر:

مقاربة الحدود

ثاني الفرضيات التي يستند إليها هذا المنظور الجديد اهتم بالكشف عن حدود هذا الصراع، الجغرافية والسياسية، ويرى أن الحدود مقاربة مهمة لفهم الصراع وقواه المحركة. فمن ناحية، تلعب الحدود دوراً مهما في تطور هذا الصراع وانحساره أو في توسيع رقعته، وهذه الحدود ليست ثابتة أو جامدة، وإنما متغيرة، تتسع أحياناً، وتضيق في معظم فترات الصراع لتتكثف على أرض فلسطين المحتلة حيث يدور الصراع بشكل يومي، وبمستويات مختلفة من الحدة والعنف، وحيث تتغير حدوده الجغرافية مع توسع الزحف الاستيطاني بشكل هادئ لترسم واقعاً جديداً يجري تثبيته، رويداً رويداً. على هذا المستوى نرى صراعا على الحدود وعلى الوجود في الوقت نفسه. 

من ناحية ثانية، أن هذه الحدود لم يجر تثبيتها بشكل رسمي، والتطورات التي تحدث في الواقع تبدل دائماً الحدود التي تُرسم على الورق. فالحدود التي تشكلت بعد حرب عام 1948، من خلال مفاوضات رودس عام 1949، لا تتطابق مع الحدود التي رُسمت على الخريطة المرفقة مع قرار التقسيم رقم 181 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر عام 1947. وتغيرت الحدود التي فرضتها خطوط الهدنة في عام 1949 في حرب عام 1967، باحتلال سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية والقدس الشرقية والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة، وبإقامة حزام أمني في الشريط الحدودي في جنوب لبنان بعد حرب عام 1982. وأُعيد ترسيم هذه الحدود مرة أخرى بموجب مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر، وانسحاب إسرائيل من سيناء، وبموجب اتفاقيات أوسلو التي رسمت خريطة منحت للسلطة الفلسطينية أريحا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء العمالي إيهود باراك من جانب واحد بالانسحاب من جنوب لبنان في عام 2000، بسبب ضربات المقاومة الفلسطينية والشيعية، وهو الانسحاب الذي عزز من نفوذ حزب الله، ثم انسحابها من جانب واحد أيضا من قطاع غزة في عام 2005، في عهد رئيس الوزراء الليكودي أرئيل شارون، وهو الانسحاب الذي عزز من نفوذ حماس في القطاع.

ترتبط مقاربة الحدود أيضا بحدود التحرك العسكري الإسرائيلي في المنطقة وتهديداتها المتكررة أنها ستتعامل مع أي خطر يهددها في أي دولة في المنطقة، وأيضا بالحدود التي يمكن أن يصل إليها نشاط المقاومة الفلسطينية والقوى الداعمة لها، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية لظاهرة الإرهاب الدولي، خصوصاً بعد عملية ميونيخ التي استهدفت أعضاء البعثة الرياضية المشاركين في دورة الألعاب الصيفية المقامة في المدينة الألمانية في صيف عام 1972، واستهداف بعثات دبلوماسية إسرائيلية ومصالح إسرائيلية ويهودية في مناطق مختلفة في العالم، والتي أدت أحياناُ إلى اشتباكات ومعارك في مطارات في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط بين المقاتلين الفلسطينيين والوحدات الإسرائيلية الخاصة. أيضاً لم تعرف إسرائيل حدوداً في حربها ضد الفلسطينيين وخصومها وضد أي تهديد لأمنها، فضربت المفاعل النووي في العراق، وتشن غارات مستمرة على مقاتلين يهددونها في سوريا واليمن ولبنان، وشنت أكثر من عدوان على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس وفي الجزائر، علاوة على العمليات المتكررة التي استهدفت الداخل الإيراني، كان أحدثها اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس في مقر إقامته بطهران.

وعلى الرغم من إعلان الرئيس السادات في خطابه أمام الكنسيت في 1977 أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، ومن الثابت إلى الآن أنها كانت فقط آخر حرب دارت بين جيوش نظامية وبين الجيش الإسرائيلي، لكن تبعتها حروب أخرى خاضها الجيش الإسرائيلي ضد تنظيمات فلسطينية مسلحة في الضفة الغربية وفي غزة وفي لبنان، وامتدت إلى اليمن ضد الحوثيين في جنوب البحر الأحمر ومع حزب الله في لبنان في عام 2006، وقد أحدثت هذه الحروب جميعاً تغييرات جذرية، وتشير الحرب الراهنة إلى احتمالات لأن تشهد المنطقة حروبا أخرى بين الجيش الإسرائيلي وجيوش نظامية، ربما تكون بدايتها في تصعيد المواجهة العسكرية مع إيران ولا أحد يعلم أين يمكن أن تقف حدود هذه الحرب، في ضوء الحشود العسكرية وتقاطعات المصالح الإقليمية والدولية، واستهداف مصالح للقوى الداعمة لإسرائيل في المنطقة وخارجها.

ثمة نقطة أخيرة متعلقة بالحدود، تتصل بالقوى المنخرطة والمشاركة في الصراع، وتتلاشى نتيجة لهذه القوى الحدود الجغرافية لتفتح الباب أمام نوع آخر من الحدود يتصل بالحدود السكانية والبشرية. فعلى الرغم من صمت الشارع العربي على ما ترتكبه إسرائيل من فظائع ضد المدنيين في غزة وفي لبنان وفي سوريا، إلا أن هذه الفظائع ستؤدي على الأرجح في لحظة ما إلى انفجارات جماهيرية واسعة في البلدان العربية إذا لم تتمكن القوى الدولية من كبح جماح اليمين المتطرف في إسرائيل. ويتصل بهذه النقطة الميل المتكررلتصاعد المواجهات المسلحة التي تندلع في خضم هذا الصراع مع تورط قوى عالمية كبرى واحتمال حرب عالمية نتيجة لذلك من الصعب التنبؤ بحدودها ومساراتها. إن رفع حالة التأهب النووي بين القوى الكبرى في حرب 1973، وكذلك الحديث المتكرر منذ بدء الحرب في غزة عن احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة من المرجح أن تكون حرباً نووية مدمرة لمناطق كثيرة في العالم نتيجة تدخل القوى الكبرى من أجل حسم الصراع لصالح أي من طرفيه، يشير إلى مدى مركزية هذا الصراع وخطورته، ويزيد من الضغوط على القوى الدولية لكبحه لمنع تصاعده إلى مواجهة عالمية شاملة.

التسوية المرحلية والحل التاريخي

الفرضية الثالثة للمنظور الجديد ترتبط بمحدودية فرص التوصل إلى حل تاريخي للصراع، مع وجود إمكانية للتوصل إلى تسويات مرحلية تؤدي إلى تحولات استراتيجية قد تفتح الباب أمام احتمالات مختلفة لمثل هذه التسوية التاريخية، إذ شهد الصراع منذ حرب 1948، تحولات استراتيجية كشفت الحدود الممكنة لتصورات الأطراف، ففي كل الحروب التي نشبت مع إسرائيل، اختلفت دائماً حسابات الحقل عن حسابات البيدر. فحرب 1948 التي شاركت فيها جيوش أربع دول عربية انتهت إلى حدود أقيمت وفق خطوط الهدنة التي جرى تثبيتها في اتفاقيات رودس، ودولياً من خلال القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في أعقاب حرب 1967، والذي دعا إلى انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو، وأكدتها القرارات الأممية اللاحقة. وأثبتت هذه القرارات أن النيران هي التي رسمت الحدود بين إسرائيل وبين الأطراف العربية، وليست القرارات الدولية ولا الأطماع الإسرائيلية أو الطموحات العربية.

استندت استراتيجية القوى الاستعمارية الكبرى تجاه منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية وحرب 1948، إلى عدة مرتكزات لحماية المصالح الغربية في المنطقة التي تشكلت الخريطة السياسية لبلدانها في الفترة التالية للحرب العالمية الأولى مباشرة. أولى هذه المرتكزات هي حماية وجود إسرائيل وأمنها، من خلال ضمان تفوقها العسكري على أي تحالف محتمل من خصومها العرب، وحكمت هذه المرتكزات التي ورثتها الولايات المتحدة الأمريكية، الميزان العسكري في المنطقة منذ خمسينات القرن الماضي، إلا أن المنطقة شهدت في السنوات الماضية تحولات استراتيجية ارتبطت بالتحولات الدولية، ساهمت في تعديل ميزان القوة الشاملة في مواجهة إسرائيل وحلفائها. كما طرأت تغيرات جذرية على مفهوم الحرب وأساليب إدارة الصراع، أثرت في المسارات المرسومة للصراع من قبل أطرافه الفاعلة، على نحو أثبت إلى حد كبير ارتباط قرار الحرب والسلام بالتحولات السياسية الداخلية من ناحية، وبالتحولات في النظام الدولي الذي يشكل سقفا لما يمكن أن يصل إليه الصراع من ناحية أخرى. 

ثمة شيء ثابت على الرغم من هذه التحولات، هو غلبة منطق إدارة الصراع على منطق حسمه أو حله. وصدرت تقارير في عام 1992، مواكبة لانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في أعقاب حرب الخليج عام 1991، أشارت إلى أن الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الأب، لا تعمل على حل هذا الصراع وإنما تعمل على استمراره وتعزيز قدرتها على إدارته، رغم الضغوط غير المسبوقة التي مارستها على رئيس الوزراء الإسرائيلي المتشدد اسحق شامير للمشاركة في المؤتمر الذي دعت إليه واشنطن كمحاولة لحل الصراع الرئيسي في المنطقة، أملاً في التوصل إلى ترتيبات أكثر استقراراً لأمن المنطقة. لكن ليس من الواضح إذا كان هذا نابعا من رغبة أمريكية لاستمرار الصراع الذي يحقق مصالحها، أم أنه ناتج عن إقرارها بحقيقة أن هذا الصراع يستعصي على الحل؟ 

من الثابت من تحليل سياسات القوى الكبرى تجاه هذا الصراع أنه يجري استغلاله لتحقيق مصالح قد تكون متعارضة لهذه القوى، وتشير دراسات تاريخية موثقة إلى الدور الذي لعبته فرنسا في تعزيز القدرة العسكرية للعصابات الصهيونية في فلسطين تحت الانتداب، لزعزعة النفوذ البريطاني في فلسطين والأردن ومن أجل تعزيز هيمنتها الاستعمارية على منطقة الشام، وهو الدور الذي استمر بعد قيام إسرائيل، إذ كانت فرنسا هي الداعم الرئيسي للدولة الوليدة استراتيجياً وعسكرياً، ومن الثابت أيضاً أن فرنسا هي من دعمت البرنامج النووي الإسرائيلي، وكانت إسرائيل شريكة لها ولبريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 والتي عارضتها الولايات المتحدة. ولم تسمح الإرادات المتصارعة في المنطقة وتوازن القوى السائد بالوصول إلى لحظة تتمكن فيها أي من هذه القوى من حسم الصراع لمصلحتها، ولم تمتلك القيادات الشجاعة للإقدام على اتخاذ قرارات مصيرية قد تغير معادلته، والقتل قد يكون مصيرها إذا فعلت ذلك كما يتضح من مصير الرئيس السادات ومصير رابين. 

يُزيد من تعقيد الصراع وعدم القدرة على اتخاذ قرارات تستجيب للتحولات في البيئة الاستراتيجية الدولية والبيئة السياسية الداخلية، تعدد اللاعبين المنخرطين في الصراع وانخراط أطراف من غير الدول فيه، بظهور جماعات المقاومة المسلحة من الفلسطينيين وفي دول أخرى ودخول لاعبين آخرين من المنطقة نتيجة لدوافع دينية وعقائدية، الأمر الذي أضاف تعقيداً على ميزان القوة الذي يضمن أمن إسرائيل، وتشابك قضايا المنطقة مع هذا الصراع حسبما كشفت المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني وقدراتها الصاروخية والعسكرية. كذلك أثرّت التحولات في أساليب الحرب، على ميزان القوى مع انخراط جماعات مسلحة غير الجيوش النظامية ودخول المسيرات والصواريخ في معادلة القوة، وظهور أنماط جديدة مثل الحروب منخفضة الشدة وحرب العصابات والحروب غير المتكافئة، والتي أكدت الحرب الراهنة أن تأثيرها سيكون حاسماً في المستقبل خصوصاً إذا ما ساهمت في تعزيز الردع. ورغم تلك التغيرات، يظل نمط الاستراتيجية المتبعة، وما إذا كانت دفاعية أم هجومية، هو المسألة الحاسمة. ومن الملاحظ، حدوث توسع في الانتقال من الدفاع إلى الهجوم أو من الهجوم على الدفاع، إذ بات هذا الانتقال سمة مشتركة للمنخرطين في الصراع، فلم يعد هناك طرف يتبنى استراتيجية دفاعية طول الوقت، كما أن الدفاع لا يقتصر فقط على الحروب والصراعات المسلحة وإنما يمتد إلى الأدوات التي تستخدمها الدول وفي مقدمتها الوسائل السياسية والدبلوماسية. 

 

التناقضات الحاكمة للصراع وآفاق التحرر العالمي

الفرضية الرابعة والأخيرة تتعلق بضرورة التحليل المستمر للتناقضات الحاكمة للصراع والتي تشهد تغيرات مستمرة لارتباط كثير منها بالتناقضات الداخلية والتناقضات الإقليمية. والمُلاحظ هنا أنه لم يعُد هناك ثبات فيما يعد تناقضاً رئيسياً وفيما يعد تناقضات ثانوية، إذ تختلف رؤية هذه التناقضات بالرؤى الأيديولوجية للأطراف المختلفة وبالتصورات للصراع. ويساعد تحليل التناقضات في تحديد طبيعة الصراع وفرص حله أو تسويته. وعلى الرغم من وجود توافق دولي عام على أن حل الدولتين هو أساس تسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، إلا أن هذا فرص هذا الحل كانت تتآكل نتيجة لسياسات الاستيطان الإسرائيلية التي تقلص مساحة الأرض التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية المنشودة، فضلا عن عدم وجود تواصل جغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، كما أظهر موقف إدارة ترامب (2016-2020)، أن الالتزام الدولي بهذا الحل قابل للتغير، لصالح حل الدولة الواحدة، كذلك أثرت هذه الحرب على موقف القوى المختلفة في إسرائيل وتعزيز رفضه مهما تكن الضغوط الدولية.

وكانت منظمة التحرير الفلسطينية، هي أول من وضع حل الدولة الديمقراطية الواحدة، كأحد الحلول المتصورة للصراع في عام 1974، لكن هذا التصور قوبل بمعارضة من الأحزاب الصهيونية الرئيسية التي تتمسك بفكرة أن إسرائيل دولة يهودية، والتي تخشى من تعاظم القوة النسبية للفلسطينيين الذي سيتفوقون ديموجرافياً على السكان اليهود، الأمر الذي دفعهم إلى قبول حل الدولتين لضمان النقاء اليهودي للدولة، وهذه المخاوف هي السبب الرئيسي الذي دفع القيادات في إسرائيل إلى عدم الإقدام على ضم الضفة الغربية وشجعتهم على الانسحاب من قطاع غزة، وقبول تسوية تقوم على حل الدولتين، الذي يحقق الفصل بين الجماعتين القوميتين، اليهودية الإسرائيلية والفلسطينية العربية. غير أن تطور النظام السياسي في إسرائيل ومنح حقوق مواطنة للفلسطينيين الذين بقوا في حدود الدولة التي أقيمت بعد حرب 1948، بعد فرض الجنسية الإسرائيلية، وتطورهم نتيجة لانخراطهم في الحياة السياسية للدولة، كشف عن مسار آخر لتطور الدولة في اتجاه الدولة ثنائية القومية، وقد ترتب على هذه التجربة بروز تناقض في المصالح بين الأقلية الفلسطينية في الداخل وبين فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، رغم التضامن مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأصبح هناك نوع من التماهي مع مصالح الدولة الإسرائيلية في الحرب الراهنة ضد حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وحزب الله في جنوب لبنان.

كذلك أصبح التناقض بين السنة والشيعة، والتناقض بين نظم الحكم في كثير من الدول العربية وبين تيارات الإسلام السياسي بصيغتيه السنية والشيعية تناقضاً رئيسياً يسبق التناقض مع إسرائيل ومشروعها في المنطقة، وبات هذا التناقض عاملاً رئيسياً في تشكيل مواقف أطراف عربية رسمية وغير رسمية في الحرب التي أطلقت عملية "طوفان الأقصى" شرارتها، ومن المحتمل أن تؤدي هذه المواقف إلى تحالفات جديدة ناشئة لكن لم تتبلور شروطها الموضوعية بعد، لكن تعمل قوى كثيرة على إنضاجها. ولم يكن هذا هو التناقض الوحيد الذي كشفته الحرب، إذ كشفت عن تناقض آخر ناشئ داخل إسرائيل قبل الحرب، ومستمر على ما يبدو، ولم يساعد الخطر المتصور الذي تشكله حماس وحزب الله على التخفيف من حدته، ويرى إيلان بابيه، أحد أبرز تيار المؤرخين الجدد اليهود، والمعادي للصهيونية والداعم للحقوق الفلسطينية، أنه تناقض بين "دولة يهوذا"، التي تريد أن تكون إسرائيل أكثر تديناً وتعصباً وتسعى لفرض حكم ثيوقراطي، وبين "دولة إسرائيل" التي يدافع عنها الإسرائيليون الأكثر علمانية، والتي تستند إلى قوانين أساسية تتماشى مع دساتير الدول الديمقراطية، والتي سعت حكومة نتنياهو إلى الانقلاب عليها، مما تسبب في احتدام الصراعات الداخلية التي كانت تتصاعد قبل "طوفان الأقصى"، ويستبعد بابيه، أن يؤدي حسم الصراع الداخلي لصالح إسرائيل الديمقراطية إلى تغيير موقف اليهود من الفلسطينيين، أو من السياسات الاستعمارية تجاههم، وأن الطريق الوحيد لتغيير هذه الموقف والسياسات هو الضغط الخارجي على إسرائيل. 

على الرغم من أن هذا الاحتمال كان بعيداً، على ما يبدو، في ضوء الدعم الدولي الذي حظيت به إسرائيل في بداية الحرب، رغم الجرائم البشعة التي ارتكبتها ضد المدنيين الفلسطينيين، إلا أن القوى الدولية الداعمة لإسرائيل، بما في ذلك الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وضعت قيوداً على الطموحات الإسرائيلية والأهداف العليا التي كانت تسعى لتحقيقها خلال الحرب، وفي مقدمتها تنفيذ سيناريو تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء المصرية، رغم تأييد البعض في هذه الدول لمثل هذا الحل على أنه يوفر حلا مستداماً لمشكلة غزة، ومن المحتمل أن تضطر هذه القوى إلى زيادة الضغط على حكومة نتنياهو لوقف الحرب، لكن من شأن هذه الضغوط أن تشجع المزيد من القوى التي تسعى للقضاء على إسرائيل إلى التشدد، الأمر الذي يزيد من فرص القوى الأكثر تشدداً في إسرائيل، وبالتالي يزيد من احتمالات استمرار الحرب وتوسعها إقليمياً، وهو ما تسعى إليه قيادة حماس من أجل تكثيف الضغوط الخارجية على إسرائيل على نحو يؤدي إلى انهيار تماسكها الداخلي، وما ينطوي عليه ذلك من احتمالات لتغييرات جذرية.
________________________
بقلم: أشرف راضي
من صحيفة المشهد الأسبوعية
الحلقة السابقة

العدد 336 من صحيفة المشهد - ص 7



مقالات اخرى للكاتب

المطران جورج شيحان لـ