تحت شمس أسوان الدافئة يوم 18 يناير 1974 ، كان السادات مجتمعاً مع كيسنجر الذي حضر من رحلته المكوكية إلي إسرائيل ، همس كيسنجر في أذن السادات أنه يحمل رسالة شخصية له من جولدا مائير ، عبرت فيها عن تشوقها للسلام ، وعندما انتهي السادات من قراءة الرسالة ( وفقاً لمذكرات كيسنجر ومصادر إسرائيلية مرفقة ) ، دخل أشرف مروان وانحني علي أذن السادات ليخبره أن وفدي مصر وإسرائيل في محادثات الكيلو 101 قد توصلا إلي إتفاق أخيراً ، حينها وقف السادات وعانق كيسنجر وقبله من وجنتيه ، ثم بعد لحظة صمت وسكون مسرحية ، نظر إلي كيسنجر قائلاً بصوت رخيم يهتز بعبرات المناسبة : " اليوم ، سوف اخلع الزي العسكري ، ولا أتوقع أن أرتديه مرة أخري إلا في مناسبات رسميه ، يا هنري قل لجولدا أن تلك هي إجابتي علي رسالتها " .
كان العميل ( الملاك ) أشرف مروان يقف في تلك اللحظة في نفس الحجرة ، وكان المشهد في واقع الأمر وبعد قراءة كل ما كتب تقريباً حول هذه الفترة (حتي كتابة كتابي هذا ) يبدو مشهداً من التراجيديا اليونانية ، فيه الشخصية الرئيسية ( السادات ) في منتصف المسرح ، وخلفه ( الملاك ) الذي طعن القوات المسلحة المصرية في الظهر ، وعلي مر سنوات منح العدو الصهيوني كل المعلومات حول تنظيم وخطط القوات المسلحة ، بل وتاريخ الهجوم المصري والسوري ، وفي جانب المسرح وقف كاهن الدبلوماسية كيسنجر الذي استكمل المذبحة في سلخانة الدبلوماسية ، طبقاً لما أوضحته في الفصل السابق .
“The Angel The Egyptian Spy Who Saved Israel” Uri Bar-Joseph:
لقد قدم رئيس الموساد هدية خاصة بعد حرب أكتوبر تقديراً لخدمات أشرف مروان الجليلة التي انقذت إسرائيل ، وتمثلت الهدية في مبلغ 100 ألف دولار ، وكما ورد في مذكرات مدير الموساد فأنه لم يعد قلقاً بشأن كيفية إخفاء أشرف مروان لثروته التي تضخمت ، حيث أكد له أشرف نفسه ، أنه في بلد مثل مصر ، حيث تكون الرشوة هي القاعدة وليست الإستثناء ، فأنه لا حاجة لمن تزوج إبنة عبد الناصر أن يفسر كيف تضخمت ثروته ، لأن الإجابة واضحة ولا تحتاج حتي لسؤال .. هذا رجل فوق الشبهات ، وثروته قد تكون تربح أو إستغلال نفوذ أو أي شيئ آخر شرعي أو غير شرعي ، وليس عليه رقيب أو حسيب .
ومن الطرائف المريرة التي وردت في كتب رجال الموساد حول ( الملاك ) أن رئيس الموساد ( زامير ) طلب من رجاله شراء خاتم من الماس في تل أبيب ، كي يسلمه لمروان كي يقدمه لزوجته الذي كانت حياته الزوجية معها تمر ببعض المشاكل ، وهكذا – كما قال رئيس الموساد – تم إصلاح العلاقة بين إبنة عبد الناصر وزوجها بأموال دافع الضرائب الإسرائيلي .
وقد بدأ الكشف عن دور أشرف مع الموساد الإسرائيلي في منتصف تسعينات القرن الماضي ، عندما حاول مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية ( زائيرا ) الدفاع عن تهمة تقصيره في حرب أكتوبر ، حيث اتهم الموساد بأنها وقعت ضحية لخداع عميل مصري مزدوج ، زود المخابرات بمعلومة غير دقيقة عن موعد بدء العمليات يوم 6 أكتوبر 1973 ، وهو ما أدي إلي الخسائر الفادحة التي مني بها الجيش الإسرائيلي خاصة في الأيام الأولي للحرب .
وقد اعترض مدير الموساد ( زامير ) علي ذلك الإتهام ، وقام برفع دعوي علي مدير المخابرات المذكور ، فقام قاضي التحقيق بإصدار حكمه بأن الجاسوس المصري وفقاً للوثائق والمستندات لم يكن جاسوساً مزدوجاً .. ومنذ تلك اللحظة بدأ " زائيرا " في تسريب معلومات عن ذلك الجاسوس تدريجيا لبعض كتاب الأعمدة في الصحف الإسرائيلية ، وكذلك بعض كبار المؤرخين ، وفي كل مرة كانت ملامح ذلك " الجاسوس المصري " تتكشف قطعة قطعة ، حتي تبروز في النهاية إسم " أشرف مروان " ...
وقد دافع أشرف مروان عن نفسه ، ولم يكن لديه سوي التأكيد علي أنه كان يعمل لصالح مصر ، وهو ما تكفلت كتب المؤرخين التي اعتمدت علي وثائق الموساد بتفنيده بشكل كامل ، فلقد كانت المعلومات التي نقلها الرجل متنوعة وخطيرة ، بل وتسببت بالفعل في مشاكل للقوات المصرية ، وكذلك السورية لأن القادة الإسرائيليين كانت لديهم كل خطط العمليات ، بأرقام الوحدات والتسليح بل وأسماء القادة ..
وبعد ذلك بعدة أعوام ، سقط اشرف مروان جثة هامدة من شرفة الشقة التي كان يملكها في حي الأثرياء في لندن ، ولم يستطع الأسكوتلانديارد أن يؤكد أو ينفي ما إذا كان الرجل قد انتحر أم تم قتله .
وبعد كل ما تقدم ، بقي السؤال معلقاً في سماء مصر : كيف مات أشرف مروان ؟ ، هل انتحر كما ذهبت بعض الروايات ؟ ، أم أن الموساد قد اغتاله بناء علي تيقنهم أخيراً من أنه لم يكن سوي عميل مزدوج كان يخدعهم طول الوقت ، ويمدهم بمعلومات يعلم المصريون جيداً أن إسرائيل يمكنها الحصول عليها بوسائل أخري ، بينما تسببت خدعته الأخيرة القاتلة حول موعد بدء العمليات العسكرية من الجانب المصري ، هي الهدف الذي ظلت المخابرات المصرية ترتب له في انتظار اللحظة التي يقرر فيها السادات تاريخ بدء الحرب كي يتم تغذية إسرائيل بنصف المعلومة ، مع إخفاء نصفها الآخر ، بما يكفي لحماية عبور القوات المصرية قبل أن تتنبه القيادة الإسرائيلية للخديعة .. فهل أغتاله الموساد فعلاً ؟ ..
في هذه الحالة يصبح من غير المفهوم أن " بطولته " في خديعة المخابرات الإسرائيلية لم تصبح مجال فخر وزهو يتباهي بها المصريون ، مثلما يتباهون مثلاً بقصة رفعت الجمال ( رأفت الهجان) أو ( جمعة الشوان ) أو حتي البطولات التي صورتها الفنانة نادية الجندي ( مهمة في تل أبيب ) الذي لعبت فيه دور عميلة مزدوجة خدعت المخابرات الإسرائيلية ، و ( 48 ساعة في إسرائيل )... إلخ
وإذا لم يكن الأمر كذلك ، وكان أشرف مروان مجرد جاسوس خان بلاده لأسباب كثيرة وردت في أكثرمن كتاب تم نشره عن حالته وظروف تطوعه بنفسه للتجسس ، فإن الشكوك تتزايد بأن المخابرات المصرية هي التي قامت بقتله ، كعقاب متأخر له عن خيانته ..
ولكن كيف يتأتي ذلك ، إذا كان الرئيس الأسبق مبارك قد قال عنه أنه " وطني وأدي خدمات جليلة لمصر " ، كما تم توديع جثمانه توديعاً رسمياً من مسجد عمر مكرم ، وأم صلاة الجنازة د. سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر ، وشارك في الجنازة صفوت الشريف رئيس مجلس الشوري ( وضابط المخابرات العامة القديم ) ، وأحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب ، وجمال مبارك ( صديق إبن مروان أيضاً ) ، فضلاً عن عدد كبير من الوزراء وكبار المسئولين .
ومن الطبيعي أن نتشكك فيما قد يرد علي ألسنة العدو الصهيوني ، إلا أن ذلك العدو نفسه شكل لجنة قضائية للتحقيق في تقصير الجيش الإسرائيلي ( لجنة القاضي إجرانات )، وخضع لذلك التحقيق كل قيادات العدو بما في ذلك رئيسة الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشيه دايان وغيرهما ، وقد وردت في تلك التحقيقات معلومات عديدة عن ذلك العميل المصري ( الملاك ) ، وما قدمه من معلومات هامة وإستراتيجية ، بما يجعل المرأ حائراً ..
نعم ، ليس مطلوباً أن نصدق كل ما يقوله العدو ، ولكن من حقنا أن نتساءل علي الأقل .. علي أضعف الإيمان ..
-------------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
( جزء من الفصل السابع من كتاب مساعد وزير الخارجية السابق " دبلوماسية العبور " – تحت الطبع - )