15 - 01 - 2025

"القمع المقدس" وأزمة الإنسان

(قراءة نقدية لمقال الاستاذ أشرف راضي: "القمع المقدس".. ورؤية فلسفية عميقة لأزمة الإنسان)

مقدمة

تعرض المقالة إشكالية القمع بأشكاله المختلفة، وتستعرض رؤية نقدية غنية لأزمة الإنسان في مواجهة الاستعباد الطوعي ليس فقط كفعل خارجي تمارسه السلطة، بل كحالة داخلية متجذرة في النفس البشرية، مما يعكس أزمة أخلاقية ومعرفية حادة، كما تشير المقالة إلى دور الأديان والعقائد الكبرى في تشكيل هذه الأزمة، حيث إن الإيمان، الذي يُفترض أن يكون محرراً للإنسان، يُستغل أحياناً لفرض الهيمنة.

ويرتكز الطرح أيضاً على نقد السلوك البشري الذي ينساق وراء الخضوع الطوعي، مستشهداً بمشاريع فكرية فلسفية ونفسية كبرى مثل كتاب "الخوف من الحرية" لإيريك فروم، في السعي إلى تحرير الإنسان عبر القلق المعرفي والتفكير النقدي، وكتاب "العبودية المختارة" لإتيان دو لا بويسي، في كيف يساهم الخضوع الطوعي للشعوب في استدامة الاستبداد. ومن اللافت أن الطرح يرتكز على محورية فكرة الحرية كإشكالية جوهرية في حياة الإنسان، وما يميز هذه الرؤية هو الربط بين الأبعاد النفسية والبيولوجية للإنسان وبين الأزمات الاجتماعية والسياسية، مما يفتح الباب أمام فهم أكثر تعقيداً لإشكالية الحرية والوعي في حياة البشر.

كما تثير المقالة المناقشة بالسؤال المحوري الذي طرحه الدكتور حسن حماد في كتابه "القمع المقدس" ويتمثل في: لماذا يقبل الإنسان طواعية الإذعان والاستعباد؟ مما يثري النقاش حول ميل الإنسان إلى الإذعان الطوعي، سواء كان هذا الإذعان دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً

تحليل الفكرة المركزية: أزمة الحرية والوعي

المقالة تشير بوضوح إلى أن القمع ليس مجرد أداة تمارسها السلطة على الفرد، بل هو أيضاً حالة داخلية متجذرة في النفس البشرية، تتخذ طابعاً داخلياً ينبع من ميل الإنسان إلى الإذعان الطوعي، سواء لأسباب دينية أو اجتماعية، هذه الفكرة المركزية تجد صداها في أطروحات فروم، الذي يؤكد في "الخوف من الحرية" أن الإنسان يعاني من قلق وجودي يدفعه أحياناً إلى البحث عن الأمان في عبودية طوعية تجاه السلطة أو المقدس، كما يعزز إتيان دو لا بويسي الطرح بأن الاستعباد ليس دائماً مفروضاً بالقوة، بل قد يكون خياراً واعياً نتيجة الخوف من الحرية.

فالإذعان كما أشارت الكتابات المستعرضة، يعكس إشكالية أخلاقية ومعرفية، حيث يتحول الإيمان الذي يفترض أن يكون محرراً إلى أداة للاستلاب حين يُستغل لفرض العبودية باسم المقدس، وهنا يتجلى البعد النفسي للقمع، حيث يصبح الإذعان وسيلة للهروب من المسؤولية الأخلاقية والمعرفية، ولذا فإن إيريك فروم الذي استدعي في أكثر من موضع، يُركز في مشروعه الفكري على تحرير الإنسان من هذا التناقض عبر "القلق المعرفي"، وهو مفهوم شديد الأهمية لأنه يمنع الوقوع في فخ الحقيقة المطلقة، وكذلك الربط بالبعد البيولوجي للسلوك الإنساني كما في كتاب "الجين الأناني" لدوكينز الذي يعزز الطرح بأن الأنانية ليست عرضاً طارئاً، بل جزء أصيل من الطبيعة البشرية.

الجانب الأخلاقي: الوعي كآلية للتحرر

التركيز على الأخلاق كحل جذري لأزمة الإنسان المعاصر يعكس رؤية فلسفية عميقة، فالمقالة تحاول ربط الفشل في مواجهة القمع بالأزمة الأخلاقية، وهو طرح يتسق مع ما ذهب إليه فلاسفة مثل كانط ونيتشه، حيث يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، أن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا عبر الالتزام الأخلاقي الناتج عن إرادة عقلانية، فالأخلاق القائمة على مبدأ الحرية هي الأساس لتحرر الإنسان، وفي المقابل يشير فريدريك نيتشه إلى أن التحرر الحقيقي يتطلب تجاوز الأخلاق التقليدية وإعادة صياغة القيم بما يتلاءم مع إرادة الإنسان القوية.

وتُركز المقالة على أهمية التسلح بالوعي والمعرفة كآلية للتصدي للقمع، فهما يمثلان مسيرة الإنسان نحو التحرر، حيث يرتبط التحرر عند الإنسان بقدرته على إدراك ذاته وتجاوز نزعاته البدائية، وكما ذكر فروم في كتابه "الإنسان بين الجوهر والمظهر" ألا يمكن للإنسان أن يكون حراً ما لم يتحرر من عبودية ذاته. فهذا التحرر يتطلب وعياً نقدياً مستمراً، يعكس تطوراً أخلاقياً قادراً على مقاومة الخضوع والاستغلال، كما يرى الدكتور أحمد عكاشة في كتابه "ثقوب في الضمير" أن الأزمات والانحطاط الأخلاقي في المجتمعات تسهم في خلق بيئة خصبة لانتشار القمع، والحل وفقاً لعكاشة وفروم يكمن في التسلح بالمعرفة والوعي، وعدم الانجرار وراء القطيع، بل العمل على بناء مجتمع قائم على الثقة المتبادلة والأخلاق السامية.

لكن المقالة في الوقت نفسه تدعو إلى الحذر من الانزلاق نحو العنف أو التوحش في مواجهة الظلم، وهي دعوة تنسجم مع المشروع الفكري لإيريك فروم، الذي يحذر من أن التحرر الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التفكير النقدي المستمر والارتقاء الأخلاقي.

الربط بين البعد البيولوجي والأخلاقي للسلوك الإنساني

من المثير للاهتمام أن المقالة تتطرق إلى البعد البيولوجي في تفسير السلوك البشري، مستعينةً بكتاب "الجين الأناني" لريتشارد دوكينز، ووفقاً لدوكينز فالأنانية ليست مجرد سلوك مكتسب، بل هي جزء أصيل من الطبيعة البشرية، مما يفسر لماذا ينجرف بعض الأفراد إلى استغلال الآخرين في ظل غياب رادع أخلاقي.وهذا الربط بين الجينات والسلوك الأخلاقي يعكس رؤية فلسفية ترى في الإنسان كائناً ممزقاً بين دوافعه الغريزية وحاجته إلى التحضر، لذلك تشير وتؤكد المقالة أن الوعي الأخلاقي هو المفتاح لتحرر الإنسان من هيمنة غرائزه البدائية.

كتاب "السرب البشري" لمارك موفيت

يطرح الدكتور حسن حماد سؤالاً محورياً؛ لماذا يقبل الإنسان طواعية الإذعان والاستعباد؟ وفي سياق مشابه لما طرحه الدكتور حماد، يأتي كتاب "السرب البشري: كيف تنشأ مجتمعاتنا وتزدهر وتسقط" لعالم الأحياء مارك موفيت، ليوضح كيف تتكون المجتمعات البشرية من منظور بيولوجي. حيث يرى موفيت أن المجتمعات ليست كيانات ثابتة، بل تتطور باستمرار وفقاً لظروف بيئية وسياسية معقدة، ويشير إلى أن التماسك الاجتماعي ينبع من طبيعة البشر ككائنات اجتماعية، لكنه أيضاً يجعلهم عرضة للاستغلال من قبل القادة والمستبدين.وهذا الطرح يعزز فكرة أن الإنسان لا يقبل الإذعان فقط بسبب عوامل نفسية أو ثقافية، بل لأن هناك جذوراً بيولوجية تدفعه إلى التبعية ضمن الجماعات التي توفر له شعوراً بالانتماء والأمان، وهذا ما يجيب على السؤال الجوهري المطروح

وحتى تكون صورة الاجابة أشمل وأوضح يتطلب الأمر دمجاً بين التفسيرات النفسية والبيولوجية والفلسفية، فمن منظور نفسي؛ يرى فروم أن الخوف من الحرية يدفع الإنسان إلى البحث عن أمان زائف تحت مظلة السلطة أو الدين، ومن ناحية بيولوجية؛ يوضح داوكينز في كتابه "الجين الأناني" أن الأنانية المجبولة في الإنسان تدفعه إلى استغلال الآخرين أو الخضوع لهم لتحقيق مكاسب شخصية، وفلسفياً يشير نيتشه إلى أن ضعف الإرادة هو ما يجعل الإنسان يرضى بأن يكون عبداً، في حين أن الإنسان المتفوق هو من يخلق قيمه بنفسه.

ما تعودناه دائما من الاستاذ أشرف راضي هو أن نتفتح بإعمال العقل، وغرائزنا نحو المعرفة لنساهم بقوة في الطرح، فرغم قوة الطرح إلا أنه لم يوضح بصورة أدق كيف يمكن ترجمة الوعي والمعرفة إلى أدوات عملية لمحاربة القمع والفساد في المجتمع، فالتسلح بالوعي والمعرفة وحده قد لا يكون كافياً في ظل تعقيد الأزمات المجتمعية وتداخلها مع العوامل السياسية والاقتصادية، إضافة إلى ذلك كان من المفيد الإشارة إلى نماذج تاريخية أو معاصرة نجحت في التعامل مع هذه التحديات من خلال فكر نقدي أو مشاريع تنويرية، واعتقادي أن الصديق العزيز ترك لنا عنان التفكير بحرية نحو هذا المشروع

-  كيف يمكن ترجمة الوعي والمعرفة إلى أدوات عملية لمحاربة القمع والفساد في المجتمع؟

الوعي والمعرفة ليسا مجرد مفاهيم نظرية، بل يمكن تحويلهما إلى أدوات عملية تُسهم في بناء مجتمع أكثر عدالة ومقاومة لكل أشكال القمع والفساد، ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من توظيف الوعي الفردي والجماعي في مسارات واضحة تتضمن ما يلي

١التعليم التنويري والتربية النقدية.

٢نشر الثقافة القانونية.

٣بناء مؤسسات المجتمع المدني المستقلة

٤الإعلام الحر والمستقل.

٥تعزيز المبادرات الاقتصادية المستقلة.

٦المشاركة السياسية الفعالة.

٧تطوير خطاب ديني تنويري.

ترجمة الوعي والمعرفة إلى أدوات عملية يتطلب جهداً جماعياً مستمراً، يقوم على التعاون بين الأفراد والمؤسسات، ولا يمكن لأي فرد أو جهة أن تحل أزمة القمع والفساد بمفردها، بل يحتاج المجتمع إلى تكامل الجهود في جميع المستويات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فإن بناء مجتمع عادل يتطلب وعياً متسلحاً بالأمل والعمل، فالمعرفة وحدها لا تكفي، بل يجب أن تقترن بالإرادة والتطبيق العملي لتحقيق التغيير المنشود.

 - نماذج تاريخية أو معاصرة نجحت في التعامل مع هذه التحديات من خلال فكر نقدي أو مشاريع تنويرية:

١ عصر التنوير في أوروبا (القرنين ١٧-١٨) وموجات الفكر النقدي التي ركزت على تحرير الإنسان من هيمنة السلطة الدينية والاستبداد السياسي

٢ غاندي وحركة الاستقلال في الهند (١٩٢٠-١٩٤٧).

٣ حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية (١٩٥٥-١٩٦٨(

٤ حركة التضامن في بولندا (١٩٨٠-١٩٨٩)

٥ تجربة رواندا في المصالحة الوطنية (١٩٩٤ – الآن).

٦ مشروع التنوير في تونس (ما بعد ٢٠١١)

هذه النماذج التاريخية والمعاصرة تبين أن الفكر النقدي والمشاريع التنويرية يمكن أن تكون أدوات قوية في مواجهة القمع والفساد، إذا تم تحويلها إلى حركات جماهيرية واعية ومؤسسات فاعلة، والنجاح في محاربة القمع والفساد يتطلب بناء ثقافة مجتمعية تؤمن بالتغيير من خلال التنوير، وتعزز قيم الحرية والعدالة والمساءلة.

دعوة مفتوحة للتفكير النقدي المستمر

 • المقالة تنتهي بدعوة مهمة ومفتوحة للتسلح بالوعي والمعرفة، كأساس للتحرر الإنساني، فإن مواجهة القمع، سواء كان مقدساً أو غير مقدس، تتطلب وعياً نقدياً متسلحاً بالمعرفة والأخلاق، وتحذر المقالة من الانزلاق إلى التوحش أو الانغلاق الفكري.

 • هذه الدعوة تتناغم مع مشاريع التنوير الكبرى التي تنادي بالتحرر عبر التفكير النقدي المستقل والارتقاء الأخلاقي

 • مسار الوعي والمعرفة يتطلب جهداً مستمراً لتجاوز الإغراءات التي تفرضها السلطة أو المقدس، وهذه الدعوة تتناغم مع مقولة إيريك فروم الشهيرة: "وتعرفون الحق، والحق يحرركم".

•  إن الحرية لا تتحقق إلا من خلال فهم الإنسان لنفسه ولمجتمعه، والعمل المستمر على تطوير ذاته والارتقاء بها.

 • في ظل الأزمات الراهنة، يصبح من الضروري تعزيز ثقافة التفكير النقدي في المجتمعات، وتطوير آليات تعليمية وإعلامية تشجع على البحث والابتكار بدلاً من التبعية والخضوع.

 • المقالة تمثل إسهاماً قوياً وجاداً في النقاش الفلسفي حول أزمة الإنسان المعاصر، وتستحق مزيداً من التأمل والنقاش لتعميق فهمنا لهذه الإشكالية

•  يظل السؤال المطروح هو: كيف يمكن للفكر النقدي أن يترجم نفسه إلى تغيير عملي في واقع معقد تسوده الهيمنة بأشكالها المختلفة؟.
--------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش

مقالات اخرى للكاتب