21 - 01 - 2025

في صالون عرفات كانت لنا حكايات (1)

في صالون عرفات كانت لنا حكايات (1)

تمثِّل الصَّالونات الثَّقافيَّةُ ثقافة موازيةً للثَّقافة الرّسميَّة؛ بحيثُ يمكنُنا عدّها ثقافةً أقربَ إلى رُوح المجتمعِ، ونسيجه، وواقعه الثّقافيّ الحقيقيّ دون تزييفٍ أو مواءماتٍ، ومحاذير؛ لما تتّسم به حواراتٍ مفتوحة للتّعبير الحرّ دون تقاليدَ رسميَّةٍ تحدّها بحدودٍ صارمةٍ، أو محظوراتٍ مقيّدة، بل هي تقاليد اتّفق عليها روادها بصورة مضمرة أو علانية جماعيَّة متفق عليها فيما بينهم، بما لا يحرمهم العفويّة، ولا يترك الفرصة للعشوائيّة والطفيليَّة والصّيحات الادّعائيَّة.

ومن ثمَّ؛ فقد بدأت هذه الظّاهرة التي تدْعُو لمزيدٍ من الفخْرِ بثقافتنا العربيَّةِ منذُ فجرها في العصْرِ الجاهليّ، وتوهّجتْ، وأثرتْ مع توالي الحقبِ الإسلاميَّة؛ مما سوف نتعقَّبه بمزيدٍ من التّفاصيلِ والحكايات من خلال هذه السِّلسلة من حكايات صالون عرفات.

عرفتُ الصَّالوناتِ الثَّقافيَّةَ منذُ ما يقرب من ثلاثينَ عامًا، أو يزيدُ منذ كنّا نعقدُها في القريةِ  في بيتِ أحد المثقَّفين، فنجلسُ من  بعدَ صلاة العِشاءِ إلى ما بعد منتصفِ اللَّيْل،  نتبادلُ الفِكرَ والثَّقافة والعلمَ والأدبَ حول موضوعٍ، تمّ الاتِّفاقُ عليه من نهاية الصَّالون السَّابقِ، وانتقلتُ منَ الصَّالوناتِ المحليَّة في الغربيَّة ودمنهُور والقاهرةِ، إلى أن  صِرتُ أحد الأعضاءِ الأساسيّين في صالونِ مساءاتِ المحبَّة في صَبْيَاء عرُوس الجنوبِ  في المملكةِ العربيَّة السُّعوديَّةِ، وألقيتُ فيه بضعَ محاضراتٍ، وعشراتِ المداخلاتِ، وكنتُ طرفًا فاعلًا في كل مناشطهِ الثَّقافيَّة، ومشاركًا في تدبير فاعليّاتهِ، واختيار ضيوفهِ، وحضرتُ صالون الذّرويّ الذي كان يُعرفُ في السُّعوديَّة بديوانيَّة الذّرويِّ؛ على عاداتهم بتسميةِ الصَّالونات بأسماءِ الأماكنِ التي تُدار فيها، أو الأزمنةِ التي تَحتويها؛ كالإثنينيَّة، والثَّالوثيَّة، والخِميسيَّة،...إلخ.

ولما عدتُ إلى أرض الوطنِ اجتمعتُ مع مجموعة بارزة من المثقَّفين المهمّين في جلسة على ضِفافِ نهر النِّيل الخالد في كفر الزَّيّات، واتَّفقنا أن نجتمعَ بصِفةٍ دَوريَّة يكون فيها حديثنا مؤطَّرًا بالزَّمان والمكانِ والموضوع والضُّيوف وتنظيم المداخلات؛ فكان صالون الأديبِ والرِّوائي والمفكِّر المصريّ الكبير محمود عرفات لما يتّسِمُ بهِ من خُلقٍ دَمثٍ، يجمعُ إليه كلَّ قلوبِ المثقَّفينَ والمفكِّرينَ على اختلافِ اتجاهاتِهم وتوجهاتهم ومناحي الإبداع لديهم من كتاباتٍ سرديَّة، وإِبداعاتٍ شِعريّةٍ، ومسرحيَّةٍ، إلى فنونٍ تَشكيليّةٍ، وخبراء موسيقا، وإخراج مسرحيّ وسينمائيّ وتلفزيونيّ، ومترجمين، وكتّاب سيرة ذاتيَّة، ونقَّاد وفلاسفة ومفكرين في الاجتماع والاقتصاد وكل ضروب الثقافة على أن نستبعد الأمور السِّياسية والدّينيّة وكلّ ما يجرّنا إلى الخلاف لا الاختلافِ، واتفقنا أن تكون البداية يوم السَّادس من أكتوبر تيمُّنًا بيوم النَّصر العظيم، ويكون مجلسنا في بيته في الخميسِ الأوَّل من الشهر، على أن نمثل بواحدٍ لكلّ منشط من المناشط الثّقافيّة؛ فاختاروني؛ بوصفِي ناقدًا لإدارةِ الصَّالون، والشَّاعر الكبير الحسيني عبدالعاطي، والأثريّ الدكتور أحمد منصور، والروائي علي حسَن،  والقاصّ والرّوائيّ عبدالخالق محمد عبدالخالق، وجمال البحيريّ المفكِّر والكاتب والمحلل الاجتماعِيّ  والصَّحفيّ المعروف، وهاني عويد وأحمد محيي الدين عن الكّتاب الشّباب، والمثقَّف إسماعيل حشّاد ، والمفكِّر محمد صادق، والباحث محمد هداية عن الأكاديميّين على أن يضافَ للجلسةِ ضيوفٌ جددٌ يخصُّون الضَّيفَ، وموضوعَ الصَّالون على أن تُتركَ لهم حريَّة المتابعةِ أوالغياب؛ فكان ما كان من حكايات في صالون عرفات.

وبالفعل نجح الصالون في عقد خمسٍ وعشرين جلسة ناجحة كان ضيوفها نجوما من نجوم الثقافة العربيّة؛ أذكر منهم المخرج والنَّاقد المسرحيّ الكبير الدكتور أُسامة أبو طالب، والمترجم البارز اللواء دكتور توفيق منصور، والروائي اللامع عادل عصمت، والروائية أمينة زيدان، والشُّعراء أحمد سويلم، وأحمد فضل شبلول، وأحمد شلبي، وأحمد منصور، والفنان التَّشكيليّ محمد كمال، والكاتب سيد الوكيل، والمخرج التلفزيوني سيد موسى، وشاعر العامية مصباح المهدي، والصحفي والكاتب سعد القرش، والكاتب والمثقَّف الكبير منير عُتيبة،  والنَّاقدة والمترجمة والأكاديمية الرحالة فتحية الفرارجيّ، والقاصّ عبدالخالق محمد، والروائي علي حسن، وغيرهم.

الصالونات الثقافية (من مجالس العلماء إلى الندوات الإلكترونيَّة)

بدأت فكرة الصالونات الأدبيَّة منذ أقدم التّاريخ،ولن أطيل في المقدمة لفكرة الصَّالونات الثَّقافيَّةِ؛ فقد سبقنا غير واحدٍ من الباحثينَ الكبارِ في تتبّع فكرة الصالوناتِ الثَّقافيَّةِ، وتجذير فكرتها منذ كانت مجلسًا حرًّا من مجالس العُلماءِ؛ كيحيى الجُبورِيّ، وحُسين الكرخيّ، وغادة هيكل، وجابر قُميحة، وحلمي القاعُود، ومحمد حسن عبدالله، ومصطفى عطَا، وَفَهْد الصلّوح، وعبدالحفيظ الشّمريّ، ومنى الهيتيّ، ورشيد الذَّوَّاديّ، وماجد العمري، وأحمد المنزلاويّ، وغيرهم كثيرٌ؛ ممَّن بدأوا من فكرة  المجلس العربيّ القديم في بيوتات العلماءِ والأمراء والوجهاء والشُّعراء والفلاسفة والمغنين وكبار التُّجَّار والملحنين والخلفاء  إلى الخلعاء...!

* الصالون من المجلس إلى المقهى: ظلّ الصَّالون الثقافيّ ينتقلُ بين البيتِ والمنتدّى الخاصّ والمنتديات العامَّة والأسواقِ، دونَ أن يعرفَ حُدوداً تحدّهُ من الذكوريّ إلى النّسويّ فالمختلط، ومن المسجد إلى الحانة وصولًا إلى فكرة المقهى الثقافيّ التي كانت تجمع المثقفين في صالوناتٍ دوريَّةٍ في مصر وسوريا ولبنان والأردن والعِراق والسُّودان والسُّعودية، وسائر الأقطار العربيَّة، واشتهر من بينها لقاءات العالمي نجيب محفوظ، وأستاذه توفيق الحكيم،  ومقهى المسيريّ في دمنهور ؛ الذي استقطبَ إليه كبار المثقفين؛ كالمازني، ومحمود حسن إسماعيل، وعزيز أباظة، وتوفيق الحكيم، ولويس عوض، وقد وصل من نجاحه وفاعلياته المثمرة أن اقترح صاحب المقهى والنَّدوات عبد المعطي المسيريّ عميد الأدب العربيّ طه حسين ليكتب مقدمة عن هذه الفاعليات والندوات التي أحدثت نشاطًا ثقافيا ملحوظا في الواقع الثَّقافي العربي، ومقهى السِّنديون في كفر الشَّيخ، ومقهى تيمور في الشَّاطبي؛ حيث يجلس يحيى حقّي ومختار الوكيل، ونقولا يوسف، وعبدالرحمن الرافعي وثروت أباظة، ومقهى سان ستيفانو في الرمل.

وانتبه من قبلهم شوقي ضيف إلى كثرة المجالسِ في مكَّة والمدينة، ودرس أثرها على تطور فنون الشّعر والغناء والموسيقى في العصرين الإسلاميّ والأُمويّ، حتَّى  إنَّ الزّجّاجي النَّحويّ (عبدالرحمن بن إسحاق ت 340هـ) جمع لنا أخبار مائة وستة وخمسين مجلسًا من مجالس العلماء في العصر العبّاسيّ الذي ازدهرت فيه الحركات الأدبية والثقافية في كل حواضر العرب بفضل الصالونات الأدبيَّة بأسمائها المختلفة، وأنواعها المتباينة.

وكان من ثمرة ذلك أن ظهرت كتب الأسمار العربيَّة المهمة سيأتي ذكرها في قادم الحكايات.

من حكايات الصالونات وقفشات الأدعياء: ومن نوادرالصالونات أن يقتحمها أحد الطّفيليين أو مدّعو الثَّقافة؛ فأذكر قديمًا في صالون القرية أن اقتحمه من اسمه عمرو؛ فكان متنفجا منتفخا يرى نفسه أكثر ثقافة من العقاد ومي زيادة وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وكلّ أصحاب الصالونات من الذين لم ينالوا تقدير جيد جدًّا في الليسانس الذي حصل عليه عن جدارة واستحقاق؛ فلمَّا اقترح صاحب الصالون أن يكون موضوع الصالون القادم هو الحديث عن الإمام ابن قتيبة الدينوريّ (ت276هــ) رفع عمروٌ عقيرته، وضرب المنضدة بكلتا يديه مصممًا أن يكون هو المتحدّث الرّسميّ ولا أحد سواه يصلح للحديث عن الإمام الكبير، ولما سُئل: ولمَ أنتَ وحدك؟ فأجاب بكل غطرسة وغرور وثقة: لأنه كان أستاذي المياشر لمدة أربع سنوات في الجامعة..!
-------------------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش

مقالات اخرى للكاتب

في صالون عرفات كانت لنا حكايات