نقلت بعض وكالات الأنباء العربية بتاريخ 25 يناير أن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني فد تلقى دعوة لحضور مؤتمر وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي المزمع عقده في مكة المكرمة في غضون الأيام القليلة المقبلة وأنه سوف يحضر بالفعل. ولا يخفى على المراقب للأحداث، أن مثل هذا اللقاء لم يكن متصورا فيما يخص الموقف السوري قبل 9 ديسمبر حين تمت الإطاحة بنظام بشار الأسد الذي كان يوالي إيران موالاة وثيقة. إن هذ ا التحول بالإضافة لمؤشرات عديدة أخرى سيأتي ذكرها يقود إلى استنتاج مفاده أن تأثير ونفوذ إيران في المعادلة الإقليمية العربية في طريقه إلى الزوال. ربما المسألة مسألة وقت خاصة في ظل التغيرات الإقليمية والدولية المتتابعة.
منذ وصول الزعيم الشيعي الراحل الخميني إلى سدة الحكم ونجاح ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران، تمددت الأذرع الإيرانية إلى خارج حدود هذا البلد المحوري في الشرق الأوسط كجزء بنيوي مما سمي "تصدير الثورة الإسلامية". في واقع الأمر كان هذا الشعار محاولة دؤوبة من قبل قادة تلك الثورة للتغطية على التناقضات السياسية الداخلية التي كانت تمور في إيران نتيجة هيمنة نظام الملالي على الحكم على حساب القوى الثورية الأخرى التي ساهمت في إحداث الثورة، والتي كان من أبرزها الحركات الشيوعية والشبابية التي يشك الكثيرون في نجاح الثورة الإسلامية لولا تجاوب تلك الحركات مع الخميني ورجال الدين. وفي واقع الأمر فإن مبادرة صدام حسين بالاعتداء على إيران في سبتمبر 1980 كانت بمثابة هدية على طبق من ذهب لنظام الملالي رغم ما تكبدته إيران من خسائر بشرية ومادية في هذه الحرب التي مكنت النظام الإيراني من التعبئة المعنوية وتوحيد الصف الداخلي. وفي عام 1983 استطاع النظام الإيراني تصفية الوجود السياسي للحزب الشيوعي "تودة" بعد حادثة مقتل عدة مسؤولين في الحكومة. في تفجير المبنى الذي كانوا يجتمعون فيه. وألحق النظام التهمة بالحزب الشيوعي ليتخلص منه نهائيا وتخلو الساحة لرجال الدين. وكما تقول روبن رايت مؤلفة كتاب " أخر ثورة عظيمة" فإن النظام استغل الحادثة لإبعاد الشيوعيين أيا كانت مصداقية مسؤوليتهم عن الحادث.
حدث فراغ فكري وسياسي كبير في إيران بعد وفاة الخميني في يونيو عام 1989، وهناك كتاب على درجة عالية من الأهمية للأكاديمي الإيراني الذي يعيش في الولايات المتحدة، سيد أمير أرجوماند بعنوان "ما بعد الخميني" صدر عام 2009 عن دار أكسفورد، يؤكد فيه الكاتب أنه بمجرد موت الخميني الذي كان يكتسب مكانة شبه مقدسة لدى الإيرانيين، اندلعت المعارك الفكرية والسياسية بين ما يسمى بالإصلاحيين والمحافظين (أتباع خط الخميني) داخل إيران. خاصة وأن الحرب التي كانت توحد الأطراف المختلفة انتهت في أغسطس 1988. وجاءت وفاة المرشد الأكبر كالشرارة التي أشعلت كومة القش.
حقيقة الخوض في دواخل السياسة الداخلية الإيرانية ليس من أهداف هذا المقال، بقدر ما يلقي الضوء على السياسات الإقليمية لإيران وتدخلاتها في سوريا والعراق ولبنان واليمن. يكفي أن ندرك أنه لتهدئة الصراع المستمر حتى الآن داخل إيران بين المحافظين والإصلاحيين، كان على النظام الإيراني المحافظة على إرث الخميني من خلال استمرار شعار تصدير الثورة. خاصة وأن خليفة الخميني في منصب المرشد الأعلى خامنئي هو من الصقور. من خلال هذه المعادلة الداخلية نستطيع أن ندرك أحد أهم العوامل التي تقف خلف تشكيل السياسة الإيرانية الإقليمية في المنطقة العربية منذ 1979. أنا لا اقتصر هنا على تعليل تلك السياسة بالعامل الداخلي وإنما هو يعد من أهم العوامل، يضاف اليه عوامل أخرى مثل الصراع الإقليمي الإيراني السعودي وتكوين حزب الله في لبنان عام 1982. أيضا يمكن الحديث عن أهداف إيران المعلنة في الهيمنة على الخليج العربي. بيد أنني أستطيع أن أرصد ستة متغيرات على الأقل من شأنها إضعاف الدور الإيراني في المنطقة العربية تمهيدا لخروجها من المعادلة تماما والذي كان سقوط نظام بشار أولى إرهاصاته.
الوضع الحقوقي داخل إيران
كانت فترة حكم الرئيس الإيراني الإصلاحي محمد خاتمي 1997-2005 بداية ما يسمى "بالتحرك الحقوقي" داخل الجمهورية الإسلامية. قبل خاتمي كان العلمانيون والحقوقيون داخل وخارج إيران محجمون عن مناصرة الطرف الإصلاحي لأنه وإن كان يدعو للإعماروالبناء بدلا من الثورة، إلا أن منطلقاته الأساسية كانت دينية وثيولوجية. أي أن الخلاف بين المحافظين والإصلاحيين كان خلافا على "التأويل الديني" وليس "المرجعية" نفسها. ورغم أن خاتمي أيضا كان رجل دين، إلا أن خطابه كان ذا فارق نوعي خاصة فيما يتعلق بالحوار مع الغرب وأهمية الفنون والثقافة. بل وأحيانا كان يتحدث حديثا غير مسبوق عن حرية المرأة في الإسلام. كل ذلك أعطى دفعة معنوية للتيار الحقوقي والعلماني. وفي 2009 بعد نهاية فترة خاتمي بأربع سنوات ظهرت في العاصمة وضواحيها لأول مرة مظاهرات لا ترفع شعارات إسلامية. وكانت المواجهة ساخنة خصوصا وأن أحمدي نجاد 2005-2013 خليفة خاتمي في الرئاسة كان من المحافظين. كانت المظاهرات المستمرة حتى الآن بشكل أوآخر تدعو إلى مكافحة الفساد وإلى الحريات وحرية المرأة. بل كانت صور الخميني تحرق في قلب العاصمة الإيرانية. لم يعد يجدي تصدير الثورة الإسلامية لأن المتظاهرين أصلا ليسوا مؤمنين بهذا الشعار. كان الاقتصاد والحريات هو شعار المرحلة. هذ أضعف بلا شك دور إيران الإقليمي، لأن أي نظام لا يستطيع مواصلة الدور الإقليمي المكلف مع تردي الجبهة الداخلية. وهذا الوضع مرشح للتفاقم مما يجعلني اضع هذا العامل في الحسبان
عجز إيران عن التصدي للاستفزازات الامريكية - الإسرائيلية في المنطقة
منذ مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني على يد الولايات المتحدة في يناير 2020 مرورا بمقتل عشرات المسؤولين العسكريين الإيرانيين في سوريا والعراق بواسطة إسرائيل وحتى مقتل إبراهيم رئيسي الرئيس الإيراني السابق في مايو الماضي في ظروف غامضة لم يتم تبريرها حتى الآن، ثم مقتل عشرات من قيادات حزب الله في لبنان، بمن فيهم حسن نصر الله رجل إيران الأول في لبنان، بواسطة إسرائيل أيضا، أصبحت تهديدات إيران بالانتقام محل سخرية من الأعداء والأصدقاء مما أضعف من صورتها في المنطقة بشكل واضح. حتى الرد على الاعتداء الإسرائيلي على إيران في أراضيها لم يكن مقنعا لأي من الأصدقاء والأعداء على السواء.
سوريا
لا شك أن سوريا تعتبر قد خرجت من الحظيرة الإيرانية تماما بعد انقلاب 9 ديسمبر. وإن كان ثمة نفوذ إقليمي في سوريا الآن فهو لتركيا والولايات المتحدة. وحتى الحديث عن تواجد روسي أصبح مثار سخرية للكل. وقد شهدنا تسارع ممثلي الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لدعم سوريا. ومن المتوقع استمرار الدعم سياسيا على الأقل من جانب ترامب.. وربما كانت دعوة دول مجلس التعاون الخليجي سوريا لحضور اجتماع وزراء الخارجية الخليجيين، الذي نوهنا اليه في بداية المقال، تعكس الإرادة الخليجية الواضحة في دعم النظام الجديد. فهل تستطيع إيران بكل مشاكلها الاقتصادية توفير ما يوازي مثل هذا الدعم. فضلا عن الاختلاف في الخلفية السياسية بين النظام السوري الجديد ونظيره الإيراني. أيضا لم تعد إيران قادرة سياسيا ولا اقتصاديا على اللعب بورقة الأقلية الشيعية في سوريا.
العراق
تمضي القيادة العراقية بخطوات متسارعة بعيدا عن جارتها الإيرانية. في خبر للسي إن إن في 14 ديسمبر 2024 طلب وزير خارجية أمريكا السابق انتوني بلينكن من رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني اتخاذ "إجراءات صارمة" ضد الميلشيات الشيعية الموالية لإيران. في 19 ديسمبر أعلن الشياع البدء في اتخاذ هذه الإجراءات. في واقع الأمر فإن جموع الشيعة التي تمثل غالبية بسيطة في العراق هم من العرب الذين لا يعني لهم الولاء لإيران الكثير. وقد عانت العراق كثيرا من الميلشيات الموالية لإيران منذ أبريل 2003. وتحالفت هذه الميلشيات مع كثير من رؤساء الوزارة في هذا البلد المنكوب مما أدى لعدم الاستقرار. لكن مع الضعف الإيراني الذي أشرنا إليه و توجهات رئيس الوزراء العراقي الإصلاحية فإن نفوذ إيران أصبح مثارا لكثير من الشكوك.
لبنان
مع تقلص نفوذ حزب الله الواضح في لبنان واستعادة حيوية العلاقة مع الخليج وسوريا مرة أخرى وانتخاب رئيس جديد غير الذي كان يطالب به حزب الله، فإن السيطرة الإيرانية مرة أخرى تواجه تهديدات حقيقية. ولطالما توجست طهران من التقارب بين الرياض وبيروت. إلا أن هذا التقارب أصبح يتوطد يوميا متوجا بزيارة وزير الخارجية السعودي مؤخرا.
اليمن
هنا المجال الوحيد الذي لا أستطيع أن أرصد فيه بشكل واضح تراجعا للنفوذ الإيراني. ولكن يكفي أن نقول إن الضعف الإيراني، في الجبهات الداخلية والخارجية التي ذكرناها، حتما سوف يؤثر على وضع إيران في اليمن. وأولا وأخيرا فإن الوضع في اليمن مرشح للتغيير في وقت قريب، إذ لا يمكن للأقلية الحوثية التي تسيطر على اليمن منذ 2015 ان تستمر في ارتهان مقدرات هذا البلد العريق.
هذه المؤشرات على تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة والذي بدأ بالفعل في تقديري. إن لم تحدث متغيرات غير متوقعة أو مفاجئة، فإن إيران ستخرج حتما من المعادلة الإقليمية العربية. بل إن الأمور - في رأيي - مرشحة للتفاقم فيما يخص بقاء النظام الإيراني أصلا.. ولكن ذلك حديث آخر.
-------------------------
بقلم: محمد الأنصاري