31 - 01 - 2025

فلسفة التفاوض حتي الموت !

فلسفة التفاوض حتي الموت !

بدأ الطبل والزمر من جديد ، مع التمهيد لنصب الخيمة المخزونة مرة أخري ، لبدء دورة جديدة للبحث عن السلام في الشرق الأوسط .

وبدأ كل طرف يجذب أطنان الاوراق المطمورة كأعمال السحر في دواليب وزارات الخارجية والمنظمات الدولية ؛

وانهمك الوسطاء في إختبار كل أدوات التجميل ( الكوزماتيك ) التي قد تنجح في تجميل الوجه الكريه لعجوز اسمها " عملية السلام " ؛

هل هو "السلام " فعلا هذه المرة ؟ ، أم تمهيد لحمامات دم مسفوح علي بلاط دبلوماسي بارد ؟.

هذه الدوامة التي تدور حول مركزها بلا توقف ، لن تؤدي إلي أي مخرج محدد ، بل أنها وصفة مؤكدة للغرق !! ..

نهج مدريد ، أوسلو ، ميتشل ، تنت ، خارطة طريق .. إلخ ، هو نهج دائري ينتهي دائماً حيثما ابتدأ ، لأن هذا النهج يدور حول الحقائق الأساسية ويتفاداها ، ويتعمد تسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية ، فكلمة " الإنسحاب " تستبدل بكلمة " إعادة الإنتشار " ، وكلمة " الأراضي المحتلة " تستبدل بكلمة " المناطق " أو " الأراضي " بدون تعريف ، مع الإبتعاد عن القضايا الجوهرية مثل الحدود ، والمستعمرات ، والقدس ، واللاجئين ، أو ترحيلها إلي أمد تفاوضي غير منظور ، وهذا نهج قد ثبت فشله ، ولا يمكن أن يمثل قاعدة حقيقية لأي مائدة تفاوضية ، قصاري ما يقدمه هو لغة غامضة بشكل متعمد ، وإشتراطات تختفي في شكل تعهدات تصير فيما بعد ألغاماً لنسف القاعدة والمائدة ومن عليها ، كي تبدأ الدوامة في الدوران مرة أخري ، وهكذا دواليك ... ومع ذلك تجد من يتجرأ ويقول : "فلنعط للسلام فرصة " ..!!!

وقد سبق لنا في أكثر من مقال علي مدي أربعين عاماً ،  أن طالبنا بضرورة وضع قواعد واضحة للعملية التفاوضية وإلا – وكما قال السيد إسحاق شامير عشية مدريد – فإن التفاوض يمكن أن يمتد إلي الألفية الرابعة ، والقواعد التي نعنيها هنا هي المحددات القانونية التي تعارف عليها العالم خلال رحلته الطويلة التي أكسبته بتجربة الدم والدمار قاموساً محدداً للعلاقات بين الدول ، ولا يمكن أن نسمي "المبادئ العامة" أسساً كافية لعملية تفاوض جدية ، فمدريد لم تتجاوز إعلانات مبادئ ، وكذا ما تلاها من وثائق وتصريحات ، وقد كان الجانب الإسرائيلي ماهراً في إستخدام هذا الأسلوب طوال هذه السنين ، لأن إعلانات المبادئ هي في النهاية مجرد عبارات فضفاضة تحتمل كل التفسيرات والمعاني ، ومن ذلك مثلاً النص علي " أهمية العمل علي تحقيق السلام العادل " ، فالسلام من منظور المفاوض العربي له تفسير ، ومن المنظور الإسرائيلي له ألف تفسير ربما بعدد أعضاء حزبي الليكود والعمل معاً ، ثم ما هو تكييف العدل من المنظورين ؟ ، سنجد له أيضاً عدة تفاسير ، ويكفي أن نقرأ تصريحات الطرفين حول هاتين الكلمتين فقط كي نعرف النهاية التي ستقودنا إليها تلك الدوامة المحكمة التي ندور فيها منذ سنوات ..

وأي "خارطة طريق" بالمناسبة لا تبتعد عن ذلك كثيراً ، وإن كانت قد وضعت بعض التواريخ وبعض المحددات ، ففي التراث التفاوضي مع إسرائيل عرفنا من قادتهم أنه لا توجد لديهم تواريخ مقدسة ، وأما المحددات فيمكن فهمها رأسياً وأفقياً ودائرياً وبكل أشكال هندسة المنطق الكلامي وبشكل لا نهائي ، والغموض في هذه الخارطة ليس كما يقال غموضاً بناء بل – أزعم – أنه غموض هدام ومقصود لذاته ، ولنفس الهدف وهو أسلوب التفاوض الدائري الذي ينتهي دائماً بالعودة إلي نقطة البداية ، لذا فليس من المستغرب أن يكون العمل جارياً الآن لإعداد وثيقة جديدة كي تضاف إلي مدريد وأسلو وأخواتهما ...

وعلي أية حال ما هي سلطات السلطة الفلسطينية التي يطالب الجميع التمسك بها ؟ ..

أن التحليل القانوني للمواثيق التي تم إعتمادها ونالت قدراً كبيراً من الإعتراف الدولي ، يمكننا من أن نفترض بأن هذه السلطات يجب أن تكون مطابقة علي الأقل لسلطات الحكم الذاتي ، علماً بأن هذا الحكم يعتبره القانون الدولي تعبيراً مرادفاً لحكم الشعب لنفسه ، وهو نظام عرفه القانون الدولي في تطبيقات كثيرة ، خاصة بالنسبة للأقاليم التي كانت خاضعة للإستعمار حيث يطبق عليها نظام الحكم الذاتي كمرحلة إنتقالية يتم فيها تهيئة شعب الإقليم إلي حكم نفسه بنفسه ليتمكن بعد ذلك من تصريف وإدارة شئونه الداخلية والخارجية حيث يتم الإعتراف له بالإستقلال الذاتي الكامل ، والشخصية القانونية الدولية .

ويتصل إتصالاً وثيقاً بذلك حق لا يمكن التفريط فيه وهو تقرير المصير حيث أنه حق يمثل قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي المتصلة بالنظام العام الدولي ، والتي لا يجوز الإتفاق علي مخالفتها إلا بقاعدة لها نفس الدرجة ، بالإضافة إلي أن هذا الحق يمثل أحد حقوق الإنسان الأساسية التي أقرها ميثاق الأمم المتحدة ( المادة 1/2 ، 55 ) ، وأقرتها الوثائق الدولية الحقوق الإنسان ( المادة الأولي من الإتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والإجتماعية والثقافية ، البند الثاني من الإعلان الخاص بمنح الإستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة ) .

ومن الملاحظات الهامة أن مصر وإسرائيل أتفقتا في " كامب ديفيد " ( 17 سبتمبر 1978) علي حل المشكلة الفلسطينية عن طريق توفير حكم ذاتي "كامل" للضفة الغربية وقطاع غزة ، وفي 26  مارس 1979  تم توقيع إتفاق تكميلي لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في صورة خطاب بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة نص فيه علي أن "الغرض من المفاوضات هو إقامة سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة من اجل تحقيق الإستقلال الذاتي الكامل للسكان "( وهو تلاعب متعمد بالألفاظ كي تبتعد عن محددها القانوني ، وهو ما استغله مناحم بيجين فيما بعد ) ، وقد نصت وثائق كامب ديفيد والخطاب المرفق بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية علي أن الحكم الذاتي المقترح "هو إجراء إنتقالي لمدة خمس سنوات تمهيداً للإستقلال الذاتي الكامل" .

إذاً يمكن القول نظريا أنه كان لدينا أساساً قانونياً واضحاً لمفاوضات جادة ينبغي أن يكون هدفها الأساسي هو البناء علي هذا الأساس بطرح باقي القضايا المعلقة والتي سبق الإشارة إليها ، وهنا نؤكد ما سبق أن كتبناه منذ سنوات وهو أن التوليفة الكيسنجرية ( نسبة إلي سياسة الخطوة خطوة التي أتبعها كيسنجر في المفاوضات المصرية / الإسرائيلية ) لا تصلح أبداً كتكنيك ناجح في المفاوضات الفلسطينية / الإسرائيلية ، لأنها في هذه الحالة لن تعني سوي تطبيق إستراتيجية القضمات ( أو الخرشوفة ) التي يتم من خلالها نزع كافة الأوراق التفاوضية من الجانب الفلسطيني ، وتعريته كي يسلم في النهاية للمخطط الإسرائيلي التفاوضي ، وجزء من هذا التكنيك بالمناسبة يهدف إلي استنزاف أعصاب المفاوض العربي ، ومحاولة تحقيق هدف مرحلي وهو تغذية الإقتتال الفلسطيني / الفلسطيني ، ونزع ورقة المقاومة ، وتفكيك الموقف العربي ، حتي يمكن القول بأن القضية الفسلطينية قد تم تعليقها علي مشنقة التفاوض ...
-----------------------------------
بقلم السفير/ معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

فلسفة التفاوض حتي الموت !