22 - 02 - 2025

هل تعلم اللغة الإنجليزية حرام؟

هل تعلم اللغة الإنجليزية حرام؟

قلب الشيخ عينين أثقلتهما السنون بين أبنائه وأحفاده. مر زمن طويل قبل أن يكتمل الجمع على هذه الصورة التي طالما ابتهل بها قلبه في صلواته. فرقت الأيام الأبدان، وظلت القلوب على حالها، متصلة، تأنس بقربها الروحي وتتصبر على أمل اللقاء.

رسم الزمن بفرشاته البيضاء خطوطًا خفيفة على رؤوس الأبناء ونفرت تضاريس الأحفاد، غادر بعضهم عتبات الطفولة إلى مرابع الصبا، وطرق آخرون باب الشباب، فحمد وشكر.

تحلقوا حول طاولة الطعام وتداخلت الألسن بأحاديث مختلفة؛ تحدث الشيخ وبنوه بالعربية مع نذرٍ يسير من أعجمية شاعت في العامية الدارجة وصَخِبَ الأحفادُ برطاناتٍ مميزة الجَرسْ. تطلع الشيخ نحوهم بعينين ساهمتين وشعر كأنما سرقه الزمن، تعلم الصغار في مدارس أجنبية وشبوا في بيئات متباينة تشكلت فيها حياتهم واهتماماتهم، وصارت اللغة التي كان الشيخ يستمتع بها أوقات فراغه، غريبة بين بني بنيه.

وما أن انعقد الجمع ثانية حول فناجين الشاي والقهوة وخليط من مخبوزات متفاوتة الطعوم حتى خاطبهم بصوت فيه من التحفيز والتشجيع ما جذب انتباههم إليه قائلاً: "سوف يحصل كل من يقرأ قصيدة (نهج البردة) لأمير الشعراء أحمد شوقي، من على هاتفي هذا"، (ورفع يمناه بالهاتف)، "على أحد هذه الأوراق المالية"، وهز يسراه بأوراق من فئة المئة جنيه.

لمعت العيون ببريق التحدي والرغبة في الفوز، ليست الجائزة في قيمتها إنما في صاحبها وفي معناها، وراح الهاتف يدور بينهم بحسب مواقعهم في الجلسة دورات اختلفت مدتها من حفيد لآخر، تتوهج عيونهم شحذًا لقدراتهم، والشيخ يحرك حبات مسبحته في هدوء؛ يشجع حينًا ويصوب أحيانًا كثيرة. 

كان تعثر الكلمات على شفاههم أقرب لنطق أعجمي يتعتع في لغة غريبة عنه، فاختلطت مخارج حروف القاف بالكاف، والتاء بالطاء، والسين بالثاء، وغيرها كثير، فضلاً عن عدم فهم واستيعاب الكثير من الكلمات، فهز رأسه ورسم على شفتيه نصف ابتسامة.

تراجعت اللغة العربية مع تقهقر الإنتاج الحضاري العربي من رحاب الأندلس وبغداد والقاهرة، وتقدمت اللغات الأنجلوساكسونية وصارت رمزًا وعنوانًا للمكانة الاجتماعية.

هزت الحملة الفرنسية القاهرة هزًا عنيفًا واكتشفت طبقة المثقفين ورجال الدين أنهم وقفوا عند محطة العلوم الشرعية وتركوا قطار الحضارة يمضي دونهم بما عليه من إنجازات في علوم الفلك والهندسة والطب والجغرافيا، وغيرها مما استطاع العربي القديم تحصيله من علوم والإضافة إليها، لم يكن ليصلها إلا بتعلم لغات الآخرين، ليس هذا فحسب، بل وهضمها هضم أهلها، إذ أنشأ هارون الرشيد ديوانًا للترجمة أسماه (بيتُ الحكمةِ)، وكان من جزيل عطائه للمترجمين أنه كان يأجر الواحد منهم بوزن كتابه ذهبًا.

كانت اللغة العربية بوتقة صُهرت فيها ما عداها من ثقافات دون أن تطغى على الأصل.

يصور أحد مشاهد فيلم "المرايه"، لمؤلفه محي الدين عارف، بطولة نجلاء فتحي وعبد المنعم إبراهيم؛ فتاة ترى العالم في مرآتها ولا تهتم سوى بجمالها وأناقتها، حتى أنها انقطعت عن التعليم واكتفت بما حصلته من قشور بعض كلمات إفرنجية تتشدق بها ولا تتخطاها، حتى ساقتها الأقدار للحديث مع رجل معمم جاء يطلب يدها، ظنته في هيئته هذه أثرًا قديمًا، حتى إذا ما تحدث إليها بهرها بثقافته وعلمه وإتقانه عدة لغات، فضلاً عن قراءاته وآرائه فيما يدور حوله، لتتغير نظرتها للحياة وتحطم مرآتها وتنهض لطلب العلم.

كان كما يقول أستاذ علم الاجتماع الدكتور رشدي فكار (1929-2000)؛ (أصيلاً في حداثته، وحديثًا في أصالته)، ولكم تمنى الشيخ لو أن أحفاده سلكوا ذات المنهج، فأتقنوا لغتهم الأم إلى جانب رطاناتهم تلك.

سُئل أحد الصالحين؛ هل تعلم اللغة الإنجليزية حرام؟، فأجاب: No.
------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

هل تعلم اللغة الإنجليزية حرام؟