في عام 1989، تقدم الباحث الفلسطيني أيمن الياسيني برسالة دكتوراه عن السعودية لقسم العلوم السياسية بجامعة مكجيل الكندية بعنوان "الدين والدولة في السعودية". في مقدمة الرسالة، أشار الباحث الى ثلاثة عوامل تشكل الأساس السياسي للدولة السعودية الثالثة التي تأسست عام 1932. هذه العوامل وفقا للياسيني هي: الدين والأسرة الحاكمة والنفط. وأشار إشارة عميقة الى نجاح الدولة السعودية حتى الان في الاستمرار رغم ما بين هذه العوامل من تنافر يتغلب على عنصر التجاذب. الآن، ومنذ أواخر عهد الملك السادس عبدالله بن عبد العزيز الذي حكم بين 2005 و2015، يمكن أن نتحدث عن جانب رابع وهو الإصلاح بمكوناته الثقافية و السياسية والاقتصادية.
تحتفل الرياض هذا الأسبوع بـ " يوم التأسيس" الذي يواكب 22 فبراير من كل عام وهي ذكرى تنصيب محمد بن سعود بن مقرن إمارة الدرعية عام 1727، منذ حوالي 300 سنة. وقد صرح العاهل السعودي الملك سلمان في هذا الصدد قائلا " نعتز بذكرى تأسيسي دولتنا المباركة قبل ثلاثة قرون على الأمن والعدل والعقيدة الخالصة، ولا يزال نهجها راسخا منذ ذلك الحين في وطن يتقدم إلى الريادة في مختلف المجالات." استمرت الدولة السعودية الأولى من عام 1727 وحتى عام 1818 واقتصرت على الدرعية وبعض ضواحي نجد. وظلت المنطقة الشرقية من السعودية الحالية والحجاز بمنأى عن سيطرة آل سعود. انتهت الدولة الأولى إثر مجموعة من الحملات العثمانية، وكان من ضمنها حملة إبراهيم باشا بن محمد علي، التي استهدفت القضاء على التمرد السعودي. وبعد فترة هدوء نسبي تشكلت الدولة السعودية الثانية عام 1824 على يد الأمير تركي بن عبد الله وهذه المرة ضمت الدولة مدينة الرياض. في عام 1891 استطاع آل رشيد، المنافسون اللدودون لآل سعود في ذلك الوقت، السيطرة على الرياض وطرد الأمير عبد الرحمن بن فيصل بن تركي الذي لجأ للكويت. وكان ذلك بمثابة إعلان انتهاء الدولة الثانية 1824-1891. في عام 1902 استطاع مؤسس الدولة الثالثة (المملكة) عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود العودة الى الرياض مما أدى الى انسحاب القوات العثمانية من أجزاء كبيرة من هضبة نجد بحلول عام 1906. واستمر آل سعود في التوسع في مناطق عديدة مكتسبين أعدادا متزايدة من القبائل التي دخلت في تحالف سياسي معهم. وبحلول سبتمبر 1932، أعلن عبد العزيز آل سعود تأسيس المملكة العربية السعودية وتنصيب نفسه ملكا على مساحة تساوي تقريبا المساحة الحالية للمملكة. وكانت أبرز محطة بين استعادة الرياض عام 1902 وتأسيس المملكة عام 1932 هو ضم الحجاز (مكة والمدينة) عام 1924 وخروج اخر حامية عثمانية من البلاد. في عهد الملك عبد العزيز تم اكتشاف النفط في عام 1938. غير أن الآثار الاقتصادية والعمرانية لاكتشاف النفط لم تظهر على البلاد الا بحلول الخمسينيات وان كان للملك عبد العزيز توجهات تحديثية مبدئية خاصة في مواجهة تعنت رجال الدين من أتباع المذهب الوهابي الذي كان سائدا في المملكة حتى وقت قريب. ففي عهده مثلا دخل الهاتف والراديو رغم معارضة الوهابيين.
خلف الملك عبد العزيز ابنه سعود في 1954. وفي عهد سعود بدأت الى حد كبير النهضة العمرانية من شق الطرق والكباري رغم الضعف النسبي في شخصية سعود الذي أقيل من منصبه عام 1964. تولى الملك فيصل حكم البلاد حتى اغتياله على يد أحد أقاربه من العائلة المالكة في 25 مارس 1975. في عهد فيصل قفزت المملكة قفزة واسعة نحو التنمية العمرانية بفعل زيادة الأسعار العالمية للبترول الذي ما زال يشكل 80% من صادرات المملكة. وقد كانت هذه الزيادة من أثار حرب 1973 بين مصر وإسرائيل حين حجبت السعودية لفترة معينة صادرات البترول لأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. في عام 1975، تولى الملك خالد الحكم وتميزت فترته بهدوء نسبي إلا فيما يخص حادثة احتلال الحرم المكي في نوفمبر 1979. وسيتم التفصيل لاحقا لما أحدثه هذا الحدث من أثار سياسية ودينية على المملكة. تولى الملك فهد حكم السعودية بعد وفاة الملك خالد عام 1982. ومن الأحداث المهمة إقليميا في فترة فهد حادثة غزو العراق للكويت ثم التهديد المباشر للسعودية نفسها. من الجدير بالذكر أن البعض يرجع الارهاصات المبكرة للانفتاح الثقافي الذي تعيشه السعودية الان لأواخر عهد الملك فهد 1982-2005 حيث بدأ الحديث عن الفرق بين التقاليد والأوامر الدينية. إلا أن الحديث عن التغيير الاجتماعي والثقافي لم يبدأ إلا في أواخر حكم الملك عبد الله 2005-2015. ومنذ عام 2015، ووفقا لرؤية المملكة 2030، فان الإصلاح الثقافي والإداري والاقتصادي يتسارع بخطى حثيثة وجريئة في ظل حكم الملك سلمان والنشاط الملحوظ لولي العهد الشاب محمد بن سلمان رغم العوائق العديدة والتحديات خاصة في المجال السياسي.
التحالف الوهابي السعودي أو الدين تابعا للدولة
من الأمور المفصلية في مسيرة الدولة السعودية تحالف الداعية السلفي المتحمس محمد بن عبد الوهاب مع أمير الدرعية الأمير محمد بن سعود عام 1744 أثناء الدولة السعودية الأولى 1727-1818. بمقتضى هذا الحلف دعم الأول سياسات الثاني دينيا، بينما وفر الثاني للأول مساحة لنشر مبادئ الدعوة السلفية كما يراها ويفسرها محمد بن عبد الوهاب، الذي كان ناقما على المسلمين في الجزيرة العربية لكثرة اشتغالهم بالبدع وانخراطهم في الطرق الصوفية وتقديس الأضرحة والمشاهد. كان محمد بن عبد الوهاب يرى أغلب هذه الممارسات كنوع من الشرك الذي يجب محاربته للعودة بالإسلام الى منابعه النقية. ويرى العديد من الكتاب وحتى من ضمنهم الأكثر تنويرا مثل طه حسين وأحمد أمين ومحمد جابر الانصاري وغيرهم أن دعوة محمد بن عبد الوهاب مثلت البذور الجنينية الأولى للإصلاح في العالم العربي باعتبارها تحارب الخرافة والتواكلية واللاعقلانية بوصفها من أدوات التخلف الحضاري العربي. لكن أخذ العديد من الكتاب على محمد بن عبد الوهاب أمرين: استخدام العنف على نطاق واسع وارتهان الدعوة بالدولة السعودية. ويكاد السلوك الدموي لابن عبد الوهاب يكون مسلمة تاريخية. ويشذ عن ذلك كتاب صدر عن الوهابية من تأليف الباحثة الامريكية ناتانا دي لونج باس عام 2005. يدافع الكتاب بحماس عن أفكار ابن عبد الوهاب ويحاول ان يثبت أنه لم يلجأ للعنف الا في حالات اضطرارية ومناسبات محدودة ذات سياقات خاصة.
في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، تم تحميل الوهابية "المسؤولية الفكرية" و"العقائدية" عن تلك الأحداث. وكان الضغط الدولي على السعودية لتفكيك بنية الوهابية كأيدولوجية دينية رهيباً. وأغلب الادبيات في تلك الفترة تم استخدامها كتبرير معرفي من جانب دعاة الحداثة في عهد محمد بن سلمان الذي أصبح الحاكم الفعلي في الرياض منذ 2017 لفك الارتباط نهائيا مع الوهابية. وتشير مضاوي الرشيد أستاذة الانثروبولوجيا السعودية المعارضة والمقيمة في بريطانيا في كتابها المهم "السعودية ومأزق الإصلاح" إلى أن الوهابية قنعت بإخضاع الدين للسلطة السياسية بتوفير التبرير الديني للسياسة السعودية أملا في نشر العقيدة الوهابية على نطاق واسع. وتشير أيضا إلى أن اتباع الوهابية اللاحقين على محمد بن عبد الوهاب كانوا أكثر تشدداً ومحافظة من المؤسس. ولا شك أن السياسة السعودية في مرحلة ما استفادت من الدعوة الوهابية استفادة كبرى.
تشير دراسة أيمن الياسيني المذكورة في بداية المقال إلى أن تيار التحديث السعودي كان يتسارع منذ الستينات، لكنه توقف عند حادثة احتلال الحرم. ففي نوفمبر 1979، قامت مجموعة أصولية متشددة بالتسلل الى الحرم المكي الكبير واحتلاله لمدة أسبوعين قبل أن يتمكن الأمن السعودي بمساعدة قوات فرنسية من إجلاء المجموعة التي كان يتزعمها جهيمان العتيبي الذي تعود اصوله الى جماعة "الاخوان" الوهابية. والدراسات التي تتناول هذه الحادثة قليلة جدا بسبب التعتيم الإعلامي الذي فرضته السلطات السعودية أثناء تحرير المسجد الحرام وبعده. كان من اهم مطالب المقتحمين فك الارتباط الوثيق بين السعودية والولايات المتحدة وإيقاف مظاهر التحديث الثقافي المتنامي منذ الستينات. بعد هذه الحادثة وجدت القيادة السعودية انه من الحكمة تبطيء وتيرة التحديث الثقافي لكيلا لا تسمح المملكة لأي أطراف دينية بالمزايدة عليها. وكانت الاستراتيجية هي زيادة الدعم للوهابية. وعلى أية حال فان بنية الوهابية القائمة على قطعية التحريم والتحليل بحيث يوضع كل شيء في ميزان يجوز او لا يجوز كانت مفيدة من زاوية دعم الحكم السياسي الذي يقوم بدوره على بنية المرفوض والمقبول. ثم في الوقت الحالي هل يوجد نظام سياسي في الكرة الأرضية لا يخضع الديني لمقتضيات السلطة؟
يمكن القول ان حادثة اقتحام الحرم أخرت الإصلاحات الثقافية في المملكة لمدة ثلاثين عاما كاملة. لكن هل يعني فك الارتباط مع الوهابية والانخراط المعاصر في الإصلاح الثقافي والاجتماعي، أم أن الإصلاح السياسي سيأتي تباعا؟ في عام 2010، أصدرت مؤسسة كارنيجي تقريرا عن الإصلاح في السعودية اكدت فيه ان الحديث عن الإصلاح السياسي في السعودية المقصود به "الإصلاح الإداري". يبدو أن هذا التعريف، على قدمه، لا يزال حاكماً في إطار هموم الإصلاح في المملكة. يمكن الحديث عن محددات ثلاثة لمدى نطاق الإصلاح السياسي: تطور فكر وممارسة الاسرة الحاكمة، والمبتعثين الى الخارج، ومدى الإصلاح الاجتماعي ونطاقه. حتى الان مازال العاملان الثاني والثالث مرتبطين بالأسرة الحاكمة وطبيعة توجهاتها.
الإصلاح السياسي والأسرة الحاكمة
يحلو لنقاد الاسرة السعودية ومنظمات حقوق الانسان الدولية خاصة منظمة "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية مهاجمة النظام السعودي على أساس أن الإصلاحات في السعودية فوقية وبمعزل عن الإصلاح السياسي الحقيقي. وهذا صحيح. لكن للإنصاف، فان كل الدول العربية تشترك مع السعودية في هذه الخصائص. فالإصلاح منذ السلطان العثماني محمود الثاني وحتى الآن يتخذ طابعا فوقيا وبقرار من الحاكم وليس للسعودية خصوصية في هذا الإطار. وربما ينتقد البعض قصور الإصلاح السياسي في السعودية حتى الان على الإصلاح الإداري وغياب المجتمع المدني. ولكن غياب المجتمع المدني يساوي وجود مجتمع مدني مقلم الأظفار في أقطار أخرى. وكذلك الاقتصار على إصلاح إداري يوازي إصلاح سياسي سطحي لا يمس جوهر النظام في سائر الدول العربية. بوضوح شديد اتخذ النظام الحاكم السعودي متمثلا في ولي العهد محمد بن سلمان قرارا بالمضي في الإصلاح الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والإداري. ويبقى الإصلاح السياسي حتى إشعار آخر مثلما هو الحال في كل الأنظمة العربية. وهنا نستطيع ان نفهم إجراءات مثل الزيادة الملحوظة لعدد المبتعثين للدراسة في الخارج من أبناء المملكة وأيضا أمور مثل إصلاح النظام الاجتماعي عبر إصلاح القضاء، ومثال على ذلك مدونة الأحوال الشخصية التي صدرت بمرسوم ملكي عام 2021.
يتركز القسم الأكبر من المبتعثين في جامعات أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) وبريطانيا. ويدرس الغالب منهم دراسات في مجال العلوم التطبيقية مع تركيز شديد على دراسة الطب. لكن هذا لا يعني انه لا يوجد طلاب يدرسون العلوم الإنسانية والاجتماعية. اما بالنسبة لمدونة الأحوال الشخصية فقد أحدثت فارقا إيجابيا مهما بالنسبة للمرأة السعودية بتحديدها لأمور كانت تترك لتقدير الولي مثل الخطبة (5 مواد) وحقوق الزوجة وإمكانية أن ترفض الزواج بمحض إرادتها. بل إن أحد المواد أكدت ان المهر ملك للزوجة تتصرف فيه كما تشاء وهذا يعد أمر ملزما للولي. المدونة (250 مادة)، أثبتت حقوقا كثيرة للزوجة السعودية كانت ضائعة تحت وطأة العرف والتقاليد الابوية.
في سنوات قليلة تطورت السينما والفنون السعودية تطوراً سريعاً. ويوجد الآن على سبيل المثال، مخرجات سعوديات مثل هيفاء المنصور. وفي الحقيقة، فان الواقع الثقافي في المملكة ليس قائما في فراغ. فقد شهدت فترة الستينات انتعاش ما سمي وقتها بالنوادي الأدبية خاصة في مدينة جدة. وقد بلغ عدد هذه النوادي حوالي 16 نادياً.
كانت هناك، أيضاً، حركة شعرية في الحواضر والبوادي من أبرز رموزها أحمد الصالح ومحمد البثي وعبدالله الزيد وآخرين. كما كانت هناك ارهاصات على استحياء بالنسبة لفن الرواية. ظهرت اول رواية سعودية عام 1932 تحت عنوان "التوأمان" من تأليف عبدالقدوس الأنصاري. ومن أبرز الروائيين في فترة الستينيات محمد علي مغربي وحامد دمنهوري. ويمثل قرار وزارة التربية والتعليم في المملكة قبل ثلاث سنوات بإدراج الموسيقى والفنون المسرحية في مختلف مراحل التعليم خطوة إيجابية في درب تعميق الإصلاح الثقافي الجاد. في نهاية الأمر، رغم أن كل تلك الإصلاحات هي إصلاحات بقرار من ولي العهد، لكنها تمثل في التحليل الأخير بداية ربما لتيار إصلاحي حقيقي. أيضاً ربما تتوقف أو تنتكس. كل الاحتمالات قائمة.
النفط وتنويع الاقتصاد السعودي
تقوم الفلسفة الاقتصادية التي تؤطر النشاط الاقتصادي في السعودية على التنمية الشاملة من خلال تنويع مصادر الدخل بعد أن كانت هذه المصادر قاصرة على الإنتاج النفطي حتى وقت قريب والذي كان يشكل 88% من اجمالي الصادرات. وتعتمد الرؤية الاقتصادية الجديدة على زيادة مساهمة القطاع الخاص فيالقطاعات الاقتصادية غير النفطية ودعم المشاريع الصغيرة المتوسطة ودعم كفاءة الانفاق العام وزيادة فاعلية وكفاءة الجهاز الحكومي من خلال الشفافية والتدريب. ومن الجدير بالذكر أن السعودية وصلت إلى الترتيب 36 عالميا في استخدام الحكومة الالكترونية عام 2014. وتسعى للوصول إلى الترتيب الخامس بحلول 2030. وحاليا يصل حجم الاقتصاد السعودي إلى الترتيب 19 عالمياً.
لا شك أن هذه مؤشرات اقتصادية إيجابية ومشجعة. ومنذ عدة سنوات بدأت بعض الصادرات السعودية المشتقة من البترول تغزو الأسواق العربية. لكن ثمة إشكالية بنيوية في مسار الإصلاح الاقتصادي السعودي حيث أنه من غير الممكن إنشاء قاعدة صناعية متينة تؤدي الى تنوع مصادر الدخل دون قاعدة تستند الى توجيه وتعبئة سياسية بالأساس، وهو ما تتردد في القيام به الاسرة الحاكمة لأنه يفتح الباب للتعددية السياسية وهو حتى الآن يمثل خطرا جسيما بالنسبة لحكام المملكة. وتنتج المملكة في 2025، حوالي 10 ملايين برميل يوميا تصدر منها حوالي 8.5 مليون برميل. لقد انخفضت نسبة النفط من الصادرات لتصبح 80%، لكنها ما زالت نسبة عالية لا تلبي طموحات القيادة السعودية في تنويع حقيقي لمصادر الدخل.
ربما يجادل البعض عن حق أن الإصلاح الشامل يجب أن يتضمن الشق السياسي إلى جانب الشقين الثقافي
والاقتصادي. ولكن إذا نظرنا إلى ما تم حتى الآن في السعودية منذ 2015 سوف نجد أن الكثير من نواحي الإصلاح قد تم إنجازها في وقت قصير نسبيا، مما يبعث على الأمل أن تطال الإصلاحات الجانب السياسي قريبا. أقرب مما نتصور.
-------------------------
بقلم: محمد الأنصاري