20 - 06 - 2024

والذكرى تنفع الثوار

والذكرى تنفع الثوار

(أرشيف المشهد)

29-1-2015 | 03:36

في ذكرى إندلاع الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة في 25 يناير 2011، وتنسم أريج فترة النقاء الثوري طوال ثمانية عشر يوما مجيدة في تاريخ مصر المعاصر، تملكت شغاف قلوب المصريين جميعا وأبهرت العالم. لكنها لشديد الأسف إنتهت بمنتهى البراءة السياسية، حتى لا أقول السذاجة الثورية، بأن أسلمت قوى الثورة الشعبية قيادها لمن امتطوها عنوة وعملوا على إجهاضها من المؤسسة العسكرية و اليمين المتأسلم كليهما حتى أعادوا مصر تحت الولاية الثانية للمؤسسة العسكرية، قل المخابرات الحربية، إلى نسخة أبشع واشد سطوة من نظام الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة الشعبية لإسقاطه.

في هذه المناسبة، أستذكر مع القراء هذه الأيام المجيدة بعدة موضوعات كتبت ونشرت في النصف الثاني من يناير 2011، على سبيل التوثيق ليوميات ما أحب أن أسميه" ثورة الفل" خلال انتفاضتها النقية الرائعة الأولى. يعود أول الموضوعات  إلى 17 يناير 2011 أي قبل قيام الموجة الأولى من الثورة واحتفاء بالنجاح الأولي لثورة " الياسمين" في تونس الحيبة، ويقع تاريخ الأخير في أوائل فبراير 2011 أي قبيل خلع المؤسسة العسكرية لرئيسها السابق الطاغية الذي استحق أقذر مزابل التاريخ، حرصا على تشبثها بحكم مصر والمكاسب الهائلة التي تجنيها من ورائه.

(اتضح الآن، بحكمة التأمل فيما مضى، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو في الواقع من خلع محمد حسني مبارك تفاديا لمواجهة دموية مع قوى الشعب المنتفضة، لكنه سرعان ما انقلب على الثورة الشعبية بالخديعة المبيتة والعنف الخسيس. ويكفي هنا تذكر إجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لأول مرة في تاريخه من دون رئيسه وظهور دبابات الجيش مكتوبا عليها "يسقط مبارك" قبل إعلان تنحيه، المسرحي وغير الدستوري، في غيابه)

وعلى الرغم من مرور أربع سنوات على إنشائها لا تخلو هذه الموضوعات من دروس يتعين التمعن فيها والاستفادة منها في الفعل الثوري الشعبي في قادم الأيام. ولا أزيد إلا بإشارات سريعة، بين أقواس، عن حال مصر الراهنة في ضوء درس التاريخ، على أعتاب موجة جديدة من الثورة الشعبية العظيمة وأترك للقارئ أن يستخلص الدروس الأخرى التي يرى.

أولا: خطايا الحكم التسلطي تظل تُهدر الحرية والعدل حتى بعد التخلص من رأسه الفاسد

ما برح أريج ثورة الياسمين يفيض علينا شذى يهدي التواقين للحرية والعدل في عموم الوطن العربي.

بداية، تذكرنا تجربة تونس الراهنة بأمر طالما أكدت عليه في كتابات سابقة، مفاده أنه على الرغم من الأهمية المحورية للمتسلط الأكبر على رأس عصابة احتكار السلطة والثروة، إلا أن الحكم التسلطي يَبقى، في النهاية، بُنى قانونية معيبة ومؤسسات سياسية وتنفيذية مختلة وخبيثة يظل لها أثرها المدمر، على الحرية والعدل والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية جميعا، حتى بعد التخلص من المتسلط الأكبر، إن لم يجر تصحيحها. وعليه، فإن خطايا الحكم التسلطي لا تنقضي بالتخلص من رأسه. ومن ثم، فإن الانتصار الناجز على الحكم التسلطي يتطلب تفكيك بنى التسلط وتدمير مؤسساته الداعمة لأغراضه الخبيثة وإقامة أخرى طيبة محلها تضمن نيل غايات الثورة الشعبية.

رأينا في تونس أن الطاغية قد نجح في صوغ بنية قانونية، خاصة في الدستور، تحصر الترشح لمنصب رئيس الدولة في حزبه، بعد أن أفسد الحياة السياسية حتى دمّر أي معارضة جادة. كما أنشأ بالإضافة لجهاز الأمن الباطش في وزارة الداخلية، جهازا خاصا لأمنه وأمن نظامه الاستبدادي وموّله تمويلا سخيا من أموال الشعب الذي سلط هذا الجهاز البطشي لقهره، وسلّحه تسليحا لا يقل عن الجيش، والتجربة مكررة بالكامل في أكثر من بلد عربي خاصة واحد له قصب السبق في توطيد أركان الحكم التسلطي (وفي مصر الحالية يجرى تركيز جميع السلطات في شخص اقتنص جميع سلطات الدولة بفعل إنقلابي، ويفرط في التسلل التشريعي بقرارات بقوانين، بعضها يخالف روح ونص الدستور، ويعيث العاملون لحكمه الآن فسادا في الترتيبات السياسية والإعلام لتدوبم حكم الاستبداد والفساد هذا بتخطيط خبيث من المؤسسة العسكرية. )

ورأينا كيف سلّط الطاغية هذا الجهاز الباطش على الشعب التونسي في أواخر أيامه ليُعمل التخريب ويؤجج الشغب المدمر، بحيث يتبجح رأس النظام بثورة مخرّبة حاول زورا أن يضفي عليها فزاعة التيار الإسلامي كي يستدر تعاطف ومؤازرة أسياده في الغرب وأقرانه في المنطقة، بينما كان هو وأعوانه وراءها. وكيف أُلقي القبض على رأس هذا الجهاز وهو يفر إلى بلد حكم تسلطي مجاور بسيارة باهظة التكلفة من صنف ما تستعمل قوات الاحتلال الأمريكي في العراق، وبأموال طائلة. ومع ذلك استمرت قوات هذا الحرس الخاص المتمركزة في القصر الرئاسي تنازع الجيش باستخدام الأسلحة الثقيلة لمنعه من بسط الأمن على البلد. وليس مستغربا أن رأس الحكم التسلطي في هذا البلد المجاور(القذافي) خاطب الشعب التونسي لائما عليه الثورة ومادحا في الطاغية الهارب، فطيور السوء على أشكالها تقع.

ومن هنا كان احتجاج الشعب التونسي على حصر إجراءات الإصلاح في نطاق أفراد ومؤسسات الحكم البائد، صنائع الطاغية الفار. وللشعب كل الحق، فإن هذا الأسلوب قمين بجعل الإصلاح الحق بطيئا ومريرا، إن لم يكن مستحيلا.

إن الإصلاح الحق الذي يفي ثورة الياسمين حق دماء شهدائها يتطلب صوغ دستور جديد يقنن لمبادئ الحرية والديمقراطية والعدل عبر جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا حرا ونزيها من جميع فئات الشعب تطرح مشروع الدستور الذي تضعه للاستفتاء الشعبي العام، ومحاسبة أهل النظام البائد، وعقاب المجرمين منهم، أمام محاكم مدنية نزيهة، قبل تشكيل الأجهزة التشريعية والتنفيذية للحكم الجديد بالانتخاب الحر عبر آليات تضمن نزاهته. وإن تطلب هذا السبيل بعض الوقت، فمنافعه تستحق التأجيل، على حين قد ينطوى التعجيل بإجراءات إصلاحية في الشكل تجري أساسا في إطار البنى القانونية والسياسية لنظام حكم الطاغية المخلوع، وباستعمال رجالاته، ولو ببعض التجميل الشكلي، بتكريس بعض من آثام الحكم البائد، وإهدار غايات الثورة.

ثانيا: مدرسة للطغاة؟

هل يذهب الطغاة الجلادون إلى مدرسة واحدة؟ أو هم يعملون وفق كتيب إرشادات واحد؟

أو أن ما يحكم سلوكهم هو أنهم أفظاظ، غلاظ القلوب والأفئدة، ولكن في العمق جبناء مجردين تماما من أي نخوة أو شهامة؟ هم في الواقع مجرمون شديدي الأنانية ومجردون من الإنسانية، فينتهون إلى اعتماد السلوك نفسه في الظروف ذاتها. فينزعون إلى تخرِّيب البلد التي حكموا بالحديد والنار ونهبوه سنين طوال، عندما يتأكد لهم أن الشعب قد عقد العزم على التحرر من تسلطهم وإجرامهم. أو أنهم يتلقون تعليمات من جهات خارجية تستعملهم لتحقيق أغراضها في المنطقة العربية والتي غالبا ما تتناقض مع صالح الشعب والوطن؟

انظر في كيف أمر الرئيس الذي كان مغتصبا للسلطة في مصر، باعتباره الحاكم العسكري، بفرض حظر التجول يوم جمعة الغضب (28 يناير) قبل أقل من ساعة من بدء نفاذه بما لم يسمح للجيش الذي أوكل له المسئولية، بالانتشار لتحمل مسؤولية حفظ الأمن وحماية البلد.

انظر أيضا في كيف أن طلائع الجيش، من الحرس الجمهوري، قد أُمرت قبل أي شيء بحماية قصر الطاغية ومقر السفارة الأمريكية، ومقر الإذاعة، صوت الطاغية المزِّيف للحقيقة والواقع والمجمِّل لوجه الحكم التسلطي شديد البشاعة. وقد كان من مزايا محاولة الإعلام الرسمي خلال أيام الثورة استنطاق البعض لتأييد نظام الحكم التسلطي ورئيسه أن كشف عن الضحالة الفكرية والوطنية، حتى لا نقول التخلف الذهني، لنجوم العهد البائد ممن يسمونهم الفنانين، وهم في الغالب مغنون سوقة، أو لاعبي كرة القدم. هذه كانت ثقافة الحكم التسلطي واهتماماته الحياتية(انظر في الاهتمام البالغ لإبني الرئيس بتشجيع مباريات كرة القدم إلى حد المشاركة في الوقيعة بين شعبي مصر والجزائر بسبب التنافس في لعبة كرة القدم)

انظر كذلك في جريمة إصدار الأوامر للشرطة بالانسحاب من جميع المواقع قبل أن يتسنى للجيش أن ينزل للشارع. والجدير بالتذكر هنا هو أن رئيس الدولة، وفق الدستور المعيب القائم، هو رأس السلطة التنفيذية، والوزراء بنص الدستور مجرد معاونين، ومن ثم يتحمل الرئيس مغبة قرارات مرؤوسيه من الوزراء الذين يعيَّن لمساعدته.

ثم انظر في كيف عاثت الشرطة السرية، من الشقاة الصعايك الذين كانوا يواجهون المتظاهرين بالعنف غير المبرر، سلبا ونهبا وإحراقا وترويعا للمواطنين، وإطلاقا للمساجين، في جميع أنحاء البلاد بينما امتنع جهاز الشرطة بكامله عن حماية أمن الوطن والمواطنين، في محاولة الإساءة للانتفاضة الشعبية الشريفة والكيد للخصوم السياسيين باتهام الاخوان المسلمين، و"حماس" و"إيران"، افتعالا لفزاعة محاولة التيار الإسلامي السيطرة على البلد. ألم يفعل "زين الهاربين" كل ذلك حرفيا تقريبا من خلال جهاز أمنه الرئاسي؟

ولكن تفوق عليه جلاد مصر بمحاولة الوقيعة بين الشعب والجيش وجهاز البطش البوليسي التابع لوزارة الداخلية المؤتمِر بأوامر وزيرها المجرم الذي أصدر الأوامر بالانسحاب والتخريب ثم انسحب ليحتمي بقلعته الحصين في مقر الوزارة والذي ظل قناصته(أم هم قناصة الحاكم الحالي كما أعلن الرئيس المعزول علنا في ساحة محكمة؟) يطلقون منه الرصاص الحي على المتظاهرين معملين فيهم القتل والإصابة.

وفي النهاية انظر في كيف حرص الطاغية على حماية الوزراء الذين ظلوا ينفذون أوامره سنين طوال في إفقار الشعب وقهره، بطلب استقالتهم، كي يصطنع آخرين مثلهم من رجالاته، على حين كان الواجب تقديمهم للمحاكمة، وكيف تنافس أقطاب النظام في الحزب الحاكم. ورئيس مجلس شعبه المزور في إلقاء اللوم على تلك الحكومة التعيسة التي يعلم القاصي والداني أنها لم تكن إلا سكرتارية تافهة وباهتة للمتسلط الأكبر تنفذ تعليماته بالحرف.

(ومع ذلك قام الحكم الراهن في مصر بضمان تبرئة الطاغية الذي خلعوه بأنفسهم حتى لا يتورطون في مواجهة دموية مع الشعب، بتدمير الأدلة والشهادة الزور والقضاء الذلول المتواطئين هو وإبنيه وكبار معاونيه، على الرغم من ثبوت جرائمهم في ضمير الشعب ويقينه التاريخي).

مقالات اخرى للكاتب

والذكرى تنفع الثوار





اعلان