18 - 09 - 2024

المجتمعات القديمة روّجت للزواج استناداً إلى... الابتزاز!

المجتمعات القديمة روّجت للزواج استناداً إلى... الابتزاز!

ربما يضيق كثيرون بحال زواجهم، لكن من النادر أن يفكر البشر في عدم ضرروة الزواج كعلاقة إنسانيّة أصلاً. ماذا لو جرى تحدي تلك القناعة المكينة حيال الزواج ودوره في حضارة البشر؟

تدّعي دراسة مستفزة صدرت حديثاً في أميركا والهند، أن مؤسّسة الزواج ما كانت لتنجح في الرسوخ لولا... شيوع الابتزاز في المجتمعات البشرية القديمة!

ثوب أبيض لإخفاء قسوة قاتمة في مجتمعات كثيرة، يرمَز إلى الزواج باللون الأبيض الذي يعكس طهارته، في تقليد يُتبع علناً وبتباهٍ في كل المجتمعات تقريباً. لكن من المرجح أن يكون الحفاظ عليه بتلك الطريقة، بفضل آلية تنفيذ قاسية ومضمرة، بل أنها متوارية تماماً عن الأنظار. وذهب الباحثون الذين أنجزوا الدراسة إلى اعتبار تواري آلية القسوة نوعاً من الخشية غير المعلنة منها. وجرت الدراسة بأسلوب المحاكاة الافتراضيّة للكومبيوتر، مع الأخذ في الاعتبار أنها تقع في حقل الدراسات التاريخية التطورية للسلوك البشري.

وحاولت الدراسة وصف العلاقات الزوجية عبر معادلات الرياضيات، استناداً إلى الطريقة التي تدرس فيها الألعاب الاستراتيجية في علوم الرياضيات. ونشرت الدراسة على الموقع الشبكي لمجلة البحوث «بي أم سي إيفوليوشناري بيولوجي» BMC Evolutionary Biology، كما اهتمت مجلة «علوم العالم» بنشرها أخيراً.

وفي تفاصيل متصلة، صرح باحثون في «المعهد الهندي لتدريس العلوم والبحوث» في مدينة «بونا» الهنديّة، و «جامعة داكوتا الشمالية» الأميركية، أنهم استكشفوا «اللغز» وراء السبب الذي يدفع الرجال والنساء إلى التضحية بمصلحتهم الشخصية المباشرة من أجل دخول القفص الزوجي، الموصوف عالميّاً بأنه «قفص ذهبي».

ولفت الباحثون إلى أن التكاثر يصعب أن يكون سبباً وراء تلك الممارسة المنتظمة والراسخة، بل التي رافقت تاريخ البشرية بأكلمها. ونبّهوا إلى أنه بإمكان الذكور والإناث إعطاء دفع لنجاحهم التناسلي الفردي عبر التحرّر الجنسي، ما يعني أن الزواج ليس شرطاً لا فكاك منه للتناسل.

في المقابل، لاحظ علماء تطوّر سلوك البشر أن مؤسّسة الزواج نجحت على الأقل في الحدّ من العلاقات غير المقبولة، في حين أنها وضعت غالبيّة تلك العلاقات تحت ظلال السريّة.

الكلام... الكلام

على رغم أن الزواج الملتزم والمخلص يشكّل استراتيجية جيدة لتربية الأولاد، إلا أن ذلك لا يفسر وحده كيف استمرت تلك الاستراتيجية ثابتة عبر الزمن، وفق ملاحظة بارزة للباحث ميليند واتفي من «المعهد الهندي» الذي قاد البحث المشترك بين الهند والولايات المتحدة، إذ اعتبر هؤلاء أن العلاقات الأحاديّة شكلت سمة أساسيّة في التزاوج البشري على امتداد السنين. وكدليل على ذلك، سلط الباحثون الضوء على أن الرجال والنساء كانوا متشابهين تقريباً من حيث الحجم العام للجسم، وهو عامل رأوا أنه يرتبط بقلّة العلاقات الجنسية المتعددة السائدة بين أجناس كثيرة.

ولفت علماء الفريق المشترك عينه إلى أن «حراسة الشريك»، بمعنى مراقبة الرجل والمرأة بعضهما بعضاً بطريقة مباشرة والانتقام في حال الخيانة، تشكل جزءاً من آلية التنفيذ التي تدعم الزواج.

وعلى رغم أن مجموعة من الحيوانات تمارس أيضاً مبدأ «حراسة الشريك»، إلا أن العملية الحسابية تشير إلى أن ذلك المبدأ لا يكفي لتطبيق الزواج الأحادي على أساس مستقر، وفق رأي واتفي وزملائه، خصوصاً أن الأحادية تتطلّب استثمار جهود حيوية من الطرفين.

واستطراداً، رأى أولئك العلماء أن «الانضباط الاجتماعي» يشكل ضرورة شبه مسلّم بها بين البشر. بكل بساطة ووضوح، يتعلق ذلك الأمر بعامل المناقشة، إذ تساعد المناقشة على فضح خونة الزواج الذين يكونون موضع إدانة في غالبيّة المجتمعات، مع ما يترتب على ذلك من «عقوبات» تتراوح بين النبذ و...الموت.

وربما تكون المناقشة كذلك أكثر فعالية من «حراسة الشريك» لأنها أسهل: فبدلاً من مراقبة شخصٍ ما بطريقة دائمة ومركزة، يكفي تتبع ملاحظات حيثيّة وعرضية.

ولم يفت الباحثون ملاحظة أن دور المناقشة يؤدي إلى طرح سؤال عن السبب الذي يدفع الناس إلى المناقشة، نظراً إلى أن ذلك النوع من الكلام يكلف جميع المعنيين كمية من الوقت والجهد.

ربما يكون الجواب الأول أن المناقشة مسليّة، لكنها ليست كذلك في نظر الجميع، ويحتمل أن يكون الجنس البشري تطور ليجد أن إيجابيّات المناقشة تفوق كونها مزعجة بامتياز أيضاً.

ووفق تعبير واتفي وزملاؤه، هناك حقيقة مُرّة تتمثّل في أن المعادلات الرياضية لا تعمل إلا إذا كان لكل عمل مقابل أو مقابل محتمل. وفي ما يتعلق بالمناقشة، رأى العلماء أن ما تعود به المناقشة ربما يأتي على شكل فرص للابتزاز، إذ يتوجّب على من يناقش بفعالية أن يكون فضولياً أيضاً، ما يعني أنه يحظى بنفاذ أكبر إلى أسرار تنطوي على أضرار محتملة ربما تستخدم أحياناً في انتزاع مقابلٍ مغرٍ ممن يقدم على الخيانة الزوجيّة، أو حتى ممن يأتي إلى الدنيا نتيجة لعلاقة محرّمة يرفضها المجتمع.

وبصورة إجماليّة، دلل النموذج الحسابي الذي طوّره واتفي وزملاؤه على أن الابتزاز هو الذي يتيح الزواج الأحادي الإلزامي، وفق خلاصة ثبّتت في تلك الدراسة.