26 - 06 - 2024

د. نادر فرجانى يكتب : ماذا يمكن أن يريد الدب الروسى من مصر وبأى مقابل؟

د. نادر فرجانى يكتب : ماذا يمكن أن يريد الدب الروسى من مصر وبأى مقابل؟

 الاتحاد الروسى بقيادة بوتين لم يعد الاتحاد السوفييتى بقيادة خروتتشيف

 مصر أيضا لم تعد الدولة الصاعدة الآخذة بأسباب النهوض والتقدم

فى النهاية مذهبيا ومجتمعيا أصبحت روسيا نسخة من الولايات المتحدة

العلاقات الثنائية بين البشر أو الدول دائما تُكيّف لمصلحة الطرف الأقوى فى الثنائي

 الأرجح أن يحصل الجيش المصرى على بعض الأسلحة القديمة نسبيا فى الترسانة الروسية بتكلفة غير زهيدة

 تصنيع السلاح محليا هو سبيل الاستقلال بينما استيراد السلاح يورث الاعتماد على مصادر السلاح والتبعية لها

بعيدا عن التفاخر الأجوف والتهليل الخاليان من أى مضمون جاد، يتعين أن نضع العلاقات بين مصر والاتحاد الروسى فى سياقها الاستراتيجى السليم، إن كان سيتيسر توظيف هذه العلاقة المستجدة لمصلحة مصر وشعبها.

مؤخرا، بعض موضوعات الإعلام فى مصر بدت وكأنها يغشاها، ويشوه مضمونها، الحنين، غير العقلانى لحلم قديم مضى ولن يعود.

الحُلم هو علاقة مصر والاتحاد السوفييتى فى ستينيات القرن الماضى، هذا الحنين أو التمنى الرغبى، يتجاهل أن الاتحاد الروسى بقيادة بوتين، لم يعد الاتحاد السوفييتى بقيادة خروتتشيف الذى كان يتبنى أيديولوجية تزعم بناء الاشتراكية فى عموم المعمورة، ويتبنى وينفذ سياسات معادية للاستعمار ومناصرة لحركات التحرر فى العالم أجمع. أما الآن فإن الاتحاد الروسى ايديولوجيا وسياسيأ ليس إلا نسخة، ربما مشوهة- بتفاقم التفاوت الطبقى وتفشى الفساد والجريمة المنظمة خاصة إبان حقبة التحول إلى الاقتصاد الرأسمالى، من الولايات المتحدة. ليس إلا دولة رأسمالية لا تخفى أطماعا توسعية واستعمارية أحيانا، لا ننسى أفغانستان مثلا.

ومصر أيضا لم تعد الدولة الصاعدة الآخذة بأسباب النهوض والتقدم، بقيادة زعيم تاريخى بلا منازع، ليس فقط لمصر بل للأمة العربية جمعاء، وأحد زعماء قلائل مبرزين لحركة التحرر العالمية، كما كانت ممثلة فى حركة عدم الانحياز، حنيئذ.

ولذلك، لوضع العلاقة بين مصر والاتحاد الروسى كما هما فى الوقت الحاضر، لابد من اللجوء إلى التحليل الاستراتيجى الرصين، بعيدا عن الطنطنة الجوفاء بانتصارات ضخمة، وهمية على الأغلب.

ولعل فى تبخر أوهام اختلاقات حصول مصر على السلاح الفائق التقدم من روسيا بعد زيارة رئيسها بوتين المغرقة فى الاحتفالية الشكلية الأخيرة، ولجوء القيادة المصرية للحصول على السلاح الفرنسى باهظ التكلفة مبرر لإعادة النظر العقلانى بدلا من الإندفاع الأهوج للتطبيل الإعلامى.

يتناول المقال أولا جذور التفكير الاستراتيجى فى الموضوع، اهتداء بفكر الراحل العظيم جمال حمدان، ثم ينتقل إلى مناقشة طبيعة العلاقة بين طرفين متفاوتين فى القوة وانعكاسها فى مجال التبادل الاقتصادى، ويختتم بتقييم لاحتمالات حصول جيش مصر على السلاح المتقدم من الاتحاد الروسى وجدواه لغاية ضمان الاستقلال الوطنى وحماية أمن مصر والوطن العربى .

(1) السياق الاستراتيجى لعلاقة مصر والاتحاد الروسى

يعتمد هذا الجزء من الموضوع على الكتاب القيّم للراحل العظيم جمال حمدان: استراتيجية الاستعمار والتحرير (دار الشروق، 1983) وفيما يلى مقتطفات شبه حرفية من السفر الرائع، والذى مازال تحليله معاصرا على الرغم من مرور ثلاثة عقود على نشره. ولعله أكثر مصداقية اليوم بعد انكماش الاتحاد السوفييتى إلى  الاتحاد الروسى، ومن أسف أن هذا الكتاب القيم لم يحظ بالذيوع والقراءة المُستحقين، خاصة فى دوائر صنع السياسة فى مصر.

تتسم روسيا بصفة أساسية هى بلا شك "القارية"، القارية المطلقة. فهى أولا رقعة واحدة متصلة سحيقة الأبعاد من اليابس. بل لعل العالم لم يعرف فى تاريخه دولة أو إمبراطورية برية متصلة فى مثل هذا الحجم، إلا أن تكون إمبراطورية جنكيز خان.

وهى أطول الدول حدودا، سواء برية أو بحرية، نحو 38 ألف ميل، أى مثل محيط الكرة الأرضية مرة ونصف مرة. ومع ذلك فلم يكن هناك دولة معزولة بالطبيعة وحبيسة عن عالم المعمور كروسيا. فهى وإن بدت ساحلية شكلا، تعد قارية موضوعا، فشمالا ثمة المحيط المتجمد، وجنوبا نطاق عميق من الصحارى والمرتفعات الصارمة، وشرقا فراغ المحيط الهادى الهائل وأضخم صحراء على وجه الأرض. إنها –نكاد نقول- رهينة المحبسين، صحراء الجليد وصحراء الرمل. وهذان بالفعل هما المؤشران اللذان يكونان معا بوصلة السياسة الروسية أو حجر المغناطيس فى سياستها. وقد بدأ التوجه إلى  البحار الدافئة منذ بطرس الأكبر- القيصر الخامس لروسيا فى القرن الثامن عشر- بالتحديد أو بالتفصيل. وبعده يمكن تفسير كل السياسة الخارجية  برغبة الدب الرسى فى "المياه الدافئة".

ولهذا فقد تركز ضغط السياسة القيصرية فى الغرب على ضلوعه الأوربية، ففى البلطيق بدأ بطرس الأكبر "بنافذة الروسيا على أوروبا" حين خلق سان بطرسبرج (لينينجراد) من لا شيء. ثم كانت أوكرانيا أرض صراع مزمن.

******

ويمتد شوق الدب الروسى إلى  المياه الدافئة طبيعيا إلى  البحرين المتوسط والأحمر وحتى إلى  الخليج العربى الذى قال فيه بطرس الأكبر مقولته التنبؤية الشهيرة "من يسيطر على الخليج، يسيطر على العالم". وهكذا بدأت روسيا تتطلع إلى  هذه البحار بعد توسعها الجنوبى فى القوقاز ووسط آسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ولا ننسى أن القاعدة البحرية الروسية فى ميناء طرطوس السورى كانت وراء الدعم غير المشروط للطاغية بشار الأسد، وقد فقدتها روسيا أو كادت، وبحاجة لآن تعوضها.

يبقى أن نتناول رؤية حمدان للصراع بين الدولتين الكبيرتين، الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. عنده أن قصة الصراع بين العملاقين والمعسكرين تتلخص فى التحليل الأخير فى أنها بدأت صراعا أيديولوجيا أى بين الاشتراكية والرأسمالية . فتحولت فى ظل وتحت ضغط العصر النووى إلى  صراع بين الأيديولوجيا والتكنولوجيا، أى على الترتيب بين المذاهب السياسية والأسلحة النووية. فانتهت أخيرا بتغلب الأخيرة على الأولى خشية الانتحار النووى المتبادل. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التكنولوجيا (النووية) قد أثبتت أنها أقوى عمليا من الأيديولوجيا (المذهبية) فأرغمتها على التقارب والاتجاه نحو حل وسط تاريخي. وهكذا، حصلت النقلة الاستراتيجية من الحرب الباردة إلى  الوفاق

وقد عجّل انهيار الاتحاد السوفييتى المروّع من إلحاق الاتحاد الروسى بمعسكر الغرب مذهبيا ومجتمعيا. فى النهاية، مذهبيا ومجتمعيا، أصبحت روسيا نسخة (ربما ممسوخة) من الولايات المتحدة.

وأخيرا، لا مناص من وضع المشروع الصهيونى فى المنطقة العربية فى هذه الصورة الاستراتيجية حتى تتكامل. يعتبر جمال حمدان الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية والاستعمار. ويقرر أن مصير إسرائيل الصهيونية سيحدد فى نهاية المطاف مصير الإميريالية العالمية. فما دامت إسرائيل باقية فإن الإمبريالية، الروسية أو الغربية، ستظل مقيمة لا تريم فى العالم الثالث. ولكن يوم تذهب إسرائيل فسوف تكون تلك بداية النهاية المطلقة للإمبريالية.

(2) مصالح الطرف الأقوى دائما تُقضىى أولا

نقلت الصحف المصرية أن الهيئة الفيدرالية للرقابة البيطرية والصحة النباتية الروسية، أعلنت منذ شهور أن مصر مستعدة للبدء بتوريد منتجات الألبان واللحوم والأسماك والمأكولات البحرية إلى  روسيا.

لاحظ، عزيزى القارئ، أولا إن الإعلان صدر من الطرف الروسي!

ولاحظ من فضلك، ثانيا، أن الغرض من استيراد السلع المذكورة من مصر هو تفريج ضائقة فى روسيا ترتبت على أزمة فى العلاقات التجارية مع الدول الغربية بسبب الخلاف حول أوكرانيا.

ولاحظ ثالثا، أن السلع التى اعلنت الأجهزة الروسية عن الاستعداد لاستيرادها من مصر هى سلع قليلة نسبيا فى الأسواق المصرية وأسعارها مرتفعة نسبيا. وبناء عليه، فعلى المصريين الذين مازالوا قادرين على الاستمتاع بهذه السلع أن يستعدوا لدفع أسعار أعلى فى نوعية أردا من هذه السلع. فالطبيعى ان سيسعى المصدرون إلى اقتناص النوعية الأفضل من هذه السلع للحصول على أعلى الأسعار من تصديرها وللوفاء بمتطلبات أجهزة السلامة والرقابة الروسية. ولن يبقى للمصريين إلا "الفرز الثاني" منها وترتفع الأسعار لزيادة ندرة السلع، وهى قليلة ـأصلا وأسعارها عالية كما ذكرت فى البداية.

وهكذا العلاقات الثنائية، بين البشر أو الدول، دائما تُكيّف لمصلحة الطرف الأقوى فى الثنائي.

ولكن لا تبتئس كثيرا، فالأرجح أن سيحصل الجيش المصرى على بعض الأسلحة القديمة نسبيا فى الترسانة الروسية- بتكلفة غير زهيدة حتما، بينما ستبقى الولايات المتحدة تضمن إسرائيل التفوق فى التسليح مجانا- وربما يرافقها بعض القمح لخبز الغلابة وبعض الكافيار الروسى لمتعة علية القوم فى مصر

ولاحظ من فضلك، أخيرا، أنه باستثناء التهليل المخادع القائم على تهيؤات لبعض إعلاميى التطبيل (بالمناسبة، يسمى تطبيلا لأن الطبل يصدر صوتا عاليا ولكن جوفه خالٍ)، فلم تصدر كلمة واحدة موثوق بها عن أى مزايا ستحصل عليها مصر من الزيارة التى وصفوها بالتاريخية باستثناء الإدعاء الفارغ بأن مصر ستحصل على أسلحة فائقة التقدم لم تعطها روسيا حتى الآن لأخلص أصدقائها. وأغلب الظن أن هذه الإدعاءات ستتبخر كما تلاشت إدعاءات مماثلة بعد الزيارة الأولى للرئيس الحاكم لروسيا منذ عدة شهور والزيارة الأخيرة فى الشهر الماضي. وظنى أن جيش مصر لن يحصل على سلاح متقدم من روسيا إلا لقاء ثمن باهظ لا يقل عن قواعد بحرية فى مياه البحار الدافئة، المتوسط والأحمر والخليج، والتى يشتهيها الدب الروسى منذ عهد القيصر بطرس الأكبر. فى النهاية، ماقدم الرئيس الروسى من سلاح بمناسبة زيارته الميمونة لم يكن إلا مدفع "كلاشينكوف" واحد، كهدية شخصية للرئيس الحاكم. وبعدها مباشرة أعلن عن شراء مصر لأسلحة فرنسية  لا يقبل عليها كثيرون، ولا حتى القوات المسلحة الفرنسية، وباهظة الثمن أيضا، فى صفقة شابها تعجل مريب، ما قد يعنى أنها كانت ردا متعجلا على رفض روسى لتزويد مصر بأسلحة متقدمة.

(3) تصنيع السلاح محليا هو سبيل المنعة والاستقلال الحقيقيين

نقلت الصحف أن إيران كشفت النقاب مؤخرا عن صواريخ جديدة قصيرة المدى وطائرات بدون طيار. ويذكر أن إيران كانت قد أطلقت عام 1992 برنامجا محليا للصناعات الدفاعية ينتج أسلحة خفيفة وثقيلة.

إن تصنيع السلاح محليا هو سبيل المنعة والاستقلال الحقيقيين بينما استيراد السلاح وقطع الغيار والذخيرة، ولو من مصادر متعددة، يورث الاعتماد على مصادر السلاح والتبعية لها.

والمعروف أن تصنيع السلاح صناعة متقدمة لها تأثير مضاعف على التنمية. فهى من ناحية تحفز جهود البحث العلمى والتطوير التقاني. ومن ناحية اخرى، تنعش عديدا من الصناعات المُزودة والمُكملة.  

ولا غرابة إذن فى أنه، بخلاف إسرائيل، تعد إيران، على نطاق واسع، الدولة الوحيدة الصاعدة تنمويا وتقانيا فى منطقة "الشرق الأوسط"، لاسيما إن أخذنا فى الاعتبار تصميمها على اكتساب التقانات النووية وتوظيفها والذى حققت فيه شوطا كبيرا من خلال، وعلى الرغم من، معركة دولية ضارية.

ولعل لنا فى العدو الأساس إسرائيل عبرة. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة على استعداد دائم لتزويد الدولة العنصرية الغاصبة بجميع احتياجاتها من الأسلحة والذخائر، مجانا، فإن صناعة السلاح والبحث العلمى والتطوير التقانى المتصل بها كانت دائما على رأس أولويات إسرائيل وأنجزت فيه بشكل باهر حتى انها تشارك الولايات المتحدة فى بحوث وتجارب تطوير الأسلحة الأكثر تقدما.

أما عندنا فى مصر فاكتفينا بالاعتماد على المعونة العسكرية الأمريكية لمدة أطول من ثلاثين عاما. وسعت السلطة الحاكمة الآن للاعتماد على مصدر آخر من الاتحاد الروسى لن يتعامل مع مصر إلا كتاجر سلاح أو طامع فى ميزات استراتيجية- ثم لجأت لدولة غربية أخرى لها مطامع استعمارية فى الغرب العربى فى شمال إفريقيا. كل هؤلاء لا يختلفون فى توجهاتهم السياسية كثيرا عن الولايات المتحدة، وتشوبها نزعة إستعمارية غالبة.

وإن وسعّنا نطاق البحث الجغرافى، تتعدد الأمثلة على دول صعدت، فى مجال التنمية وفى إنتاج السلاح محليا كليهما، بينما تخلفت مصر على الرغم من تفوق مصر عليها فى مراحل زمنية سابقة. أهم مثلين هما الهند والصين، ومصر كانت أفضل حالا، على الأقل تنمويا، من كليهما فى 1950. ولكن بالطبع لا ننسى باكستان وكوريا، ومصر كانت أفضل حالا من كليهما حتى 1960.

وهناك واقعة تاريخية، ذات صلة بهذه المناقشة، لا أملّ من تكرارها. فى مطالع 1967 اخترقت طائرة حاجز الصوت فوق القاهرة، لأول مرة فى التاريخ. المفاجأة أن هذه الطائرة كانت من إنتاج مشروع مصري-هندى مشترك. وللعجب، فإن مساهمة الهند كانت تصنيع جسم الطائرة بينما ساهمت مصر بالمكون الأعقد تكنولوجيا، أى المحرك. أظن أن هذا المشروع، ضمن عزم مصر على إنتاج السلاح محليا، كان من أسباب التعجيل بضربة 1967 لكسر الجيش المصرى وإجهاض مشروع النهضة الناصري. غير أن المشروع توقف بعد ذلك بناء على اقتراح أحد المشرفين عليه، الذى تحول بعدها إلى  واحد من كبار تجار السلاح فى المنطقة العربية و إلى عميل، يقول البعض مزدوج، لإسرائيل.

##

مقالات اخرى للكاتب

وفاة 6 أشخاص وإصابة 3 آخرين في حادث تصادم سيارتين بكفر الدوار





اعلان