30 - 06 - 2024

إدريس ومحفوظ والوطن

 إدريس ومحفوظ والوطن

فى مخيلتى دائما نموذجان ساطعان لموقف الأديب من قضايا الوطن، أحدهما كان لا يعبر عن رأيه ولا مواقفه إلا فى ثنايا نصه الروائى، فإذا تحدث هو بدا حديثه بالغ الحياد إلى حد المهادنة أحيانا، والآخر كان جبلاً من الديناميت، لا يكف عن الانفجار أو التفجير، إذا كتب القصة انفجر أو فجرـ وإذا كتب المقال أشعل النيران، وإذا تحدث كان حديثه سريع الطلقات.

ولأنى أوقن أن كلاً منهما أديب حقيقى يحمل الوطن فى قلبه وفى حبتى عينيه، فإنى أزداد حيرة كلما تأملت مواقفهما، فلا نجيب محفوظ بحديثه الهادىء الذى لا يكشف عن حس معارض صارخ المعارضة كان معطياً ظهره لقضايا الوطن وهمومه، وإن شئت فاقرأ رواياته وتأمل مواقفها، ولا يوسف إدريس بتفجره فى الحديث وفى المقال وفى القص كان يبالغ مبالغة الخطباء أو يزايد مزايدة الأدعياء.

كل منهما كان يجسد وجها من وجهى العملة، وكل منهما كان يجيب عن سؤال: كيف يكون موقف الأديب من قضايا الوطن؟ هل يدخر مواقفه ويخبىء  مشاعره داخله لتنضج أكثر وأكثر ثم تتسرب فى نصه الروائى الخاص كما يفعل نجيب، أم يعيشها لحظة بلحظة ويفجرها كبسولة إثر كبسولة كما يفعل يوسف؟

والوجه الآخر للسؤال: هل ينبغى على الأديب أن ينأى عن أى شكل من أشكال التعبير المباشر عن موقفه الوطنى عامة والسياسى بصفة خاصة؟

وهل يضيره كأديب أن يعبر هذا التعبير المباشر، ويقلل من قيمة عمله الإبداعى؟

أم أن عليه أن يتخذ موقفه كمواطن قبل أن يكون أديباً، ويعلن رأيه كإنسان قبل أن يكون مفكراً؟

أين يكمن شرف الأديب: فى كلمته التى يقولها فتتبدد فى الهواء فى نظر البعض، وتعبر عن الموقف فى نظر البعض الآخر؟ أم فى كلمته التى يكتبها فتبقى وتحفر لنفسها مجرى فى قلوب قرائه؟ وأين تكمن مصداقية الأديب: فى مواقفه أم فى أدبه؟ وكيف لها أن تتجلى فى كليهما فى آن معاً، دون أن يسقط أدبه فى فخ المباشرة، ودون أن تقع مواقفه فى شرك الممالأة؟

أعتقد أن السؤال يحتمل أن نفكر أكثر، لكنى أوقن أن الفارق كبير جداً بين العمق والنضج من ناحية و النفاق والممالأة من ناحية أخرى.

وكذلك الفارق كبير بين اتخاذ الموقف من ناحية والمزايدة الصاخبة من ناحية أخرى.

ومن نعم الله علينا أن تيار الصدق يتوهج لنستطيع بلا عناء أن نميز هذا عن ذاك وهذه عن تلك.

##

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة





اعلان