17 - 07 - 2024

راهب الليل

راهب الليل

ما أشبه الشاعرَ في غمرتهِ
بمُمسكِ الخنجرِ من شفْرته
يذود بالمقبضِ عن حوزتهِ
يدمي فلا يدمي سوى راحته

ما أرحم الشعر على قسوته

هى كلمات للشاعر المصرى بالغ التميز طاهر أبى فاشا، ذلك الأديب الذى ملأ الدنيا أدباً، والإنسان الذى ملأ حياة من عرفوه إنسانية ومودة، وكنز الظرف الإنسانى الجميل الذى كان أهم ظرفاء عصره وأذكاهم وأرقهم حاشية، على الرغم من أن حياته كانت قصيدة تراجيدية من طراز فريد، لم يكن أقسى ملامح تراجيديتها فقده زوجته بشكل درامى، ولا حتى وفاة ابنه الشاعر الواعد فيصل طاهر أبى فاشا على حياة عينه، وإنما يميت الرجل رغم أنفه موت ابنه على حياة عينه.

هو شاعر تعذب بالشعر وأمتعنا به، وهو إنسان أبهجنا بإنسانية الحياة واصطلى وحده نيرانها، لم تكن وقفته الخاصة الرائعة أمام شهيدة العشق الإلهى رابعة العدوية سبباً فى سريان النفس الصوفى فى أشعاره، بل كانت الأنفاس الصوفية التى تملأ أجواء قلبه سبباً فى توقفه أمام هذه الشهيدة الفريدة.

حدثنى شاعر كبير عن طريقته الفذة فى السخرية من آلامه سخرية راضية لا جاحدة، فقال: حين زاره أحدهم ووجده يغمس لقيمات جافة فى السائل المصرى العجيب (المِش) ذى المذاق الحارق القاسى، سأله: ماهذا؟ فأجابه: هذا غيره. فلما لم يفهم السائل مقصده، بادره شارحاً: ألم تقرأ قول القائل:

من لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد

فهذا إذن هو (غيره) الذى يموت به من لم يمت بالسيف .

عرفته الأمة كلها عبر صوغه الدرامى الجميل للتحفة العربية ألف ليلة وليلة، ومن بعدها : ألف يوم ويوم، ولكن عشاق الشعر استمتعوا بدواوينه الرائعة: صوت الشباب، الأشواك، دموع لا تجف، القيثارة السارية، الليالى، راهب الليل ، وهى الدواوين التى جا بها الشعر من طوفان انشغال الشاعر بالدراما الإذاعية.

ولا أظن أن أبياتاً شعرية لشاعر حدي قد أوجعتنى كما أوجعنى قول طاهر أبى فاشا فى وداع ابنه فيصل بعد مصرعه المؤلم:

كم ذا ألاقي من الأيـــــام يا ولـدي
ولا أراك َ إذا يومـــــــــــــا ً مددتُ يدي!

خوفي عليكَ وخوفي منك َ يملؤني
رعبــا ً من اليوم موصولاً برعْبِ غدي

هذا الذي كنتُ أرجوه ليحمــــلَني
فصرت أحملهُ شيــــخا ً بلا جَـــــــــــلَدِ

##

 

 

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة