28 - 09 - 2024

مراكز القوى " الإعلامية "

مراكز القوى

يحكي الأستاذ الكبير " سامي شرف " سكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات  .. متعه الله بالصحة والعافية .. أنه في أحد الأيام  أتصل به " الريس  عبد الناصر " في التليفون , وسأله : " انت تعرف يوسف أدريس " ؟ فأجابه الأستاذ " سامي " : أعرفه كأديب وككاتب ولكني لم أقابله شخصيا . فقال  له عبد الناصر : طيب اتصل به وقابله وبلغه على لساني الرسالة دي : انه حرصا من عبد الناصر على  شخص يوسف أدريس الذي يحبه ويقدره , ولا يحب أن ينال منه أي شخص أو إتجاه مريب , فإن مجلة " حوار " اللبنانية  , لا يليق بأن تكون بها صفحات عليها توقيع هذا الانسان  الشريف  النظيف " يوسف إدريس " .. وأن جمال عبد الناصر على أتم استعداد أن يقف بجانبه مهما كانت الظروف " . ويقول الاستاذ سامي شرف  : طلبت من منير حافظ .. بإعتباره على اتصال بالصديق يوسف إدريس وقت ان كان منير رقيبا في روزا اليوسف وقبل تعيينه  مساعدا لسكرتير الرئيس للمعلومات ..  أن يدعو يوسف إدريس لمقابلتي .. وفي اليوم التالي قابلته في مكتبي وأبلغته برسالة الرئيس جمال عبد الناصر .. فإستفسر مني " يوسف " عن السبب في رغبة الرئيس في عدم الكتابة  في هذه المجلة .. فأخبرته أن هذه " المجلة " لها إرتباطات وثيقة بالمخابرات المركزية الأمريكية .. وللحقيقة فإن "يوسف إدريس " لم يكن يعلم  بالصلة بين " المجلة " وبين المخابرات الأمريكية .. الشيء الذي كنا متأكدين منه  .. وكانت هي المرة الأولى والأخيرة التي كتب فيها " يوسف إدريس " مقالا لهذه المجلة .. بل انه أعلن  رفضه للجائزة التي كانت المجلة قد قررت منحها له  .. وقد قرر " عبد الناصر " أن تمنحه مصر قيمة هذه الجائزة " . وانتهت قصة " يوسف إدريس " مع مجلة " حوار " التابعة  للمخابرات الأمريكية .

كان عبد الناصر  يحرص على متابعة  شؤون الصحافة والإعلام والأدب والفن  بنفسه .. عبر التقارير  التي تمده بها الأجهزة المختلفة في الدولة .. وكان يحرص على التعامل مع الصحافة والإعلام بإعتبارهما " أمناً قوميا " . وقد إشتكى عبد الناصر مرارا من الإعلام والصحافة  .. فقد هاله أن الصحافة تكتب عن الخرافات وتحضير الأرواح والذين هبطوا من السماء  والذين صعدوا من الماء , فضلا عن أخبار الفضائح  العاطفية . أو  تنشر أخبار الطبقة الرأسمالية والنوادي وانصرفت عن نشر أخبار الفلاحين  والعمال والفقراء وطالب الصحفيين أن  " اللي عايز يكتب .. يروح هناك .. ويشوف الناس عايشة إزاي وبتعمل إيه " .

وما أشبه اليوم  بالبارحة ..

 فمنذ  ثورة يناير  .. انتقلت الفوضى  من الشارع الى الإعلام  المرئي والمكتوب .. وساهمت " الموجة الثورية " على غسل تاريخ بعض الإعلاميين الملوثين بعلاقات شائنة مع النظام الأسبق  ورجاله ونسائه . ثم جاءت   " ثورة 30 يونيو "  على الأخوان ,  وظهرت نخبة جديدة من الإعلاميين  باتوا   يتصورون  في أنفسهم زعماء سياسيين  أكبر من المسؤولين في الدولة وأهم من قادة الأحزاب , وباتوا يعتقدون  في قدرتهم  على " إرهاب " الحكم والحكومة والوزراء من خلال برامجهم .. ولما لا .. والشارع معبأ بكل ألوان الضجيج " الثورجي " .. والرأي العام مستعد لوضع رقبة  أي مسؤول يقع تحت المقصلة ببضع كلمات غير مسؤولة من أعلامي لا يملك من الثقافة السياسية ما يؤهله للحكم على الوضع التاريخي الذي تعيشه البلد ؟

أما الأخطر , في رأيي , فهو الهجمة " المنظمة " التي يديرها بعض الاعلاميين  لصالح رجال الأعمال  , خصوصا هؤلاء الذين تحتوي ملفاتهم على شبهات فساد أو استغلال نفوذ  مع  النظام السابق .

وقد توافق ظهور هذه  الحملة بعد اجتماع رئيس الدولة برجال الأعمال ومطالبتهم التبرع لصندوق " تحيا مصر " . وانفجرت الفضائيات الخاصة في حملة منسقة ومتزامنة للهجوم على الدولة وتصيد أخطائها .  وقد أخذت الحملة أشكالا متعددة . كالتقليل من حجم الإنجازات  او تجاهلها  أو وضع السم في العسل من خلال البكاء  عن الحريات السياسية واستضافة  كل المعارضين للدولة من المتشنجين والمراهقين الثوريين .

وربما أخبث ظاهرة إعلامية , ظهرت في الأيام الأخيرة .. ونحن على أعتاب الإنتخابات البرلمانية .. هي ظاهرة التركيز المفاجئ على أنماط من الموضوعات والسلوكيات الشاذة   كتسليط الضوء على موضوعات  كالإلحاد او الرقص المبتذل  أو بث مسلسلات  ذات لغة منحطة وسلوكيات منحرفة وشاذة .. وهي كلها في رأيي " مادة اعلامية " لا تخدم إلا تيارات التطرف الديني والتيارات الرجعية التي تشن حربا نفسية ضد النظام القائم بإعتباره معاد للدين  وحام  للفسق والمجون والشذوذ  والعلمانية  السياسية المعادية  للدين والقيم والأخلاق  . وبذلك يعطي الأعلام " المنفلت "  "للأخوان والسلفيين والرجعيين  الفرصة ليسوقوا أنفسهم بإعتبارهم دعاة " عدالة " و " نبل " و " أخلاق " .

لا شك أن هناك أنفلات كبير في الأعلام الخاص .. وهو في النهاية إعلام الرأسماليين ويسيرونه وفق مصالحهم الحالية أو المستقبلية .. لكن من حق الدولة والمجتمع ضبط هذا الإنفلات .. وكما تحمي  الدولة شوارعها  من البلطجة .. فعليها أن تحمي عقل المواطن  من " البلطجة الإعلامية " . 

مقالات اخرى للكاتب

عبد الناصر.. وحكم العسكر .. الحقيقة والوهم !!!