28 - 09 - 2024

قَطَر والجَمَاعَةُ .. خَرِيْفُ العَلاقَةِ

قَطَر والجَمَاعَةُ .. خَرِيْفُ العَلاقَةِ

هل أدركت دولة قطر الصغيرة حجماً ومكانة من الناحية التاريخية والجغرافية والفقيرة أيديولوجياً أن الجماعة صارت أكبر منها ؟ وهي بالفعل أكبر منها من حيث عدد أعضائها وسنواتها الضاربة في القدم منذ العهد الملكي ، لكن يبقى السؤال الأكثر إثارة هو لماذا قررت قطر التخلي عن الجماعة ورعاية أعضائها ومريديها وسكان تنظيمها الهاربين خارج مصر في هذا التوقيت الحرج على المنطقة العربية خصوصا ومنطقة الشرق الأوسط على وجه العموم ؟ .

أسئلة كثيرة بدأت في الاستنفار وجميعها تتعلق بخريف الجماعة في قطر ، بعد أن كانت الأخيرة هي ملاذ تنظيم حسن البنا والراعي الرسمي لمهاجمي الجمهورية المصرية الثالثة ، والبوق الأعلى صوتاً للمنادين بشعارات الشرعية والمنددين بما يسميه أهل وعشيرة الرئيس المعزول محمد مرسي بالانقلاب ، هذا المصطلح الذي أرهقتنا به قناة الجزيرة وطن جماعة الإخوان وأرضها وسماؤها وبرها وبحرها منذ عزل محمد مرسي رغم أنها كانت في غفلة عن المشهد المصري وقت جلوسه على عرش مصر الذي لفظه بغير رجعة .

وبغير مقدمات معلنة ، اضطرت الدوحة مؤخراً إلى إبلاغ قيادات جماعة الإخوان ضرورة مغادرة أراضيها على وجه السرعة ، بعد أن احتضنت الولاية القطرية كافة فعاليات الجماعة وراعت أحلامها التي كانت تتجه صوب عودة محمد مرسي إلى قصر الاتحادية ، وكانت العدسة اللاقطة لكل التظاهرات النهارية والليلية التي تندد بمصر المعاصرة ، وأيضاً دشنت كل مشروعات الهجوم على مصر شعباً وحكومة ونظاماً حاكما في الوقت الذي انفردت فيه الولاية القطرية بحرمان الشعب المصري من مشاهدة كل النشاطات الرياضية التي تتعلق بمنتخب بلاده ، كما حرمته من قبل من مشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم والتي أقيمت مؤخراً في البرازيل ، مستخدمة شعار الدفع قبل العرض .

وقبل الخوض في تأويل طلب السلطات القطرية بضرورة مغادرة قيادات الجماعة أراضيها ، ينبغي التنويه عن حقيقة مفادها أن الجماعة بالفعل أكبر من دولة مثل قطر ، وكان من المدهش أن يستجيب أعضاء ورموز تنظيم حسن البنا إلى نداءات الولاية القطرية باللجوء إليها والمكوث ببقاعها الأشد صغراً مساحة ، ولربما وصفت فترة حكم الجماعة بالبلادة السياسية وقت حكمهم الفعلي عن طريق مندوب الجماعة الرئيس السابق الدكتور محمد مرسي ، لكن في هذه المرة تبدو الجماعة أكثر بلادة في اختيارها قطر مكاناً للجوء السياسي والبقاء الاختياري لها ولأعضائها والمتعاطفين معها أيضاً .

لأن قطر لا تمثل أية أهمية نسبية في المنطقة سوى أنها مستهدفة دوما من الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت فيها ضالتها المنشودة في خلق محطة يمكن الاستراحة المؤقتة فيها وتزويد المسافرين بكل ما يحتاجونه ، كما أنها استطاعت أن تجعل من قطر أذنا يصغي ويسمع كل ما يدور في المنطقة من أخبار ، ونقلها مباشرة إلى الإدارة الأمريكية وهذه هي عادة من يشعر دوما بمركبات النقص والشعور بالدونية .

ويبدو أن قطر بدأت تستشعر الحرج إزاء وجود قيادات الجماعة على أرضها الصغيرة ، ذلك لعدة عوامل ، منها أن الثقافة القطرية السائدة هي ثقافة الاغتيال السياسي لا بمعناه الجسدي الذي يفضي إلى موت الخصوم ، لكن بمعناه الإقصائي ، وإذا كانت الإدارة القطرية قد نهجت منذ فترة سنة الانقلاب على السلطة الأبوية الحاكمة وهم في حالة ضعف ، فما بالك بوجود جماعة لها صفة التخطيط الجيد ، والتنظيم السري المحكم ، بالإضافة إلى قدرتها الهائلة على تسيير أعمالها تحت المنضدة السياسية وهي أمور كلها تستدعي قلق الحكومة القطرية والسلطات الأمنية التي هي بالفعل غير قادرة أمنيا في مواجهة جماعة الإخوان .

العامل الثاني هو الضوء الأخضر الذي منحته الإدارة الأمريكية لحكومة قطر في مغادرة قيادات الجماعة أرضها بعد حالات التنعم المادية والأدبية والإعلامية التي تنعم بها القادة والتابعون وتابعو التابعين والمتعاطفون بغير استثناء ، فالولايات المتحدة الأمريكية لها من الاستشعار والاستشراف قدرة هائلة وهي بالفعل أدركت أن المساحة السياسية الراهنة لا تحتمل أدنى رهان سياسي جديد على فصيل لم يعد يمتلك القوة والقدرة المطلوبة ، لاسيما وأن الجماعة كفصيل سياسي أصبحت اليوم مطاردة ليست في مصر وحدها بل في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين وأخيرا الكويت ، وأيضاً بعدما قررت الدول الأخيرة قبول فكرة عودة سفرائها إلى الدوحة مجددا وهو الأمر الذي يهم مصالح الإدارة الأمريكية والولاية القطرية في المرحلة المقبلة.

وهذا التخلي الإجباري لقطر عن استضافة الجماعة يؤكد حجم الضغوط السياسية التي مرست على هذا الكيان الصغير الذي لم يكن يدرك فكرة المقامرة السياسية التي خاضها من أول لحظة ، وبقيت الملامح اللاستشرافية القادمة أكثر غموضاً من فكرة تعاطف قطر مع الجماعها ودعمها لكافة التحالفات التي تردد شعار الشرعية وعودة محمد مرسي إلى الحياة السياسية المصرية بصورة رسمية ، وهذا ما سكترث به المحللون السياسيون وهم ماكثون أمام قناة الجزيرة وأيضاً وهم يطالعون الصحف والمطبوعات القطرية والتي بغير شك ستنسحب شيئاً فشيئاً عن مشهد الصدارة في الدفاع عن موقف الجماعة ، وخصوصا أن من ضمن الاتهامات الموجهة لقيادات الجماعة التخابر مع قطر ، وهذا يضع هذه الدولة في مصاف الدول المتأمرة على مصر العظيمة . وبالتأكيد يوم على صدر يوم تدرك الحكومة القطرية قوة ومكانة الإدارة السياسية في مصر وحجمها الكبير وأنها لا طاقة لها بدخول صراع أو كسب خصومة مع دولة بحجم مصر رغم وضعها الاقتصادي .

ولم يعد يهم كثيرون الوجهة السياسية المقبلة والتي سيغادر إليها قيادات الجماعة وأنصارها القابعين في قطر ، لأن مصر أبلغت رسميا سلطات البوليس الدولي والمعروف بالإنتربول بأسماء هؤلاء وأنهم مطالبون للمثول أمام القضاء المصري نتيجة ارتكابهم مجموعة من الجرائم السياسية والجنائية والتي استهدفت تقويض الأمن القومي وزعزعة الاستقرار في مصر . لذا فهؤلاء أصبح موقفهم لا يحد عليه ، لا لأنهم فقدوا دعماً مكانياً ومادياً وإعلامياً فحسب ، لكن لأنهم أصبحوا اليوم شبه مطاردين من الشرطة الدولية وكذلك بات التفكير في زعزعة استقرار مصر ضرباً من العبث رغم إيمانهم المطلق بأفكار الجهاد والمقاومة ، لكن كاد التفكير في مصير وجهتهم المرتقبة هو الأمر الأكثر اهتماماً.

والغريب أن المصريين وهم يطالعون أنباء مطالبة السلطات القطرية بمغادرة الجماعة أراضيها ، لم يكترثوا أو يهتموا بردود أفعال الجماعة المقيمة في قطر ، لكن جل همهم وعظيم اهتمامهم بات منحصراً وسيظل قاصراً على توقع تغير السياسة القطرية تجاه مصر والتي ستحددها قوى مختلفة منها مصالح الإدارة الأمريكية في المنطقة ، والعلاقات الخليجية ، وقدرة النظام المصري في نزع فتيل الجماعة وإبطال مفعولها .. هكذا السياسة دوماً لا تعترف بطقس مائل للبرودة أو شديد الحرارة ، ولا تؤمن بمنطق المناخ المستدام. 

##

مقالات اخرى للكاتب

قَهْوَة بَلَدِي .. التَّعْلِيْمُ حِينَمَا يَبْكِي حَالَهُ !