العودة إلى التراث واستنطاقه وتحميله ما يريد من معانى كان هروبا من المحاسبة من قبل النظام
التناص مع صلاح الدين لتحريره القدس يحيل على شخصية ناصر الذى دخل المعارك من أجل فلسطين
"زرقاء اليمامة" وصفت بالحكمة ودقة النظر وقد رأت من بعيد الجنود يقبلون لمحاربة القبيلة وحذرتهم لكن أحدا لم يصدقها
يريد أمل دنقل أن يتحدث عن الهزيمة والخيبات التى صاحبتها فيجعل جنديه يذهب إلى المرأة الأسطورة العرافة المقدسة
يتحول الجندى المعاصر الذى يخاطب العرّافة المقدسة صاحبة النبوءة إلى جندى تراثى هو شخصية عنترة بن شداد
عنترة قناعا لشخصية الجندى المعاصر و"زرقاء اليمامة" يرمز بها إلى الوطن وعنترة مثال للمثقفين الصامتينبأوامر السلطة
إن الوعى بأهمية توظيف التناص واستلهامه، جعل أمل دنقل يراهن فى مشروعه الشعرى على أن يكون هذا التناص رافدا جماليا مهما يفيد منه فى بناء جمالى متميز، ومن يقرأ أمل دنقل يجد نفسه مجبرا على البحث عن النصوص الغائبة فى شعره، ويتأمل تلك التفاعلات النصية، وحفريات المعرفة التى نحت أمل دنقل مشروعه الشعرى، وأفاد من كل مستويات التناص، سواء التناص الدينى أو التاريخى أو الأسطورى، وسوف نستجلى مستويات هذا التناص، ونستقصى تلك التفاعلات النصية، ونحفر بعمق فى حفريات نصوصه.
فى قصيدته" خطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين يتناص الشاعر ليس مع التاريخ فقط، بل يتناص أيضا مع الثقافة، فى هذا النص عدة مستويات للتناص سوف تتضح بالتحليل والقراءة الثقافية، هذه القصيدة كتبت بعد نكسة 1967، وغضب فيها أمل دنقل وغيره من الشعراء غضبا كبيرا وحزنوا حزنا شديدا، وحملوا الزعيم جمال عبد الناصر لوم الهزيمة، وهذه ليست القصيدة الوحيدة التى كتبها أمل دنقل فى هذه الهزيمة، التى أثرت ليس فقط على المثقفين، بل أثرت على الشخصية المصرية ربما للآن، لام أمل دنقل ناصر، وقد لام ناصر نفسه، فقد تحمل الهزيمة منفردا وحاول التنحى لولا أن الشعب أعاده مرة أخرى بخروج الملايين إلى شوارع مصر تطالبه بالعودة وتحمل المسئولية وإكمال المسيرة، وقد فعل ناصر ذلك بشجاعة الرجال، فخاض حرب الاستنزاف بضراوة وبنى الجيش المصرى تمهيدا للحظة الانتصار العظمى فى عام 1973، ربما العودة إلى التراث واستنطاقه، وتحميله ما يريد الشاعر من معانى كان هروبا من المحاسبة من قبل النظام فى ذلك التوقيت، وربما يبرر هذا الاشتغال الفنى على شخصية صلاح الدين، الذى كان من المفترض أن يحرر القدس، فى إشارة تاريخية للعدو التاريخى لمصر الذى يحتل القدس حتى الآن وهو العدو الصهوينى:
هَا أَنْتَ تَسْتَرْخِى أخِيرًا..
فَوَدَاعَا..
يَا صَلاَحَ الدِينْ،
يَا أَيُّهَا الطَبْلُ البِدَائِى الذِّى تَرَاقَصَ المَوتَى
عَلَى إيقَاعِهِ المَجْنُونْ،
يَا قَارِبَ الفِلِينْ
للعَرَب الغَرقَى الذِينَ شَتَّتَهُمْ سُفُنُ القَرَاصِنَة
وأَدْرَكَتْهُم لَعْنَةُ الفَرَاعِنَة
وَسَنَةً .. بَعْدَ سَنَة..
صَارَتْ لَهُمْ ' حِطِينْ' ..
تَمِيمَةَ الطِفْلِ، وَإكْسِير الغَد العِنّين([1])ْ
التناص مع شخصية صلاح الدين، الذى نسب له تحرير القدس يحيل على شخصية ناصر الذى دخل المعارك من أجل فلسطين والقدس، لكن دنقل الذى يألم لهزيمة 1967 يرى طبل أن هذه الزعامة إنما هى طبل بدائى دق لإشعال الحرب دون نصر، يراه قارب فلين يطفو فوق الماء دون أن يحمل الوطن، فالفلين لا يصلح أن يكون سفينة للوطن، يراه لا ينجد الغرقى العرب الذين شتتهم سفن القراصنة فى إحالته الرمزية على الصهاينة، فتصير حطين التى كانت رمزا للنصر، تصير مجرد تميمة لطفل، كما يتناص الشاعر مع نص سابق له فى حديثه عن فلينية السفينة وهنا تتدفق رؤاه الجمالية فى تناص ذاتى مع قصيدة ' مقابلة خاصة مع ابن نوح" فهاهم الحكماء الجبناء يفرون نحو السفينة.. سفينة فلينية، هشة، تدفعها الرياح أنى شاءت!! وها هم العرب الغرقى، الذين يمثلون الضعف، والترهل: ( المغنون ـ سائس خيل الأمير ـ المرابون ـ قاضى القضاة ـ راقصة المعبد ـ جباة الضرائب ـ مستوردو شحنات السلاح ـ عشيق الأميرة".
فى ذات القصيدة يقوم الشاعر بالتناص الأدبى أو الثقافى مع قصيدة " مجنون ليلى " لأمير الشعراء أحمد شوقى، حيث يناجى جبل التوباد، لكن جبل التوباد هنا لا يرتحل من نص أحمد شوقى إلى نص أمل دنقل بمحموله الثقافى، فلس هو مرتع الصبا الذى يناجيه الشاعر ويذكره بمحبوبته ليلى، إنما هنا الجبل ممر لخيول الترك، ولخيول الشرك، بل خيول التتر، بما يحمله التتر من صورة ذهنية على الهمجية والعنف والشر، وفى هذا إحالة على العدو الصهيونى الذى يحتل القدس، واحتل سيناء بعد هزيمة 1967 .
( جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)
( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)
مَرَّتْ خُيُولُ التركْ
مَرَّتْ خُيُولُ الشرْكْ
مَرًّتْ خُيُولُ المَلِكِ - النِسْر،
مَرَّتْ خُيُولُ التَتْر البَاقِينْ([2])
يواصل الشاعر إحالته على الواقع بعد ارتحاله إلى التاريخ، فنحن، ثم جملة اعتراضية ـ جيل بعد جيل ـ وكأننا سوف نتوارث الهزائم والانكسارات، فى ميادين المراهقة نعانى الموت تحت الأحصنة، وأنت فى إحالة لصلاح الدين الذى هو رمز للزعيم يقف وراء المذياع ليتحدث عن حطين، ويستنهض الهمم صارخا حطين، ويرتدى العقال تارة، فى إحالة للعلاقة مع البدو الصحراويين، ربما، وربما فى إحالة لتماثل عقال أهل فلسطين، وفى تارة أخرى يرتدى ملابس الفدائيين، أو يشرب الشاى مع الجنود، لكن تظل الصورة الذهنية للزعيم / صلاح الدين أنه جالس وراء المذياع
وَنَحْنُ ـ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ - فِى مَيَادِينِ المُرَاهَنَة
نَمُوتُ تَحْتَ الأحْصِنَة!
وَأنْتَ فِى المِذْيَاعِ، فِى جَرَائِدِ التَهْويِنْ
تَسْتَوْقِفُ الفَارِين
تَخطُبُ فِيهِم صَائِحًا: ' حِطِّينْ'..
وَتَرْتَدِى العَقَالَ تَارَةً،
وَتَرْتَدِى مَلابِسَ الفِدَائِيِينْ
وَتَشْرَبُ الشَاى مَعَ الجُنُودْ
فِى المُعَسْكَرَاتِ الخَشِنَة
وَتَرْفَعُ الرَايَة،
حَتَى تَسْتَرِدَّ المُدُنَ المُرْتَهنَة
وَتُطْلِقُ النَارَ عَلَى جَوادِكَ المِسْكِينْ
حَتَى سَقَطْتَ ـ أيُهَا الزَعِيمْ
وَاغْتَالَتْكَ أيْدِى الكَهَنَةْ([3])
ثم يواصل دنقل شحن نصه بحفريات تثاقفية، فها هو يتناص مع قصيدة فى " حب مصر" لأحمد شوقى، فبعد هذه الإحالات السابقة على واقع مأزوم، وهزائم قاسية، وانتصارات كلامية خلف مذياع يتناص الشاعر مع قصيدة تتغنى بحب الوطن، ويأتى أشهر بيت فى حب الوطن لشوقى، فوطنى لا يشغلنى عنه حتى جنات الخلد، لكن الشاعر يأتى بمقلوب حالة شوقى أو بحالة مفارقة لها، فالوطن الذى لا يشغلنى عنه حتى الخلود تنازعنى نفسى إلى مجلس الأمن، وهنا إحالة صريحة لحالة الهزيمة، والتهديد بمجلس الأمن الدولى المناصر للكيان الصهوينى.
( وَطَنِى لَو شُغِلْتُ بالخُلْدِ عَنْه..)
( نَازَعَتْنِى ـ لِمَجْلِسِ الأَمْنِ- نَفْسِي!)
يواصل الشاعر الإحالة على الواقع، فصلاح الدين/ الزعيم سينام، وربما هذه القصيدة تنبؤ بموته حزنا وكمدا رغم ما حققه من انتصارات فى حرب الاستنزاف، سينام وتنبت على قبره الورود، مثل المظليين فى إحالة للبطولات ربما التى حققها المصريون، ونحن الشعراء سنظل ساهرين نحلم بجانب نافذة الحنين، لا نفعل شيئا سوى الاسترخاء، بل يتحول السلاح فى أيدينا إلى وسيلة لتقشير البرتقال، ونسأل الله القروض الحسنة، ولكن الـ (نحن) على من تعود؟ على مجموعة النخبة وفى مقدمتها الشعراء ؟ أم على الجيش فى إشارة للسكين، لكن الجيش واصل كفاحه بعد الهزيمة ست سنوات تم فيها بناء الجيش وقاموا بعمليات نوعية داخل أراضى العدو.
نَمْ يَا صَلاَحَ الدِينْ
نَمْ.. تَتَدَلَى فَوقَ قَبْرَكَ الورودُ..
كَالمِظَلَيين!
وَنَحْنُ سَاهِرُونَ فى نَافِذةِ الحَنِينْ
نُقَشّرُ التُفاحَ بِالسِكـِّينْ
وَنَسْأَلُ اللَّهَ ' القُرُوضَ الحَسَنَةْ'!
فَاتِحَة آمينْ"
وذات اللحظة التى سببت انكسارا للشخصية المصرية، يعاود الاشتغال على تلك اللحظة حيث الهزيمة المفجعة منطلقًا على لسان جندى ناجٍ من براثن الهزيمة، ليرتد ارتدادة خلفية عن التحذيرات والنبوءات التى قدمتها زرقاء اليمامة، ولم ينتبه لها أحد، إذن يتناص الشاعر مع قصة زرقاء اليمامة، وأسطورتها فى الثقافة العربية، حيث وصفت بالحكمة، كما وصفت بدقة النظر، وقد رأت من بعيد الجنود يقبلون لمحاربة القبيلة، وحذرتهم،لكن أحدا لم يصدقها:"
أيتها العرافة المقدسهْ
جئتُ إليكِ.. مثخنًا بالطعنات والدماء
أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسهْ
منكسر السيف، مغبّر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء..
عن فمكِ الياقوت، عن نبوءة العذراء
عن ساعدى المقطوع.. وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكسهْ
عن صور الأطفال فى الخوذات.. ملقاةً على
الصحراء
عن جارى الذى يهم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاص رأسه فى لحظة الملامسهْ([4])
إذن يريد أمل دنقل أن يتحدث عن الهزيمة والخيبات التى صاحبتها، فيجعل جنديه يذهب إلى المرأة الأسطورة، العرافة المقدسة، ليكشف عبر الحوار من طرف الجندى إلى العرافة عن حزنه ومشاهد الزحف، الزحف المنكسر بعد الهزيمة. يتحول الجندى المعاصر الذى يخاطب العرّافة المقدسة صاحبة النبوءة إلى جندى تراثى هو شخصية عنترة بن شداد هذا الشاعر العربى البطل الذى مارس البطولة على المستويات جميعها: الفردى والقبلى والقومى، فيبرزه الشاعر فى صورة جندى مأزوم يعانى الظلم والقهر والحرمان وعدم اعتراف الأهل بحريته، رغم إيمانهم ببطولته وشجاعته:"
تكلمى أيتها النبية المقدسهْ
لا تسكتى..فقد سكتُّ سنة، فسنة..
لكى أنال فضلة الأمان
قيل لى ..اخرس!فخرستُ وعميتُ وائتممتُ بالخصيانْ
ظللتُ فى عبيد «عبس» أحرس القطعان
أجتزّ صوفها.
أردّ نوقها..
أنام فى حظائر النسيان
طعاميَ: الكسرة.. والماء.. وبعض التمرات اليابسهْ
وها أنا فى ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دُعِيتُ للميدان!
أنا الذى ما ذقت لحم الضان
أنا الذى لا حول لى أو شان
أنا الذى أقصيت عن مجالس الفتيان
أُدعى إلى الموت ولم أُدْعَ إلى المجالسةْ([5])
تتماهى صورة شخصية الجندى العصرى وشخصية عنترة التراثية، من حيث إن كُلًا منهما شخصية مأزومة تزيدها المشاهد المحيطة أزمة وحزنًا، الهزيمة المادية والمعنوية التى مُنى بها الأول فى يونيو 1967م وجراحه ودماؤه، وصور إخوانه القتلى، وصور أبنائهم التى يحملونها، وإنكار الأهل حرية الثانى وحقه الطبيعى فى ممارسة الحياة، محروم من مجالسة الفتيان محكوم عليه بالنوم فى حظائر النسيان؛ لأنه عبدٌ لا يحسن الكرّ والفرّ وإنما يُحسن الحلب والصَّرّ، بيد أن كليهما فى قرارة النفس بطل، لم تحسن القبيلة توظيف بطولة الثانى واحترامها، مثلما لم تقدر القيادة بطولة أبنائها بانغماسها فى كل ما هو بعيد عن مصلحة الوطن.