17 - 07 - 2024

شمسُ الحصَّادين أطفأها التطرف

شمسُ الحصَّادين أطفأها التطرف

شمسُ "الحصَّادين" لم تحجبها فقط حقول الألغام المحيطة بديارهم ومراعيهم، وانما حجبتها أساساً روحُ التطرف المستند إلى جهل فاضح بالدين، فضلاً عن التشبث بتقاليد بالية، والتنافس المحموم على السُلطة. فكبيرهم؛ عبد الكافي؛ قاد القرية إلى قتل امرأة بلا ظهير قَبَلي يحميها بدعوى ارتكابها الفاحشة، ليتجرع في النهاية من الكأس نفسها حين تُوجه تهمة مماثلة إلى ابنته.

ما سبق هو ملخص ما دار ببالي بمجرد أن فرغت من قراءة رواية "شمس الحصادين" للكاتب عبد الستار حتيتة. الرواية صدرت مؤخراً عن دار "جداول" في بيروت، أما صاحبها فهو من مواليد مرسى مطروح عام 1966، ويعمل - كما جاء في التعريف به- صحافيا متجولا بمنطقة الشرق الأوسط.

وتضع "شمسُ الحصَّادين"، قضية حقول الألغام التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية في بؤرة الاهتمام مجدداً، لكن الأهم - من وجهة نظري- أنها تدين ما تتعرض له عينة من المصريين من تهميش وإهمال، ساهما إلى حد كبير في ايجاد بيئة صالحة لتفريخ التطرف، حتى بات هو السيد الآمر الناهي المتحكم في رقاب العباد، ومن ثم غاب كل ما يمكن أن يدل على أن هؤلاء المهمشين هم رعايا دولة تعد الأقدم في التاريخ.

"الحصَّادون"، قبيلة تعيش وسط حقول ألغام زرعها الانجليز والألمان ومن كان مع كل طرف منهما في الحرب العالمية التي دارت واحدة من أشهر معاركها في صحراء العلمين. وبطل الرواية الصبي "سنوسي"، يتعامل الجميع معه على أنه "مكلوب"، يستحق القتل لأنه حرَّض - عبر ميكروفون مسجد القرية- ابنة عمه "نجية" على الهرب معه ليتزوجها، بعد أن قرر والدها، الذي ضربته الفاقة وفقد الكثير من نفوذه التليد، تزويجها من ثري لا ينتمي الى قبيلة معروفة!

أما "نجية"، فما أن بلغ "سنسوسي الثالثة عشر من عمره، حتى بات محرماً عليها أن تلعب معه، وأصبح الاقتران به زوجاً، مستحيلاً بعدما "فقد" عقله في أعقاب فقده والديه اللذين انهار بيتهما نتيجة لعاصفة يعتقد الناس أنها عقوبة الهية على استحلالهما نبش قبور قتلى الحرب واستخدام حجارتها في تشييد ذلك البيت المنكوب.

تنطلق الأحداث من اجتماع مجلس إدارة شؤون القرية التي باتت تضم بين أهلها أناساً ينتمون الى قبائل أصغر من "الحصادين"، فضلاً عن "غرباء" لا ينتمون الى أصول معروفة، للنظر في أمر "سعيدة"، الأرملة، التي قال أحدهم إنه رآها في جنينة الزيتون مع شخص مجهول. وعلى طريقة "الفلاش باك"، يردُنا عبد الستار حتيتة الى نحو ثلاثين أو أربعين عاماً سبقت ذلك الحدث، لنعرف أن القرية سبق أن شهدت مثله مرة واحدة في تاريخها، وكانت ضحيته امرأة أخرى عوقبت أيضاً بالقتل من دون أن يتيقن معاقبوها من ارتكابها ما يوجب ذلك المصير البائس. في ذلك الماضي كان من يحكم هو كبير الحصَّادين، الذين عرفوا بذلك الاسم لمهارتهم الفائقة في حصاد الشعي، لكن بعد أن راح كثير من أبناء القبيلة ضحية الألغام المزروعة حولهم واضطرار آخرين إلى الهجرة تحت وطأة الخوف من ملاقاة ذلك المصير، أو العيش في ظل جدب تزداد حدته عاماً بعد آخر، رأى عبد الكافي أن يدير شؤون الناس مجلسٌ يتولى أحدُ كبارهم رئاسته لمدة عام واحد، ثم يخلفه كبير آخر، وهكذا.                              

يضعنا عبد الستار حتيتة في أجواء غرائبية تتسق مع طبيعة المستوى المعرفي للشخصيات وطبيعة المكان ذاته، الذي تطوقه حقول الألغام ومقابر ضحايا الحرب. ومن أجمل تلك الأجواء علاقة الصداقة التي تنشأ بين سنوسي وأحد هؤلاء الضجايا؛ الجندي الألماني "بوهلر" الذي كان في السابعة عشرة من عمره عندما ساقوه إلى الحرب وحرموه من الاقتران بحبيبته، لاقترافه في حق الكنيسة إثماً، عقوبته سجن روحه في قبره إلى الأبد. ذلك الإثم تمثل في تسلله الى الكنيسة ليكتب على أحد جدرانها أنه يحب "كيثي" التي يرفض أبوها أن يزوجها له. إذن التطرف ليس قرين دين بعينه، فبوهلر وسنوسي طاردتهما التهمة الدينية نفسها المستندة الى تفسير متطرف، مع أن هذا مسيحي، وذاك مسلم.         

"قبل أذان الظهر، كان سنوسي مقيداً في المكان نفسه الذي ربطوا فيه سعيدة. مجرد كومة لحم ملفوفة في القماش يطن عليه الذباب. وفي هذه الأثناء كان أبناء الحصادين، رغم قلة عددهم، يعبئون اسلحتهم بالذخيرة دون انتظار لأي اوامر من عبدالكافي أو الشيخ سليمان. ومن الطرف الآخر كان الشيخ مفتاح قد استحوذ على ميكروفون المسجد مستقوياً بقرارات حتوش واحتشاد قبيلته وباقي بيوت القبائل الصغيرة. وما بين الصحو والغياب يستمع سنوسي عبر مكبر الصوت لوعيد شيخ قبيلة مديقش الغر وهو يتحدث عن العذاب الذي ينتظر ابن الحصادين في الآخرة". صـ 255

وأخيراً، أجدني مرة أخرى في حاجة إلى التوقف أمام رمزية زمن الحكي، عقد السبعينات، الذي شهد بداية تنامي خطر التطرف الديني، في مصر بتواطؤ سلطوي، يدعي الاستنارة، ومن ثم المضي بثبات - في ظل شورى شكلية تحكمها اعتبارات عشائرية- نحو انطفاء شمس الجدارة والصدارة، وأفول مكاسب ضحى من أجلها الأسلاف، في ظل "تقدم" صوري تجلى في إنارة القرية بالكهرباء وبناء بيوتها بالحجارة، بدلاً من صوف الأغنام!

هي رواية بديعة، بجماليات سردها، انتهى حتيتة من كتابتها، كما هو موضح في نهاية الكتاب، في خريف 2012، أي في ذروة حكم "الإخوان المسلمين"، تلك الذروة التي ما كان لتلك الجماعة الإقصائية أن تبلغها، لو لم يتواطأ معها أهلُ الحُكم.      

  ##

##

مقالات اخرى للكاتب