17 - 07 - 2024

أمير الرفض وقديس الألم

أمير الرفض وقديس الألم

هل نريد قليلاً من الصبر ؟

-لا..

فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه

يشتهي أن يلاقي اثنتين:

الحقيقة و الأوجه الغائبة.

هذا شاعر تعرى من دمه ولحمه وعظمه، وبقى عصباً عارياً، يقدسه الألم قدر تقديسه هو للحرية، وتألفه المعاناة قدر ألفته هو للأرصفة، ينذره الشعر لذاته، وينذر هو ذاته للتمرد والرفض ومقاومة شتى ألوان القبح والزيف والاسترقاق.

 لم تزد عدد سنوات عمره عن الأربعين إلا قليلا، ولم تزد قصائده عن ذلك إلا بأقل من القليل، لكن هذه السنوات وتلك القصائد كانت كافية لتتقدم به إلى مقدمة الموجة الثانية من موجات الشعر الحر، ولتتوجه أميراً لقصيدة الرفض فى العصر الحديث بأسره.

كانت كل قصيدة من قصائد هذا الشاعر المتفرد "أمل دنقل" تمثل حدثاً أدبياً بالغ الخصوصية، فمن "كلمات سبارتكوس الأخيرة" إلى الكعكة الحجرية" ومن "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" إلى "لا تصالح" ومن "ضد من" إلى "الجنوبى" ومن "الطيور" إلى الخيول".

"زرقاء اليمامة" تتحول إلى أيقونة لرفض الهزيمة وجلد صانعيها، و"الكعكة الحجرية" تتحول إلى منشور ثورى لمظاهرات الطلاب السبعينيين وثورتهم النبيلة، و"لا تصالح" تتحول إلى صفعة لكل معانى الاستسلام أو الخنوع أو التراخى تحت غيمة من مبررات الحكمة الهزيلة المضللة، بينما تبقى "كلمات سبارتكوس الأخيرة" تمجيداً لكل معانى الحرية، ورفضاً للألوهية الزائفة التى يدعيها البشر، بما يسمح لهم بأن يصفوا كل خارج عليهم بأنه شيطان، فيما تظل "الخيول" مرثية خالدة لقيم الفروسية والفرسان، أما "ضد من" و"الجنوبى" فتكشفان عن هذه الروح الجنوبية المتفردة المتشوفة للأنبل التى تعى أن الموت لا يمكن أن ينال من الروح حين تمتلك تحررها النبيل.

إنك تستطيع ببساطة وصدق أن تقرأ لكل حدث فى العقود الأربعة التى عاشها أمل دنقل من عمر مصر قصيدة وموقفاً بالغ السطوع بالغ التميز، كل هذا يحدث فى فنية مدهشة، واقتصاد إبداعى مذهل، وقدرة لا محدودة على أن يوجعنا نحن ذلك الوجع الموقظ، ويؤلمنا نحن ذلك الألم المستنهض، ويحيى فى أنفسنا نحن اعتدادنا بقيمة الحياة النبيلة والحرية المقدسة.

لكم كان صادماً وهو يفتتح كلمات سبارتكوس الأخيرة:

المجد للشيطان .. معبود الرياح

من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم"

من علّم الإنسان تمزيق العدم

من قال " لا " .. فلم يمت,

وظلّ روحا أبديّة الألم!

خاصة لأولئك الذين لم يفطنوا إلى أن هتافه كان ضد أولئك الذين نصبوا أنفسهم آلهة من دون الله قائلاً لهم : إذا كنتم قد أفردتم أنفسكم بالألوهية ووصمتم كل رافض لألوهيتكم الزائفة بالشيطنة، فإنى أمجد أولئك الشياطين الرافضين لألوهيتكم المقيتة.

ولكم كان موجعاً لنا جميعاً وهو يصوغ هذه الكلمات على لسان سبارتكوس العبد الثائر الذى رأى القياصرة يتعاقبون على جث الثائرين:

لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد!

وخلف كلّ ثائر يموت : أحزان بلا جدوى..

و دمعة سدى!

##

##

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة