16 - 08 - 2024

"الجسد والسياسة" وتوثيق الثورة

تهدي مريم وحيد؛ المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كتابها "الجسد والسياسة"؛ الصادر حديثا عن دار "العين"، إلى "شهداء ومصابي ثورات الحرية المصرية".

وكم كنتُ أود أن يشمل الإهداء المعتقلين والمحكومين على خلفية قانون التظاهر، وغيره من قوانين جائرة، أو اجراءات استثنائية، على اعتبار أنهم أيضاً من ضحايا قمع الجسد سياسياً.

أصل الكتاب أطروحة ماجستير نوقشت في يوليو 2013 تحت عنوان "مفهوم الجسد في النظرية السياسية: دراسة حالة لرؤى الذات في الثورة المصرية 25 يناير 2011"، وهي معلومة لم يشر إليها الكتاب، على أهميتها، لإعطاء كل ذي حق حقه، بما أننا أمام عمل أكاديمي، هناك من أشرف على إنجازه، وهناك من أجازه ومنح صاحبته درجة علمية، هي بالتأكيد جديرة بها.

ومن الغريب كذلك ألا يتضمن عنوان الكتاب أي إشارة إلى أنه يتناول ثورة 25 يناير ويوثق لأبرز محطاتها، بدءا من حادث كنيسة القديسين في الأول من يناير 2011 وحتى انتخاب محمد مرسي رئيساً للبلاد في 24 يونيو 2012. ومع ذلك تستحق دار "العين" التحية لأنها نشرت هذا الكتاب وساهمت مجدداً في توثيق ثورة 25 يناير الذي تقاعست الجهات الرسمية المعنية عنه في ظل عمل ممنهج لإجهاض الثورة والالتفاف على مطالبها، بل واعتبارها مؤامرة والزج بمن بقي حياً من رموزها في السجون.     

يلقي الكتاب- بحسب ما ورد على ظهر غلافه-  الضوء على مفهوم ظنه البعض حكراً على علوم الأحياء والأنثروبولوجيا والنفس والاجتماع، وهو "الجسد"، فهو يشير إلى الجسد كوحدة للتحليل السياسي، فيتطرق الى تحليل الجسد وارتباطه بالسياسة من عدة زوايا. هنا يطرح الكتاب مستويات عدة لتعريف الجسد، منها الجسد الفردي والسياسي والاجتماعي، ويعرض لقضايا مثل التعذيب والسجن والموت، الجسد الافتراضي، صورة المرأة ورمزية جسد الشهيد. فهو يتناول كيفية توظيف الجسد كمفهوم في تحليل الثورة من خلال دراسة اشكالية حضور وغياب الجسد الإنساني في العملية السياسية وتحول ادراك الذات الفردية للجسد من كونه منهكا معذبا ومقيدا قبل الثورة إلى كونه فاعلا ومحركا للواقع مع الثورة، وذلك من خلال دراسة تجمع بين علم السياسة، وبين الفنون والأديان وعلوم الإحياء والاجتماع والفلسفة والاقتصاد والانثروبولوجيا.

ولا يحاول الكتاب - بحسب ما أوردته دار النشر على ظهر غلافه- تقديم حقيقة مطلقة عن الجسد وعلاقته بالسياسة، ولكنه محاولة للغوص في أعماق الدور السياسي للجسد وقيمته السياسية، خاصة بالتطبيق على حالة ثورة 25 يناير، فكثير من الظواهر السياسية يمكن التعبير عنها من خلال الجسد، وكثير من الأفعال السياسية تتجسد.   

ومن وجهة نظري، فإن الفصل الثالث والأخير من الكتاب هو أهم فصوله؛ لاتصاله "الميداني" بحدث الثورة، وقد جاء تحت عنوان "خصوصية الجسد في الثورة المصرية"، واشتمل على جزئين الأول بعنوان "تشكل الجسد الواحد"، واحتوى مواضيع "الشعب يريد، رمزية جسد الشهيد، المرأة.. معنى ورمز ثوريان".

أما الجزء الثاني، فجاء بعنوان "تفكك الجسد الثوري: من الشعب يريد إلى نحن نريد"، واحتوى مواضيع "الاحتجاجات المطلبية، مطالب الأقباط، مطالب المرأة". وما تلى هذا الفصل تمثل في الخاتمة والمراجع، ثم "المحطات الأساسية في الثورة، وملف الصور، والأخير تضمن 40 صورة التقطت المؤلفة معظمها من ميدان الثورة رأسا.

ولا يعيب هذه الصور سوى ظهورها بالأبيض والأسود في طباعة رديئة انتقصت كثيرا من أهميتها التوثيقية، خصوصا أن كثيرا منها كان لجداريات غرافيتي تم محوها لاحقا. 

أما الخاتمة، فتلقي الضوء على ادراك المتظاهرين لقدرة أجسادهم والتضامن المجتمعي بين الثوار في جسد واحد. وتذهب إلى أن إفناء الذات (الانتحار) أمر لا تقره الأديان السماوية، "لكننا نستطيع تفسير ما قام به البوعزيزي، وغيره، في ضوء ما كانوا يرونه من جشع الحكام وافراطهم في التمتع بملذات الحياة.

تناولت الدراسة انتقال الجسد من كونه مقهوراً قبل الثورة إلى كونه مقاوما في الثورة، مشيرة إلى أن المواطن المصري قرر استغلال جسده بأقصى طاقة ممكنة لمواجهة آلة السلطة الجهنمية، فيما جاءت الثورة كمحاولة لانهاء احتكار السلطة للجسد وكسبيل لتحرر الجسد لينزل الى ساحات وميادين جديدة لم تكن متاحة له من قبل.

وأثبت الجسد عدم تأثره ورهبته من المولوتوف والرصاص الحي والخرطوش، وأظهر رغبة مستميتة في المقاومة في سبيل استرداد عافيته، وكان لسان حال الثوار يقول في مواجهة السلطة: إننا نفكر بعقولنا ونحلم بأفئدتنا ونتحرك بأجسادنا.. قد نخفي الفكرة بين الضلوع بعيداً عن أعين المتلصصين والمستبدين، لكن أجسادنا لابد ان تقرر يوما في أية مساحة ستتحرك من أجل أن تتحدى وتقرر العصيان.

وكان حضور الجسد كأداة للاحتجاج والمقاومة من أدل المشاهد في الثورة المصرية، وهو ما تمثل في الدروع البشرية التي حمت المتحف المصري على سبيل المثال وغيره من المنشآت الحيوية. فكان مشهد سحل الفتاة وتعريتها في أحداث مجلس الوزراء مقدمة لنزول الحشود الى المجال العام ومشاهد دهس المتظاهرين بسيارات الأمن المركزي، وكانت تلك الممارسات تتم في اطار ما تقوم به آلة السلطة التي لا تعير جسد المواطن أدنى اهتمام، بحسب ما تؤكده مريم وحيد في خاتمة الكتاب.     

وأخيراً، فإن هذا الكتاب يظل عملاً مهماً في إطار جهود توثيق ثورة 25 يناير، تلك الثورة التي تفاعلت الكاتبة معها على الأرض في ذروة اشتعالها، ما يؤهلها لتقديم المزيد عنها، ومن ذلك كما علمتُ منها، قاموسٌ بمفردات خاصة بتلك الثورة وسلسلة مقابلات مع كثيرين ممن شاركوا فيها، فضلا عن أن أطروحتها للدكتوراة ستكون وثيقة الصلة أيضا بهذا الحدث التاريخي الفاصل.  

##

##

مقالات اخرى للكاتب