17 - 07 - 2024

رسالة إلي الرئيس

رسالة إلي الرئيس

سيادة الرئيس .... لم أفتح فمي ، ولن أفتحه أبداً . حتي لو وقفت علي حبل المشنقة .. إنني مؤمن بأنه إذا عرف الرأي العام العالمي جرائم التعذيب ... فسوف تسيئ إلي صورة بلادي ، وتخدم أعداءها ، هذه الصورة التي بذلت شبابي ودمي وأعصابي وحياتي من أجل أن تبدو أمام العالم في صورة الأمة المتحضرة المجيدة .. فلا أريد أن يكون السيف الذي كان في يد بلادي خنجراً يغمد في ظهرها . أن هذا الجهاز ( المخابرات ) في وضعه الحالي ، لا يخدم هذا البلد ، ولا يخدم هذا الحكم ، وإنما هو عصابة تضللكم وتكذب عليكم ، وتخدعكم ، وتزيف الحقائق وتلفق الأكاذيب وتخلق من الوهم قضايا . أن عمل الجهاز الأساسي هو حماية أصحاب السلطان ، والبطش بكل شخص يتوهمون أو يخشون أن يكشف لكم حقيقتهم ، ويظهر أمامكم جرائمهم . ... أعرف عن يقين ، أنكم تجهلون هذه الجرائم ولا تتصورون كيف أن أفراد هذه العصابة قد غرقوا في الشهوات والفساد وإستباحة الحرمات والإستهانة بكل مبادئ الشرف والإستهتار بقواعد القانون .

وإنني أعرف أن فضحي هذه الحقيقة قد يكلفني حياتي ، ولكنني أفضل أن يموت برئ واحد ، علي أن يتعرض ألوف الأبرياء لما تعرضت له من تعذيب وتلفيق . بل أنني أعتقد أن هذه العصابة سوف تعرض هذا البلد إلي كارثة كبري ، فأن الجهاز لا يجيئ للدولة بأسرار العدو ، وإنما هو يلفق الأكاذيب للمواطنين . وهو لا يحمي البلد ، وإنما يحمي بعض أصحاب النفوذ والسلطان . فهذه عصابة توضع علي عين هذا الشعب حتي لا يري الجرائم التي يرتكبها هؤلاء المجرمون .. وقد يستطيع كل فرد في هذه العصابة ببطشه وسلطانه أن يسكت كل فم يتحدث عن جرائمه ، ويقطع كل يد تشير إلي إستهتاره وتهتكه . ولكنه لن يستطيع إلي الأبد أن يمنع الحقيقة أن تطل برأسها ، و أن تصل إليك وأن تفضح هذه العصابة . ولكني أخشي أن تصل الحقيقة كلها بعد فوات الأوان .

لم يكن إهتمام المحققين معي بالقضية أو بموضوع التحقيق ، كل ما كان يهمهم المسائل النسائية . سؤال عن نساء معينات . سؤال عن سيدة معينة ، وهل كان بيني وبينها علاقة ، وهل قالت لي أن بينها وبين شخصية كبيرة في الدولة علاقة ، وهل أخبرت الرئيس بما سمعته عن هذه العلاقة أو علاقات غرامية أخري للشخصية الكبيرة .. ساعات طويلة .. أحاديث عن الجنس ، وعن أنواع النساء ، وعن مسائل لا يجوز أن يتحدث فيها رجل محترم .

أعرف أن أعضاء هذه العصابة أقوياء . لكني أعرف أن الله أكبر منهم جميعاً .. لقد رأيت مرة أحدهم وهو يهددني بالموت وفوقه لوحة معلق فيها كلمة " الله " .. فقلت له : لقد رأيت من قبل صورة المسيح مصلوباً .. ولكن هذه أول مرة أري الله مصلوباً .. يجب أن تعلم يا سيادة الرئيس أن هذا الجهاز هو جهاز فاسد .. وأنه مليئ بالجرائم ، وأنه يلفق التهم ، وأنه يعمل لتضليلك ولخداعك وللكذب عليك ، وأنه يخفي عليك الحقائق ، وأن مهمته أن يلوث كل من يتصور أنه سيقول لك في يوم من الأيام حقيقة الفساد .

ما تقدم هو جزء مما كتبه الصحفي مصطفي أمين في كتابه " سنة أولي سجن " ، بعد سنوات أمضاها سجيناً ، وسواء اتفقت أو اختلفت مع الكاتب ، فأن بعض ما ورد في صفحات هذا الكتاب قد تواتر في روايات أخري وخاصة فيما يتعلق بفساد مراكز القوي . وليس من الملائم التشكيك في نوايا الرئيس ، ودعنا نصدق أنه يرغب بالفعل في ترسيخ إصلاح إقتصادي ، رغم كل المؤشرات التي تشير إلي إخفاقات هائلة في النتائج الظاهرة حتي الآن ، والأسئلة العديدة التي يطرحها أسلوب إدارة الإقتصاد نفسه .. لندع كل ذلك جانباً الآن ، ونكتفي منه بأن هناك توجه ( صح أم خطأ ) لإصلاح إقتصادي ما ، ولكن هل يمكن لأي مجتمع أن يتقدم علي قدم واحدة فقط ؟ .. أن إصلاح إقتصادي دون إصلاح سياسي يعني حرث في البحر ، فلم يكن ممكناً مثلاً للثورة الفرنسية أن تحقق النمو الإقتصادي دون جرأتها في إحداث إصلاح سياسي عميق ، وكان فرسي الرهان هما الدستور والبرلمان ، اللذين بقيا صنوين متلازمين في الفكر الليبرالي ، حيث يكمن فيهما الترياق الذي يحمي المجتمع من وباء حكم الفرد ، فلقد سقط ما كان يطلق عليه " الحق الإلهي للملوك " Divine Right Of Kings ، فسقط الملوك والعروش من مواقع الهيبة والإكبار في نفوس الناس ، وسادت العقلانية والرؤية النقدية . وقد أطلت هذه الأفكار مبكراً علي مصر مع غزو نابليون بونابرت، واستقبلتها النخب بحذر ، ولكن ذلك يعني أن مصر بدأت في التعرف علي معالم الدولة الحديثة بشكل مبكر منذ فجر القرن التاسع عشر ، وتكرس ذلك فيما بعد في العقل المصري وخاصة من خلال كبار حركة الإستنارة المصرية مثل رفاعة رافع الطهطاوي الذي بث هذه الروح الثورية في مصر والمنطقة العربية . يجب للرئيس أن يعرف أن مصر كانت حبلي بهذه الأفكار الإصلاحية التي وصلت أوجها مع بدايات القرن العشرين ، وكان من أهم عناصرها الديمقراطية وإزدراء حكم الفرد .

سيدي الرئيس .. أن من أسباب تدهور السياسة في الدولة الإسلامية هو تحولها من سياسة نيابية ديمقراطية أثناء حكم الخلفاء الراشدين ، إلي ملكية تحكم بفردية مطلقة ، وإذا استعدنا ما ما قاله مثلاً الخليفة عمر بن الخطاب حين قال : " من رأي منكم فيَ إعوجاجاً فليقومه " ، فأن تفسير ذلك سياسياً هو أنه فتح الباب للنقد والإصلاح بل والتغيير إذا لزم الأمر ، والمدهش أن أحد الصحابة وجد الشجاعة كي يرد عليه قائلاً : " والله لو وجدنا فيك إعوجاجاً لقومناه بسيوفنا " .. وقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي : " زمان الفرد يا فرعون ولي .. ودالت دولة المتجبرينا " .. أيها الرئيس ... أنت بلا شك لا ترقي إلي درجة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، كما أن ثورة 25 يناير قد أزالت زمان الفرد ... لقد حل زمن الرحيل .. فارحل في أمان .. --------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!