30 - 06 - 2024

زمن محجوب عبد الدايم

زمن محجوب عبد الدايم

أرجو أن يسامحني كاتبنا العظيم نجيب محفوظ ..

ففي زمن " البرطعة " ، نجد ذلك النموذج المتكرر من شخصية " محجوب عبد الدايم " التي رسمها بإحكام في رائعته " القاهرة 30 " .. علي سبيل المثال نائب ومذيع وصحفي ، ورخصة مفتوحة ومجانية لإستباحة الأعراض والتاريخ والجغرافيا .. مع ممارسة سياسة اللاسياسة ولا أخلاق ولا قانون ..

تلك الشخصية التي اخترعها نجيب محفوظ ليست فقط شخصاً بعينه وإنما أسلوب حياة ونمط للتسلق الإجتماعي والعهر السياسي ..

سوف نجد مثالاً آخر لرجل بلغ من العمر أرذله ، دون أن يفكر في توبة نصوح ، وهو ليس بالضبط صحفياً ، بل مجرد رجل يوظف قلمه لخدمة السلطة ، أي سلطة ، يلتصق بها مثل حشرة " الأرضه " ، يمتص ما يلقي إليه من فضلات الحكم ، ولا يخجل من الترويج للشيئ ونقيضه خلال فترات زمنية متقاربة .. وهو ليس صحفياً لأن أحداً لم يعرف عنه قدرات غير عادية أو حتي عادية في مهنة الصحافة ، رغم أنه يتشدق طول الوقت بشرف المهنة وأخلاقيات المهنة التي لا يبدو أن له منها أي نصيب ..

في هذا الزمن ، لا تتعجب إذا وجدت أحدهم يقترح فرض غرامة علي الأسماء الأجنبية ، وليس لك أن تتساءل ما هو الإسم الذي يمكن إعتباره أجنبياً ؟ .. أو ما هو الإسم الذي يعتبر وطنياً ؟ .. هل نعود مثلاً لأسماء أجدادنا الفراعنة ، أم نختار الحقبة البطلمية أو الرومانية أو المسيحية أو الإسلامية ؟ .. لا أشكك في نوايا صاحب الإقتراح ، فهو يريد البحث عن وسيلة لجباية مزيد من الأموال لسداد ديون مصر التي أصبحت بلا سقف أو قاع .. ولكن هناك أفكار أخري أجدر بالبحث ، وربما أسهل لجباية المزيد من الأموال من الناس ، فيمكن مثلاً فرض رسوم علي من يكون أطول من 160 سم ، بحيث يدفع سنوياً 10 جنيهات عن كل سم إضافي ، أما إذا كان سائحاً أجنبياً فيكون الرسم 10 دولار عن كل سم إضافي ، ويمكن أيضاً فرض غرامة علي كل من يضحك في الطريق العام بغير سبب ، وعلي كل حال الضحك من غير سبب قلة أدب ، كذلك يمكن فرض ضريبة علي العزاء في عمر مكرم ، مع تحصيل 5 جنيهات من كل معز يدخل إلي سرادق العزاء .. ويمكن فرض غرامة علي كل طفل لا يشرب اللبن في الصباح .. إلخ ..

الأفكار كثيرة ومفيدة ، والحقيقة أنه ربما يكون الحل الأفضل هو أن يتبرع البرلمان بحل نفسه كي يوفر ما يزيد علي مليار جنيه قيمة نفقات تشغيله ، ومليارات أخري ينفقها الشعب بسببه في شراء أدوية الضغط والسكر التي أصابوا المواطنين بها ...

زمن " محجوب عبد الدايم " بلا شك ..

أصبح فيه رئيس المباحث هو رئيس التحرير لأغلب وسائل الإعلام ، بينما تكفل الإغلاق والمطاردة بما تبقي من وسائل لا زالت تسعي إلي قدر من المهنية والموضوعية ، ولا يشعر فيه بعض المذيعين بأي غضاضة من إغتيال بعض الشخصيات وإمتهان كرامتها وخصوصيتها في حماية السلطة التي تمنحه الضوء الأخضر كي يكون صفيقاً وغير مهذب ، ولم يعد غريباً أن ينفرد مذيع بالمشاهدين لعدة ساعات وحده وهو يصرخ كمن مسه الجن ويهدد ويطالب بعض المصريين بقتل بعضهم الآخر ، وهو آمن من أي ملاحقة لأنه تحت حماية السلطة ، وتشعر في أحيان كثيرة أن أغلب المذيعين في فضائيات المساء وكأنهم يقرأون من نفس النوتة ، ويقذفون نفس القاذورات بلا أي حياء ..

لدينا محجوب عبد الدايم الذي انفرد بخبر قيام قواتنا باعتقال قائد الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط ، وبدلاً من أن يتوب ويعتزل المهنة بعد أن أصبح محل سخرية محلية ودولية ، لا يزال بلا خجل يخرج كل مساء كي يطل علي الناس بانفراداته العجيبة .. ومحجوب آخر قدم سبقاً لقيام قاذفات التحالف الدولي بقصف رهيب ودقيق لأرتال من الإرهابيين علي الحدود التركية / السورية ، وظل لساعات يشرح ويصرخ مطالباً الناس أن تدقق في دقة الضربات وقوتها وهو يعيد اللقطات بلا توقف ، ولم يشعر بأي خجل أو حتي حاول أن يعتذر عندما تبين أنه ما قام بعرضه لم يكن سوي إحدي ألعاب الكومبيوتر ..

وبالإضافة إلي هؤلاء " المحاجيب " ( جمع محجوب ) ، لدينا محجوب عبد الدايم الإستراتيجي ، الذي تعددت صوره وأشخاصه ، يخرجون إلي الناس من كل فج عميق ، وهم يتحدثون بثقة العلماء عن ذلك الجهاز العجيب الذي قيل أنه يعالج كل الأمراض ، وظل هؤلاء المحاجيب الإستراتيجيون يحللون ويشرحون مراحل صنع الجهاز والعبقرية في إخفائه عن أهل الشر ... ثم لم يسمع من أحد منهم أي إعتذار عندما تبين أن الموضوع كله " فنكوش " ضمن فناكيش عديدة أمطرنا بها ذلك النوع من محجوب الإستراتيجي ، والواقع أن ذلك النوع الفريد لم يتوقف طوال الوقت عن شرح حروب الجيل الرابع وكل الأجيال بحماس ومعرفة عميقة ، رغم أن أغلبهم لم يدخل حرباً في حياته إلا مع حماته !! ، وهكذا انتشر المرض واستشري ، ودخل في الحلبة بعض رجال الأمن السابقين ، وصارت وجوههم مألوفة من كثرة تحركهم بين الفضائيات ، ففي أمسية واحدة يمكن أن تري نفس المحجوب الأمني في أكثر من فضائية ، وبنفس البذلة والتكشيرة الأمنية ، ولا مانع أن يتحدث في أي شيئ طالما يساهم في رفع الروح المحجوبية في الوطن ..

وهناك رجل أمن قصير ربعة علي وجه الخصوص ، يتميز بسلاطة اللسان والخوض بسهولة في أعراض خصوم النظام ، وما أن يبدأ في الحديث حتي يصعب إيقافه ، فهو يشخط وينطر في المواطنين المشاهدين وكأنهم مشتبه بهم في أحد الأقسام التي كان يعمل فيها ضابطاً .. وبطبيعة الحال لا مجال لمن يعتدي عليهم لفظاً وفعلاً من هذا الرجل الصفيق كي يردوا عليه ، فهو يهاجم أي شخص بأسوأ الألفاظ وأحط الإتهامات ، بينما الشخص الضحية كمن هو مكبل اليدين والقدمين وقد كتموا أنفاسه لا يستطيع الدفاع عن نفسه .. وذلك هو " العدل " و" الشرف " كما يفهمه ذلك المحجوب الأمني غير المحترم ...

لقد كانت عبقرية نجيب محفوظ أنه قدم لنا " حالة " في صورة شخصية نمطية مريضة مكررة في تاريخنا السياسي والإجتماعي ، سمحت لها ظروف مرض المجتمع واستبداد السلطة أن تتمدد وتحتل مساحة واسعة وتخترق آذان الناس وعقولهم بسموم قاتلة ، ولا شك أن المجتمع الجديد الذي يصبو إليه كل مصري مخلص لا بد أن ينظف مجتمعنا وثقافتنا وتاريخنا من تلك الحشائش الضارة ، وأن يمسح وللأبد تلك الصور المشوهة من إعلاميين بلا خلاق أو مبادئ ، كي نتخلص وللأبد من حالة " محجوب عبد الدايم " وكل ديدانه التي انتشرت في نسيج الإعلام المصري ..
-------------------
بقلم السفير / معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان