17 - 07 - 2024

معارضة بمواصفات صينية!

معارضة بمواصفات صينية!


 

عندما كنت في زيارة للصين بدعوة من الحزب الشيوعي الصيني، اجتهد المسؤولون الصينيون في شرح ما أطلقوا عليه: " إشتراكية بمواصفات صينية "، والتي داعبتهم وقتها بالقول بأنها "رأسمالية بمواصفات صينية" .. ولم تكن نكتة سائغة، لأنهم يؤمنون بكل صرامة بأنهم يقدمون وجهاً من وجوه الإشتراكية تتناسب مع معطيات العصر ..

وحيث أنه سبق لي أن تناولت ذلك في مقالاتي بالأهرام (قبل أن يتم حظر قلمي من الكتابة فيها، بل وحظر إسمي من الورود علي أي سطر فيها)، فأنني تذكرت تلك الزيارة حين أردت أن أبحث عن أوصاف تليق بالمعارضة المصرية في المرحلة الراهنة ..

وربما لا يزال من المبكر الحديث عن هذه الفترة الساخنة، بل وربما يسخر البعض من مجرد التعرض لموضوع معارضة في بلد شفط فيه الهواء من سماء السياسة، حتي اختنقت أو كادت، ولكنني لا زلت أؤمن بقوة الكلمة في خلق قوة الفعل، ولذلك أواصل كتاباتي رغم أنها لا تنشر، وإذا نشرت فأنها تنشر في مواقع إليكترونية، ثم أن تلك المواقع محجوبة .. أي أنني باختصار أكتب لنفسي !! ..

بعض السياسيين المصريين لديهم جينات "صينية"، حيث يفضلون القعود علي حافة النهر في انتظار أن تحمل أمواجه جثث أعدائهم .. وربما تطول قعدتهم حتي يقتلهم الإنتظار!! ، ومن الظلم أن نلقي بكل اللوم علي المعارضة المصرية، ففي ظل إنحسار الفضاء السياسي، والأساليب القمعية التي أصبحت السياسة الرسمية لنظام السيسي، لم يعد لدي تلك المعارضة سوي التحليق في فضاء العالم الإفتراضي، وممارسة " السياسة السايبرية " Cyber Politics، وأصبح لكل سياسي صفحة إليكترونية يمارس فيها معارضته، ويبدو أن السلطة لم تجد خطورة في ذلك حتي الآن، رغم تلك الأصوات التي تتصاعد من بعض المواطنين "الشرفاء" ممن يدعون إمتهان السياسة أو الإعلام، حيث تطالب تلك الأصوات "الشريفة" بإغلاق آخر منفذ للضوء في وجه المصريين، ومحاكمة كل من يكتب رأيا حرا في تلك الصفحات !! ..

والواقع أنه لا مانع من تحول تلك الممارسة الإفتراضية إلي شكل من أشكال "الهايد بارك"، يكون لكل صاحب رأي فيها زاوية يبث فيها ما يشاء وقتما شاء، ويتخلص فيها من عبء ضميره الذي يؤرقه لصمته علي الجرائم التي ترتكب في المجتمع، ممارسة تشبه نوعاً من العلاج النفسي للسياسيين المصريين الذين ضاقت بهم السبل والسجون .. إلا أنني أخشي أن البعض قد يمل سريعاً من " المكلمة " الإفتراضية لكونها في حالنا ترف لا نستحقه ..

جلد الذات لا يعد سياسة ناجحة، بعكس نقد الذات، وعندي يعني مصطلح "المصالحة" التصالح مع النفس قبل التصالح مع الآخر .. وذلك يقتضي ألا نتحاور ونحن خائفون، كما لا ينبغي أن نخاف من التحاور، ويظل في هذه الحالة استدعاء مظلوميات الماضي يشبه محاولة غير بريئة لتفادي أسئلة الواقع الملحة، حيث أنك تستطيع دائماً أن تكسب جدلاً بغير حق، ولكنك تخسر قضيتك ومصداقيتك .

إننا نسمع كل يوم من المسئولين ما يمكن أن نفهم منه أن "العملية" نجحت، ولكن "المريض" مات !! .. أو ماذا يمكن أن تعنيه تلك الأقوال المرسلة والإنشائية حول تحسن الأحوال؟؟ ، سوي خداع النفس والآخرين ..

لقد قيل للناس في البداية اصبروا عامين فقط، ثم قيل لهم بعد مرور العامين أن يصبروا فقط ستة أشهر، وأغرقوا الناس وعوداً وأحلاماً بداية من إختراع "الكفتة" الذي يعالج جميع الأمراض، وإنتهاء بملايين المساكن التي لم ير الشباب منها إلا ماكيتات مجسمة من الخشب والورق والكرتون .. ويستمر قطار الأوهام يقطع الفيافي في صحراء جرداء أطلقوا عليها العاصمة الإدارية الجديدة، ينقلون منها أحياناً لشاشات التلفزيون مسؤولاً مهماً مع مذيع تابع وهو يشير له إلي التباب والكثبان الرملية قائلاً بثقة: "تخيل أن هنا سيكون البرلمان، وهناك سيكون القصر الرئاسي .. وهنا مدرسة، وهناك أوبرا .. إلخ"، والناس تهرش رؤوسها عجباً من سذاجة العرض والمعروض!!..

الآن يقال للناس أن التحسن قد يأتي بعد ثلاثة أعوام، ومن المؤكد حضوره بسلامته في 2030، أي بعد أن يموت أغلب من يسمعون تلك الأماني والأغاني  ..

وحيث أننا مقبلون علي موسم إنتخابات رئاسية، فلا يمكن قبول إدعاء أن المسيحيين المصريين يدعمون السيسي مهما فعل .. لقد بدأ قطاع كبير منهم يدرك خطورة ما يقوم به من زيادة الإحتقان عليهم، بل أن مجرد تكريس هذا الإدعاء يضعهم في المواجهة مع باقي الشعب .. لذلك فقد يكون من الضروري أن تبتعد الكنيسة (والأزهر) عن التصريح بدعم هذا المرشح أو ذاك، سواء كان ذلك بصراحة أو ضمناً ..

أرجوكم لا تحرقوا نسيج الوطن بغبائكم، فلا يمكن أن تكون الكنيسة هي الدولة أو مع الدولة مثلما كان الحال في أوروبا قبل النهضة وأدي إلي حروب وفتن بين أتباع نفس الديانة مع اختلاف المذهب وحينها فقدت أوروبا ثلث سكانها في تلك الحروب الغبية .. ولو راجعنا أجزاء حية وحاسمة من تاريخنا مثل ثورة 19 مثلاً أو حرب 73 أو غيرها من الوقفات العظيمة لشعب مصر لأدركنا مدي قوة نسيجنا الوطني .. الدولة أكبر كثيراً من أي سلطة، ولا يجوز أن يقع أحد فريسة في هذا الخلط .. كل مسيحي ومسلم مصري يدعم الدولة بالطبع، ولكن يختلف الأمر مع السلطة، نختلف أو نتفق يمعها كمصريين وليس لأننا ندين بهذا الدين أو ذاك ..

إن السياسي الجيد يعد لكل موقف حساباته، ومن نافلة القول أن الفارق ما بين القرار السياسي الصائب، والقرار السياسي الخائب خيط رفيع، يعتمد الترجيح فيه علي عوامل كثيرة أهمها: نوع المعلومات المتاحة، حسابات تحرك الخصوم، حسابات تحرك الأنصار، الجدوي الإقتصادية .. ولكن تبقي عوامل خفية أبرزها المتغيرات غير المحسوبة، وهي العامل الحاسم في الكثير من الأحوال ..

ويظل جوهر السياسة هو المواقف النبيلة التي تقبل التضحية رغم كل شيء، لأن أجمل الجواهر، هي تلك التي إذا نظرت إليها من أي زاوية وجدتها لامعة .. حتي في الظلام، وأنا أثق أننا لا نستسلم أبداً لليأس، فكل أعمارنا نضال من أجل المبادئ، وكل لحظة منها أمل يتجدد في النصر .. أي أننا نحيي فرحة مكبوتة طول الوقت تتهيأ أن تنطلق من عقالها في اللحظة التالية، تلك هي السياسة كما نفهمها بمواصفات مصرية أصيلة.


  • مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!