17 - 07 - 2024

ادفنوا الميت ..وانصرفوا

ادفنوا الميت ..وانصرفوا

 

أظن أنه قد حان الوقت كي نكسر بعض التابوهات ، بعض التحفظات العقلية المتحجرة ، بعض الكلمات المتخشبة .. تلك هي الساعة الأخيرة التي ينبغي علي المصري أن يتصالح فيها مع نفسه قبل أن تقوم القيامة ! ..

علينا أن ندرك أننا  نتدافع علي تخوم آخر عربات القطار الذي تحرك بالفعل ، وقد لا يدرك الناس أنه إذا لم نلحق به ، قطر الخلاص ، فأننا سنكون علي القضبان تحت عجلات حرب أهلية وحشية ...

ومن يتأمل في المشهد السياسي الإجتماعي حالياً ، يتبين له أن المناخ السياسي محبط للغاية ، لا يشجع أحداً علي التفاعل أو المبادرة في أي شيئ ، لأن الخوف من أشباح قوات الأمن السوداء صار يقبض علي جماع المدن والقري ، الناس تخشي أن تتكلم حتي عن مبارايات كرة القدم خوفاً من التنكيل والملاحقة وتشويه الصورة ، وفي ظل هذه الصورة الكئيبة تبدو الدعوة للترشح للإنتخابات الرئاسية المقبلة وكأنها نكتة ساخرة ..

لا أظن أن هناك أي جدية في هذه الدعوة إلا إذا استجابت السلطة السياسية لمطالب المعارضة في توفير المناخ الصحي الذي يمكن للسياسة فيه أن تتنفس هواءً نقياً ، وأبرز هذه المطالب الإفراج عن كل الشباب المحتجزين أو المحبوسين في قضايا تتعلق بالرأي أو بالتظاهر السلمي ، وأن يتم إعادة النظر في تشكيل الهيئة الوطنية للإنتخابات التي قام الرئيس بتشكيلها بإرادته المنفردة ، أي أنها مدينة له بشكل أو بآخر ، وذلك يلقي شبهة واسعة علي حيدتها ونزاهتها .. يجب أن يكون الإشراف علي أي إنتخابات قادمة من خلال هيئة يتم تشكيلها بتشاور واسع مع كافة القوي السياسية في الدولة ، وأن يتم إختيار العاملين فيها من خلال لجنة محايدة يتم الإتفاق عليها ، ثم لا يكون هولاء العاملون قابلين للعزل .. إلخ .

ومن ناحية أخري فأنه ينبغي إلزام كل القنوات الفضائية بلا إستثناء ، بإتاحة عدد مناسب من الساعات للمعارضين ، وفي توقيتات تتيح المشاهدة العالية ، وأن يتم سحب ترخيص أي قناة لا تلتزم بالحيدة الموضوعية في عرض الرأي والرأي الآخر .

أن الناس تشعر بعدم جدوي نزول أي مرشح كي ينافس في الإنتخابات الرئاسية ، لأن السيسي " ناجح ناجح !! " ، رغم أن كل المؤشرات تشير إلي تراجع كبير في شعبيته التي قد لا تزيد في الوقت الحالي عن 15% من أصوات الناخبين ، ولقد أسهمت عوامل كثيرة في تراجع شعبية الرئيس منها وعوده التي أسرف فيها ولم تنفذ ، وتدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية بشكل غير مسبوق وعدم وجود أي ضوء في آخر النفق المظلم الذي يعبره شعب مصر ، ولكن أبرزهذه العوامل هو ذلك التنازل غير المبرر عن جزيرتي تيران وصنافير خاصة بعد أن قضت المحكمة الإدارية العليا بشكل بات ونهائي بمصرية هاتين الجزيرتين وبطلان الإتفاق بتسليمهما إلي السعودية .

لقد انكسر فجأة تابوه " الرجل الدكر " القوي الذي يبرز عضلاته وينشر الخوف في ربوع البلاد ، حين أخفق ذلك الرجل بخلفيته العسكرية في مواجهة تدهور الأوضاع الأمنية بشكل خطير ، حتي أن الأوضاع قبل طلبه للتفويض كانت أفضل مئات المرات من الأوضاع الحالية التي توالت فيها ضربات الإرهاب في مختلف بقاع مصر .

إن ذلك الإنكسار الرهيب في " صورة " السوبرمان المنقذ ، وخاصة في مهمة تعد من صميم خبراته العسكرية ، ألقي بظلال كثيفة في إمكانياته الأخري التي لا يفترض توافرها فيه مثل الإقتصاد والسياسة والثقافة والتعليم والصحة والتخطيط العمراني .. إلخ ، بل وتأكد التراجع الرهيب في كل هذه القطاعات باعتراف الرئيس نفسه ،حين وقف في مؤتمر صحفي مؤخراً في قصر فرساي مع الرئيس الفرنسي الشاب وقال وكأنه يغيظ الأوروبيين : " لماذا تسألون فقط عن حقوق الإنسان والحريات في مصر ،  نحن أيضاً ليس لدينا صحة ولا تعليم ولا عمل " وكان ذلك في معرض الرد علي غياب الحريات وحقوق الإنسان .. أي أن رئيس مصر أضاف إلي هذا الغياب غياب كل شيئ آخر ، فضلاً عن إشارة رأي الناس أنها غير لائقة تشير إلي أن الناس في مصر أقل من الناس في أوروبا !!..

انكسر أيضاً تابوه الإخوان المسلمين وتحطم تحطيماً عندما خرجوا لأول مرة إلي الأضواء الساطعة في دواووين السلطة ، حين كشفوا بشكل مدهش عن أنيابهم التي كم كانت مختفية خلف إبتساماتهم الوديعة في زمن التقية والصفقات مع أنظمة الحكم المختلفة ..

وانكسرت صور عديدة لصحفيين وإعلاميين ، حين أنكشف أن أغلبهم لا يعرف قيمة القلم الذي يحمله ، والمنبر الذي يتصدره ، فوجدنا ذلك النوع من الصحفيين الذي لا يمكن إعتباره صحفياً ، فهو مجرد رجل يوظف قلمه لخدمة السلطة أي سلطة ، يلتصق بها مثل حشرة " الأرضه " ، يمتص ما يلقي إليه من فضلات الحكم ، ولا يخجل من الترويج للشيئ ونقيضه خلال فترات زمنية متقاربة .. هو ليس صحفياً لأن أحداً لم يعرف عنه قدرات غير عادية أو حتي عادية في مهنة الصحافة رغم أنه يتشدق طول الوقت بشرف المهنة وأخلاقياتها التي لا يبدو أن له أي نصيب منها .

وكم يضحكني ، ويضحك خلق كثيرون ، ذلك " المذيع " الهاشتاج الذي أصبح يروج لإنجازات السيسي من خلال الدعوة لتبني هاشتاج معين ، وآخرهم " عشان يبنيها " ، وكم يبدو الأمر مثيراً للسخرية عندما يتقافز ذلك " الهاشتاج " في النهاية سعيداً وهو يردد وكأنه أنقذ مصر من الجوع : " نحن تريند في المركز الأول .. هاااااااح !! " ، ويفرح الأنصار بالإنجاز .. وتضحك مصر ، وتضحك الدنيا علينا ...

وفي القاعات الباقية للمعارضة المصرية في شقق بعيدة عن الأنظار والأسماع ، وخشية المطاردة ، يجلسون في حجرة الوطن ، يتحدثون جميعاً في نفس الوقت ، وكل واحد يعتقد جازماً أنه أقنع الآخرين !! ، أليس مدهشاً أن يتصور سياسي أن الحوار يعني المونولوج الشخصي له ؟! .. ذلك تابوه آخر خطير ، ولا يبدو أن أحداً يلتفت إلي خطورته ، ألا يمكن أن يتحلي هؤلاء السادة ببعض التواضع من أجل الوطن ..لقد فكروا وتكلموا بنفس الطريقة من قبل ، كيف يتخيلون الوصول هذه المرة إلي نتيجة مختلفة ؟! ..أنه نفس الفشل مركباً ..

أقول للجميع أن هناك وطناً يموت بين أيدينا ، بينما لا يزال هناك من يصر مواصلة التسلي بألعابه الصغيرة ...يا سادة ، إذا مات الوطن فأنتم حفنة من عفن !!

------------- 

*مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!