17 - 07 - 2024

علاقة غير مشروعة!

علاقة غير مشروعة!

استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض (الفيتو) ضد مشروع القرار المصري بشأن القدس ، والذي لم يكن سوي تأكيد لقرارات سابقة تتعلق بالوضع القانوني للقدس ، وقد كان أمراً جيداً أن يرفض الأزهر والكنيسة مقابلة نائب الرئيس الأمريكي مايكل بنس الذي كان يزمع القيام بزيارة للشرق الأوسط .. ولكن يجب أن نوضح أن الموضوع ليس ديناً بل سياسة وسيادة واحترام للذات الوطنية ..

ورغم تلك الصفعة الرسمية الأمريكية التي صحبتها كلمات مهينة من الرئيس الأمريكي ومندوبته في الأمم المتحدة ، إلا أنه لم يصدر بيان واحد من أي قصر من قصور الحكم في العالم العربي يعلن رفضه لزيارة نائب الرئيس الأمريكي .. بل صدرت تعليقات خجولة تليق بخدر العذاري وعتاب العاشقين !! …

وأعاد ذلك للذاكرة أحداثاً دبلوماسية عديدة ، كم أثقلت النفس وشقت علي الصدور ، ومن ذلك مثلاً أنه في بداية الثمانينيات من القرن الماضي حين كلف الرجل الكبير دبلوماسيين اثنين من الشباب أن يكتب كل منهما دراسة منفصلة عن تقدير الموقف حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط . واجتهد الشابان كل منهما علي حده ، وفي الوقت المحدد توجها إلي الرجل الكبير في مكتبه .. أشعل الرجل سيجارا كوبياً ضخماً ، وطلب منهما أن يجلسا حتي ينتهي من قراءة التقريرين ..

وبعد أن أنتهي من القراءة حبس الدبلوماسيان أنفاسهما كي ينصتا إلي رأي الرجل الكبير .. تنهد الرجل وجذب نفسا هائلا من سيجاره ، وقال لهما بجدية مشيرا إلي التقريرين: هذا كلام جيد ولكنه يحتاج لتلخيص .. ثم نهض الكبير من خلف مكتبه وهو يأمرهما البقاء جالسين .. تسائل : " هل تعرفان كيف يمكن تصوير العلاقة بيننا وبين أمريكا في كلمات بسيطة ؟ " ..

لم يحر الدبلوماسيان جوابا وركزا أنظارهم علي شفتيه كي يسمعا الحكمة المصفاة .. قال لهما بعد هنيهة : " هي علاقة تشبه علاقة بائعة هوي ( ذكر الإسم الشعبي لها ) مع زبون قضي وطره منها وألقي إليها مقابل المتعة ويريد أن يغادر بينما هي تتعلق به وقد رفعت ساقيها مستعطفة أن يواصل معها ( كل هذا بكلمات أعف عن ذكرها هنا ) " ..

لوهلة اطبق صمت الدهشة والصدمة علي الشابين ، وربما شعرا بالندم علي الساعات الطويلة التي أمضياها في عمل التقريرين .. ولكن أحدهما قال للرجل الكبير بجرأة لماذا لا يقوم بعرض هذه الرؤية الثاقبة المختصرة علي الجهات العليا .. نفض الرجل الكبير السيجار في المنفضة مجيباً بغير إكتراث : " هذه متعة نمارسها ولكن لا نكتب عنها " .....

ومن ذلك مثلاً قبل عدة سنوات وخلال حضور إجتماع لوزراء عرب في عاصمة عربية ،خرج من القاعة فجأة وزير الخارجية المضيف ، ثم عاد بعد قليل كي يوزع علي الحضور ورقة تتضمن بياناً كي يصدر بإسم الإجتماع .. لاحظت أن صياغة البيان توضح أنه ترجمة رديئة لنص إنجليزي .. قلت ذلك لرئيس وفدنا .. فضحك وهز كتفيه .. لذلك فأنني بعد قراءة أغلب البيانات العربية الجماعية التي قد تتعلق بأمريكا أشعر بنفس الشعور .. أضحك وأهز كتفي ..

في العام الماضي ..سبق لمصر ان تبنت مشروع قرار يقدم لمجلس الامن لإدانة المستوطنات الاسرائيلية ، واتضح ان امريكا لن تستخدم الفيتو كالمعتاد ، وان هناك إجماع لدعم هذا المشروع ، وكان ذلك يعني انتصاراً دبلوماسياً مؤكداً لمصر .. الا انه وفقاً لما اتضح حتي الان اتصل نتنياهو بالرئيس الامريكي المنتخب ترامب ( والذي لم يكن قد تسلم مهام الرئاسة بعد ) ، الذي اتصل بالرئيس المصري ، فإذا بمصر تؤجل فجأة التصويت علي مشروع القرار ، ثم تقوم بسحبه بعد ذلك ، لكنها في النهاية لم تملك سوي التصويت لصالحه ولكن بعد ان تقدمت اربعة دول اخري به ( ماليزيا ، نيوزيلاند ، السنغال ، فنزويلا ) ، وصدر القرار بموافقة كل الدول اعضاء المجلس مع امتناع امريكا عن التصويت ( لكنها لم تستخدم الفيتو ) .. ضحكت بمرارة وهززت كتفي وأنا أتذكر تحليل الرجل الكبير !! ..

وفقاً لمنطق الحكومة : خسرنا سمعتنا وكسبنا ترامب .. وربما النتن ياهو فوق البيعة ... ومرة أخري لا تملك سوي إجترار تحليل "الرجل الكبير" ، والضحك المرير وهز الأكتاف .. ورغم كل ذلك فأنه للإنصاف فيما يتعلق بمشروع القرار الأخير بشأن القدس والذي رفضته أمريكا ، يجب أن نشيد بدور جهاز الدبلوماسية المصرية وخاصة وفدنا في نيويورك ، لأن أي مشروع قرار في مجلس الأمن يخضع لمشاورات مجهدة في صياغة النص .. ولا شك أن حلفاء أمريكا في المجلس لم يكونوا ليوافقوا علي لغة تتيح حجب تصويت أمريكا وفقا للمادة 27 من الميثاق .. أن تصويت كل المجلس عدا أمريكا لصالح القرار المصري هو انتصار لا شك فيه للدبلوماسية المصرية .

يمكن القول أن التحرك الدبلوماسي المصري في مجلس الأمن نجح في عزل الموقف الأمريكي، لكن هذا لا يعني بالضرورة حدوث تغييرجذري في العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. وبغض النظر عن مسألة قرار مجلس الأمن ، فمن الملاحظ أن العلاقات الحالية بين مصر وأمريكا تمر في الأساس بفترة فتور، رغم كل مزامير العشق والغرام التي نفخت عند نجاح دونالد ترامب ، وما قيل عن "الكيمياء " الخاصة التي تفاعلت بينه وبين الرئيس المصري .. ذلك أن علاقات الدول ليست أبيات شعر أو قصص غرامية أو تفاعلات كيميائية ، وإنما هي حسابات دقيقة لحجم المصالح ، ومن الواضح أن ما يتردد حول تقديرات المؤسسات الأمريكية مثل البنتاجون والكونجرس ووزارة الخارجية، فأنها لم تعد جميعها ترى مصر بنفس الأهمية السابق ، بل تعتبر أن أهميتها الإستراتيجية قد تراجعت بشدة .

 وقد نشرت النيويورك تايمز مؤخراً إفتتاحية كتبها أثنان من أبرز المتخصصين في الشرق الأوسط تؤكد هذه النتيجة. أن الأهمية النسبية لأي دولة يتم تقديرها بمدي ماتمتلكه هذه الدولة من عناصر القوة الشاملة ، ومن أهم هذه العناصر مدي ثبات وقوة الأوضاع الداخلية للدولة ، وتلك الأوضاع تقوى بمزيد من الحريات والديمقراطية وإشراك الشعب في المسؤولية، وإلا فما الذي يدفع دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية أن تهتم بدولة تضمن تبعيتها بشكل كامل ، لأنها تدرك أنّها تتعامل مع شخص واحد بينما بقية الشعب مغيب أو مقموع وتم إسكاته،في هذه الحالة لا يمكن أن تمثل تلك الدولة خطراً ذا بال ، أو يعتد بها في الصفقات الكبري أو الصغري …

أنّ قضية القدس ليست في حاجة إلى مزيد من القرارات لإثبات أحقية العرب والمسلمين، فهناك العديد من القرارات ، منها القرار 476 والقرار 478 الصادران في 1980، فضلاً عن سلسلة قرارات من منظمات دولية مختلفة، وكان آخرها قرار العام الماضي الذي قدّمته مصر وسحبته بعد ذلك الخاص بالمستوطنات الذي تضمن عدم شرعية أي إجراء إسرائيلي في الأراضي المحتلة بما فيها القدس المحتلة، كل هذه القرارات تؤكد أنّ الهدف لم يكون الحصول على قرار إضافي إلى القرارات الموجودة في سجلات المجتمع الدولي حول القضية الفلسطينية، وإنما الهدف هو عزل الموقف الأمريكي .. ذلك الموقف الذي اكتفي بوصلة من الردح علي قارعة الطريق الدولي العام !! ..

وأتصور لو أن الأنظمة العربية كان لديها الشجاعة والقدرة علي مجرد التلويح بتنفيذ قرار سابق لجامعة الدول العربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أي دولة تنقل سفارتها للقدس لما تجرأ ترامب علي ما فعل ..

الخلاصة أن الجهاز الدبلوماسي المصري حقق نجاحا بالمعايير الدبلوماسية ، بينما رسب النظام العربي الرسمي في مجمل تحركاته لإدارة الصراع . وهو ينتقل من مستوي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية إلي القبول بالتصفية الجائرة خضوعاً لإرادة العم سام الذي لم تبتعد العلاقة معه عن وصف ذلك "الرجل الكبير " وهو يلقي بدرس في العلاقات الدولية لإثنين من شباب الدبلوماسيين ذات يوم في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ..

ولله الأمر من قبل ومن بعد …

-------------------------------

*مساعد وزير الخارجية الأسبق