17 - 07 - 2024

الدين وميكيافيلي !

الدين وميكيافيلي !

 

 

كانت " الحداثة " – ولا زالت – تعني " العلمانية " لدي الكثرة الغالبة ، وذلك كتعبير عن الإبتعاد الذي وصل إلي حد الإنفصال عن الدين ، فقد أحتلت معجزات التكنولوجيا الحديثة محل المعجزات التي منحها الله لأوليائه ، وهتف أنصار العلمانية بنشوة مهللين بإنتصار العقل والعلم ، علي ما وراء الطبيعة والخرافة علي حد قولهم .

من المعروف أن ذلك المفهوم للحداثة قد أعقب الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت ، والتي التهمت ثلث سكان القارة تقريباً ، ولم تتوقف المذابح إلا بعد توقيع معاهدة وستفاليا الشهيرة عام 1648 ، ذلك العام الذي يعتبر في أوروبا التاريخ الذي أغلقت فيه أبواب الحروب الدينية .. فهل انتهت فعلاً ؟ ..

لقد استمرت الحروب بين المسلمين والمسيحيين لفترات طويلة أبرزها الحروب الصليبية ، ثم الحروب التي خاضتها الإمبراطورية العثمانية التي اخترقت أوروبا ولم تتوقف إلا علي ابواب فيينا عام 1863 .. أي أن أوروبا ظلت تخوض حرباً دينية حتي منتصف القرن التاسع عشر علي الأقل ..

ليس هذا فحسب ، بل لا يزال الصراع بين البروتستانت والكاثوليك في شمال أيرلندا حتي اليوم ..

ولقد تعمدت إبراز هذا الصراع العقائدي في أوروبا ، لأنها القارة التي أنتجت الفكر العلماني ، والذي تطور إلي ما أطلق عليه مصطلح " العولمة " ، ولكن ذلك لا يعني أن باقي أجزاء العالم كانت بعيدة عن الصراعات الدينية والمذهبية ، فيكفي الإشارة إلي ما يحدث في ميانمار اليوم للأقلية المسلمة هناك ، والصراع المستمر بين الهندوس والمسلمين في الهند علي سبيل المثال..

أن الأديان في نظر الفكر الحداثي تحث الأفراد والمجتمعات علي مراعاة تحقيق ما هو حق في تصرفاتها ، بينما تركز السياسة المعاصرة علي التوصل إلي أفضل نتائج من خلال أفضل وسائل بغض النظر عن مدي أخلاقية تلك الوسائل .

ومع ذلك ، أو رغماً عن ذلك تبقي للدين تجلياته في مظاهر عديدة من الممارسات السياسية المعاصرة ، ولا يمكن أن تنسي الذاكرة المعاصرة مشهد بريجينسكي مستشار كارتر للأمن القومي وهو يخطب في المجاهدين علي الحدود الباكستانية/ الأفغانية ويقول لهم : " إن الله معنا " ( في مواجهة الشيوعيين السوفييت الملاحدة !! ) .. وفي نفس الوقت الذي نجد فيه مفكراً علمانياً مثل برنارد لويس يقول أن العقل التقدمي لا يقبل أن يقاتل المرء ويموت في صراع ديني ، بل ونجد مفكراً آخر مثل صامويل هنتجتون يكتب في عام 1993 في كتابه ( صراع الحضارات ) الذي توقع فيه أن نهاية الحرب الباردة سوف تشهد بدء الصراع بين الأديان ، بينما مفكر آخر يتحدث عن " نهاية التاريخ " والخطر الأخضر ( الإسلامي ) الذي يحل محل الخطر الأحمر ( الشيوعي ) فيما بعد نهاية الحرب الباردة .

واقع الأمر أن فصل الدين عن السياسة يعني باختصار عدم تدخل الدين في عملية إدارة المجتمع ، لأنه يفترض أن الدولة لا دين لها ، بل هي اختراع بشري شأنه شأن أي إختراع ، فهل يمكن أن يتصور أحد مثلاً أن السيارة لها دين ؟! .. الدولة إختراع بشري بغير نزاع ، ولذلك هي لا تخضع سوي لخالقها الحقيقي الذي هو المجتمع ، حيث يضع قواعد تشغيل هذا الإختراع وكيفية صيانته .. أنه اختراع يخضع للتغيير والتطوير والإصلاح ، بينما الدين – أي دين – هو نظام محكم مطلق لا يقبل النسبية بطبيعته .. ليس هذا فحسب ، وإنما أيضاً – في نظر هؤلاء العلمانيين – لا يجوز لهذا الإختراع البشري ( الدولة ) أن تتبني ديناً بعينه كي يكون دين الدولة ، بل يجب أن يوضح دستورها أو دليل الإستخدام لهذا الإختراع ( المانويل ) أن حرية العقيدة كاملة بلا تفرقة علي قاعدة المساواة .

وربما يبدو كل ما تقدم متسقاً ومقنعاً ، ولكن هل يعني ذلك غياب الدين بشكل كامل عن المجتمع؟ .. أن بعض المظاهر في أعتي الدول الليبرالية تشير إلي عكس ذلك ، فعلي سبيل المثال هناك القسم الذي يقسمه المسئول عندما يتولي ولاية عامة ، ويعد من أهم شروط تولي المنصب ، وهناك الأناشيد التي تحث الجنود علي القتال في ميادين الحرب تحت رعاية الرب ، وهناك بعض التصريحات والتصرفات التي تعكس ذلك الشعور الديني العميق ، من ذلك مثلاً ما قاله بوش حول حربه ضد الإرهاب حين وصفها بأنه " حرب صليبية " ، وتوجهه للكنيسة كي يصلي من أجل الجنود .. إلخ .

إذا لا يبدو أن " الحداثة " أو " العلمانية " تعني بالفعل الفصل والقطع الشامل مع الدين ، بل أنه يبقي شكلاً وموضوعاً في نسيج المجتمعات البشرية وإن اختلفت درجة تأثرها به ، وذلك أمر قد يواجه باعتراضات عديدة من أصحاب نظرية الفصل الشامل ، حيث يبدو وكأنه إعتداء علي حرية المجتمع ، والواقع أن " الحرية " كما يعلم الجميع ليست مطلقة في المجتمع ، وما نصبو إلي تحقيقه للفرد ليست تلك " الحرية " لأنه مقيد بحدود حريات ومصالح الآخرين ، ولكن المقصود هو تحقيق " حرية الإرادة " التي تمكن الفرد من الإختيار الحر الذي تهذبه الديمقراطية في أطر محددة تراعي فيها تحقيق التوازن بين تلك الحريات المختلفة .

ولقد كان " ميكيافيلي " من أبرز المتهمين بتخريب الدين والعمل علي نزعه تماماً من السياسة ،  وقد كانت قاعدة " الغايات تبرر الوسائل " متهمة لدي قطاع كبير من المفكرين لسنوات عديدة بإعتبارها قاعدة غير أخلاقية ، و " ملحدة " ، إلا أن من يقرأ كتاب " الأمير " لميكيافيلي ، يجد أنه ينصح أميره بأنه من المهم في معاملة الرعية " أن تكون لديه رحمة وإحترام وإنسانية " ولكن " الأهم من كل ما تقدم هو أن يبدو لهم متديناً " ، أي أن ميكيافيلي صاحب السياسة الواقعية والبراجماتية وجد أن " الدين " له دور مهم ومؤثر في الدولة أو إدارتها .

وبغض النظر عن أن " ميكيافيلي " كان يهدف إلي " إستخدام " الدين كي يسوس الشعوب ، أو كما قال الشيوعيون بعد ذلك " كي يكون أفيون الشعوب " ، فلا جدال في أن الدين يبقي رقماً صعباً ، ويلعب دوراً مؤثراً سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية ، ويكفي هنا ملاحظة أنه قد يصعب تفسير وتحليل سلوك الشعب المصري إذا نزعت العامل الديني من منهج التحليل ، سيظل هناك مساحة فارغة تبحث عن تفسير وتدليل .

وأظن أن القضية ليست دور أو أهمية الدين في المجتمعات ، وإنما ، وكما قصد ميكيافيلي تماماً هو كيفية إساءة إستخدامه من أجل إخضاع الشعوب ... وذلك مبحث آخر …

----------- 

*مساعد وزير الخارجية الأسبق