17 - 07 - 2024

الأديب علي أبو الريش رائد الرواية الإماراتية: الثقافة الإنسانية تحمل بذرتها العدوانية

الأديب علي أبو الريش رائد الرواية الإماراتية: الثقافة الإنسانية تحمل بذرتها العدوانية

اُختيرتْ روايته "الاعتراف" ضِمن أفضل مائة رواية عربية

صاحب "مرافيء" ينقل الأشجار مِن مكانٍ إلى مكانٍ لئلا تُفلت الخيول مِن مَرابِضها

عالَمنا العربي عدواني بحاجة لأمصالٍ ثقافيةٍ لتنقية عَقله

شَرٌ اُريد ببعض الأوطان والأفراد ليتلوا آيات النِّهايات، رغْم أنَّ آيات الحياة والجَمال تتأتى حالَما تَتلون عيوننا بالحُب؛ فنهزمُ أحزاننا وننتصرُ لأفراحِنا؛ كي نصبح طيوراً ولَّتْ الأدبار لهمومِها، باحثةً عن التَطهر، مُحلقةً مُعانقةً لطُيوف الأحْلام في عَليائها؛ فتهطل علينا السماء بكؤوس الرِّضا، لذا لابد من هزيمة الكائن الكئيب بداخلنا؛ ذلك الكائن الذي يقْتات على أحْزان الماضِي وقلَق المستقبل، ويَتعامَى عن بَهجةٍ يمكن أن يقتاتها في الحاضر.

هذا خُلاصة ما وقر بنفسي بعد لقائي بالأديب والشاعر ورائد الرواية الإماراتية والكاتب الصحفي المخضرم والفيلسوف والقارئ النَّهم لعلم النفس/ علي أبوالريش؛ الذي كلَّما رأيته يلفتني جَسدُه الشديد النّحول؛ وكأنَّه يقتات حُروفه مِن قلمٍ مِدادُه دم وَريده، وقَسماتُ وجْهه التي تُعطيه عُمْراً أكبر مِن عُمْره، ومِن مَشيته الوئيدَة تخالُه يحملُ هَماً ثقيلاً يَنوءُ به ظَهْره،وحين تقْعد معه ينْثالُ الحديث بشَهيةٍ غير مَسبوقة؛ أديبٍ همُّه ودَيدَنه الأول والأهم أنْ يفتح ثقباً جديداً في الوعي العربي المُثقل بعِبء الماضي، تَخصَّص في عِلْم النَّفس، عشِق الفلسفة والفلاسفة وقرأهم باهتمامٍ شديدٍ، لكنه لايدَّعي أنَّه فيلسوف، اكتشف أن الحياة أكبر مُعَلمٍ، ومالبث أنْ لقَّنها هو فلسفته؛ والتي تَعني "الانتقال من منطقة العُدوانية إلى منطقة الحُب"، أي نقْل الأشجار من مكانٍ لمكانٍ؛ لتُثمِر بشكلٍ أفضل؛ شرْطَ استنارة العقول، لأن العقول المُتسلطة تُستحيل معها الصَّحوة.

مِن زَخم مؤلفاتِك الروائية وكتاباتِك في الصحف نراكَ وكأنك تتلو علينا آيات الحُبِّ والحياة والجَمال؛ فأنَّى لك هذا وسْطما يَشهده عالَمُنا المُعاصِر مِنخَرقٍ وطرائِق مُتزمِّتة ومُتعصِّبة؟!

الصراعات الحاصلة نتيجة لرغبة داخلية مِن الأفراد في الانتقام مِن الذَّات، فعندما يقومُ شابٌ في عُمْر الزّهور ليفجِّر نفْسه فهذا يعني أنه يعاني عُقدة ذنبٍ تاريخيةٍ يعيشها؛ فيقومُ بالتّخلص مِن عذاباته، وقضية الخَلاص مِن الذنب ليست جديدةً، بل مُتعلقة بالذات البشرية، ويْكأنّ لكل زمنٍ ولكل أمةٍ وسيلتها الانتقامية مِن الذات، فهناك انتقامٌ جماعي، كالانتحارٌ الجماعي لدى فِرق البوذية، وهناك آخرون يَجلِدون الجَسد كتعبيرٍ عن طَلبِ الغُفران.

 والثقافة الإنسانية تحمِل بداخلها بذْرتها العُدوانية بقدْر ما تَحمله من إنجازاتٍ وأفكارٍ مُضيئةٍ، تلك البذرة العُدوانية تَتبدّى بوضوحٍ في عالَمِنا العربي؛ فالكل يقتلُ الكل؛ لأنَّ الأنا هي الهَدف، حتى تورّمت وأصبحتْ قُبْحاً تحتاجُ لأمصالٍ ثقافية تنْزع عنها الغبار، وتُعيد إليها وَعيها المَغدور؛ كي لا تفْلت الخُيول مِن مَرابضها وينْفك الزِّمام، لذا لابد من العمل على خلْق مُواءمةٍ وانْسجامٍ بين الذّات والمُنجز الحضاري لدينا و لدى الآخرين؛ من أجل قبولِ الحياة بتضاريسها المختلفة؛ وتقبّل الآخَر والتعايش معه، فالثقافة العربية عُدوانية، لذا أُطالب بإعادة صِياغتها والاعْتراف بالمُزَيف منها، وإعادة النَّظر في الخِطاب الديني والمناهج التعليمية، وأُوقن أنَّ العِناية بالمسجد والكنيسة هي عِناية بالحياة والإنسان وتَحريرِه منَ الرَّواسب والخَرائب ومُعانَقة لأمْواج الحُرِّية.

ومِنْ حُبي لله فلم يدَع مَجالاً في قلبي للشيطان، وأُجزم أنَّ التسامح هو التطبيق العملي للحُب، فحين تفتحين النافذة ليدخلَ الهواء الطلق فذلك تسامحٌ مع الطبيعة، وساعة تفتحين قلبكَ وتُؤثيثينه بسجادةٍ من حَريرٍ ليمْشي غيرُك عليه مِنْ دُون تَغْضِين جَبين أو تَعقيد حَواجب فذلك تسامحٌ معَ الآخَر، سيَّما مع إيماني بمَقولة روسو: "الأفكار المُسبقة مَفسدة للعقل"، نحن ياعزيزتي بحاجة للتنقية، لتَصفية الحثالات والرَّواسب بمَوجةٍ عارمةٍ تَغسلُ شواطئنا، لعقلٍ يَنسى كثيراً ويَتذكر قليلاً، لقلبٍ لا يحتفظ بالنِّفايات لمُدة لا تتجاوز لحظة، نحتاجُ لروحٍ مُبدعة في تأليف المَشاعر؛ لشخصيةٍ إنسانيةٍ بارعةٍ في صُنْع العلاقات.

 كتاباتُك ومؤلفاتُك تشي برُوح فيلسوف رغم دراستك لعلم النَّفْس؛ فما العلاقة بين الفلسفة وعلم النَّفْسوالكَمِّ الوافر مِن رواياتك التي أصدرتها حتى اُطلق عليك رائد الرواية الإماراتية؟

الفلسفة تَطرح الأفكار، بينما الرواية تُشير إليها فقط، بمعنى أنَّ الروائي يُشير إلى القمر وعلى القارئ أن يأخذ زِمام المبادرة ويُغادر إليه، أتفقُ في كتاباتِي مع "سيجموند فرويد" في أنَّ التفكير باللاشعور لا بالِشعور، وأنَّ كل التصرفات ناتجة عن العقل الباطِن، لذا أنبشُ دوماً في منطقة اللاوعي، وأرى انَّ التصالح مع الذات لابد منه، وهو يأتي بعد عَودة الوَعي الرُّوحي مكان الوَعي المادي الذي يسيطرُ على عالَمِنا، كقول "مارتن هايدجر": الإنسان المُحاصر بين فَكي الآلة والطّموح المادي أصْبح خاوياً منَ الداخل، ولا يمْلكُ زِمام الذات، وفي غياب الرُوح يُصبحُ الجَسد بلامعنى".

الفلسفة وعلم النفس ورواياتي كلها تصب وتدعو لعِشْقُ الحياة لأنها مسألةٌ فِطريةٌ؛ علينا أن نستثمرها فيما يُصلِح الكَون، فالمَحارة مهما كانت مَعزولة أو مَكبوتة لن تتوانى أبداً عن عاداتِها المُخَضّبة بلذة التصور لتقذف بمَكنونها عند السواحل المُضطربة، لذا أدعو دوماً للاهتمام بالأسرة والأجيال القادمة ليتعلموا ثقافة الحُبِّ والتسامح والعطاء لا ثقافة التَّسلط أوالخُنوع، لأن كل منهما يُنتج إنساناً إما مُتسلِّطاً لا يقبل الرأي الآخر، أو خانِعاً انهزامياً لا يعرفُ كيف يكونُ سَوياً؛ وهذا ما عالجَتهُ في روايتي "غلطة آدم".

 رغم إنتاجك الشعري بَيْدَ أنَّ شُهرتك الرّوائية فاقتْ؛ حدِّثنا عن إسهاماتك الأدبية

 ربما لوجود أكثر مِن خَمسة وعشرين مؤلفاً مابين روايات وقِصص قصيرة ومسرحياتأكثر من المجموعات النثرية، فمن رواياتي: الاعْتراف، قَميص سارة، زينة الملكة، ثلاثية الحُب والماء والتّراب، فرَّتْ منْ قَسْوَرة، غَلطة آدم، كما اخْتيرَت روايتِي "الاعتراف" ضمن أفضل مِائة روايةٍ عربيةٍ، وقد نلتُجائزة الإمارات التقديرية للعلوم والفنون والآداب عام 2008 مِن رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد، وجائزة مَجلس التعاون لدول الخليج العربية للتَّميز الأدبي في دَورتها التكريمية الأولى، كذا كَتبُ مِئات المقالات الصَّحفية في عَمودي الشَّهير "مَرافئ" بصحيفة الاتحاد، والتي التحقتُ بالعمل بها بعد تَخرجِي مِن جامِعة عَين شَمس بالقاهرة؛ حيث أمْضيتُ نحو ثلاثين عاماً رئيساً للقِسم الثقافي، ثم رئيساً للتحرير التنفيذي للجريدة، ثم مديراً لمشروع "قلم"، ومازالتُأكتبُ عَمودي اليومي بالجريدة.

حقَّقتْ رواياتك توزيعاً لافتاً؛ مما حَدا بالمجتمع الثقافي أنْ يُطلق عليك "رائد أو عُمدة الرواية الإماراتية"؛ فماذا عن "معيرض"؟

 الحقيقة  لم أكن أول مَنْ كتب الرواية بالإمارات، لكنَّهم وصفوني بالأبرزُ في هذا المجال؛ واعتبروا أنَّ رواياتي اخترقت الحُجُز ووقفتْ جَنباً إلى جنبٍ مع كُبريات التجارب العربية، وأرجو أن يكون رأيهم سديداً، أما في العديد منْ روايتي فلا يمكنني أنْ أنسى"معيرض" مَسقط رأسِي بإمارة رأس الخيمة، تلك البُقعة الهادئة الوادِعة في حضْن الصحراء والبحر والجبل؛ والتي أخشى عليها مِن تيار الحداثة، ووَدتُّ ألوِ احتفظتْ ببكارَتها.