17 - 07 - 2024

مسخرة بملابس رسمية !

مسخرة بملابس رسمية !

 

تملكت مني وعكة صحية خلال الأسابيع الماضية ، ولذلك توقفت عن كتابة المقالات ، إلا أنه فيما يبدو أن السبب لم يكن فقط مقصوراً علي آلام البدن ، وإنما كانت آلام النفس أشد وأمضي ..

من المعروف أن هناك ما يسمي " إحتفال المساخر " ، يرتدي فيه الحضور ملابس تنكرية مضحكة ، وفي أمريكا اللاتينية شاهدت إحتفالات ساخرة يتبادل فيها الناس التقاذف بالسوائل الملونة ، وشاهدت كذلك في البرازيل الكرنفال الشهير في ريو جانيرو علي شاطئ كوبا كابانا حيث يحضر الناس بملابس رسمية كي يشاركوا في المسخرة وقلة القيمة !! ...

لا أعرف كيف سيكتب التاريخ عن هذه الفترة   .. لقد تسرع البعض بوصف ما يحدث بأنه مهزلة ، وربما كان هؤلاء يقصدون بالمهزلة ذلك الفيلم الهزلي الذي تتابعت حلقاته أمام العالم كله ، من إعلان مهيب للفريق أحمد شفيق بتقدمه للترشح لرئاسة مصر ، ثم إعلانه المنزعج من أن الإمارات تحجزه وتتدخل في الشئون الداخلية المصرية ، ثم لقطات سينمائية وهو يتوجه لطائرة خاصة أنيقة في ثياب كاجوال وكأنه متوجه لرحلة ... ثم .. ثم .. إختفاء لأيام في أرض الوطن ، حتي ظهر بالصوت فقط من خلال برنامج تليفزيوني كي يعلن أنه قرر عدم الترشح لأنه أكتشف حاجات في مصر لم يكن يعرفها ، وكان ذلك التصريح يشبه النهايات المؤلمة في الدراما الإغريقية ..

من حقنا أن نسأل ما الذي حدث للرجل الذي شغل مناصبا ً عدة كان آخرها رئيساً لوزراء مصر ، وقبلها كان وزيراً وقائداً للقوات الجوية .. إلخ ، هل يمكن لأحد أن يصدق أن رجلاً مثله لا يعلم " حاجات " في مصر ؟! ، وإذا كان مثله لا يعلم ، فمن يعلم ؟؟؟ ...

لقد شرعت السكاكين الإعلامية الصدأة علي الرجل بمجرد أن أعلن عن نيته في الترشح ، وسارع نجوم الفضائيات في " إكتشاف " الجرائم المسكوت عنها للرجل ، ووصلت الإتهامات إلي درجة غير معقولةعندما تساءلت إحدي المذيعات مهددة عما إذا كان الفريق شفيق قد نسي ما كان يفعله في شارع المطار ( وذلك الشارع في الفلكلور المصري محط العشق المخطوف في ظلام اللذة ) ، بل وشمل التهديد أنه سيخضع لتحليل دم !!! ...

ولم يكن شفيق أول أو آخر من يتعرض لهذه الدراما الإغريقية والإستباحة الكاملة تحت مرأي ومسمع كل أجهزة الدولة ، وأولئك الذين عينوا أنفسهم أحباراً في هيكل الصحافة والإعلام منافحين عن شرف المهنة وأخلاقها !! ..

فلقد تعرضت أسماء عديدة للذبح وإغتيال الشخصية لمجرد أن برزت كأسماء محتملة ، أو تحدث عنها الناس بإعتبارها شخصيات محترمة ، والقائمة طويلة ، لدرجة أن كل من يحترم نفسه ويريد أن يحافظ علي عائلته وسمعته من التجريح لا يمكن أن يفكر مجرد تفكير في أن يتقدم لهذا المنصب " الرفيع " !! ..

وتتالت الرؤوس الطائرة ، حيث تم سجن العقيد قنصوة الذي أعرب عن نيته في الترشح ، وحصل علي حكم بست سنوات سجن ( أي فترة رئاسية ونصف !! ) ، ثم انسحب النائب السابق محمد أنور السادات بعد أن أصدر بياناً ينتقد فيه بشدة ما يراه مناخاً غير مواتياً لإجراء إنتخابات حرة ونزيهة ، ثم المناضل المحامي خالد علي الذي أصدر بياناً أشد ، ثم كانت موقعة الفريق سامي عنان التي هي في حد ذاتها تراجيديا كاملة سوف تظل مثل حدوته أبو زيد الهلالي تروي عبر التاريخ ، فلقد ترتب علي إعلانه بنيته في الترشح أن تم القبض عليه بعد بيان عسكري تضمن التهم الموجهة إليه ، ثم تعرض النائب الذي أختاره وهو المستشار هشام جنينه إلي حادث إعتداء غاشم كان في حقيقته محاولة لإغتيال الرجل الذي تم عزله من منصب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، وهو المنصب الذي كنا نظن أنه محصن ضد العزل ، ثم وإثر حديث صحفي تم القبض علي السيد المستشار بتهمة إذاعة إشاعات ، وهو حتي كتابة هذه السطور محبوساً ...

وفجأة وجد النظام نفسه في مأزق ، فلم يتبق أحد كي ينافس المرشح المحظوظ والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي ، وأسقط في يد إعلام ساقط ظل لأشهر عديدة يمارس أفحش القول تجاه كل المعارضين ، بل والإغتيال الممنهج لأي شخصية محترمة في مصر كي يدفعوها بعيداً عن الترشح أو منافسة الزعيم المحبوب .. وقعوا جميعاً في حيص بيص ، لدرجة أن نفس الإعلام التعبوي بدأ يصرخ وينادي ويتهم المعارضة بأنه عاجزة عن أن تتقدم بمرشح ، بل وكادوا يتسولون أي إسم للترشح ، وكان بعضهم من العارفين ببواطن الأمور يؤكد كل ليلة أن هناك مرشح سوف يتقدم ، ثم تم الترويج بشدة لرئيس حزب الوفد السيد البدوي ، لدرجة أنه سارع لإجراء الكشف الطبي حتي لا يفوت الموعد وذلك قبل أن يصدر حزبه قراراً ، وفي النهاية رفض الحزب ترشحه ، مؤكداً دعمه للرئيس المحبوب ، وهكذا انقذ الوفد سمعته ، وخسر السيد البدوي الرسوم التي دفعها للكشف الطبي ، وربما معها سمعته ...

وفي اللحظات الأخيرة ، وقبل إغلاق باب الترشح تمكن دهاقنة السلطة من التحصل علي مرشح هوفي ذاته من أكبر الداعمين للزعيم المحبوب ، وهرول الرجل بسرعة كي يجري الكشف الطبي ، دون أن يأبه بالشكوك التي تتعلق بشهادته الدراسية ، ولم ينس الرجل رغم ترشحه بالفعل أن يدبج قصائد حب وهيام في منافسه ، وهي ظاهرة تنفرد بها مصر ، وتؤكد الروح الرياضية العالية التي تتحلي بها منافساتنا السياسية !! ،لدرجة أنه لن يكون غريباً أن يعلن أحد الأحزاب أنه يؤيد السيسي ويتقدم في نفس الوقت بمرشح لمنافسته .. ويصلح ساعات ...

 

لا أنسي قصة روتها لي الدبلوماسية " تانيا كاربيو " من كوبا ، انهم في لحظات حصار ويأس فوق احدي قمم جبال " سييرا مايسترا "  .. تلفت كاسترو حوله قائلا : " هل لديكم نكتة ؟ " .. قالت أنهم كانوا معرضين للأسر والتنكيل بهم بسبب ارتفاع أصوات قهقهاتهم ، وعندما حاول أحد الرفاق تنبيه فيدل ( كاسترو ) ، أبتسم قائلا أليس الأفضل أن نموت مبتسمين ؟! " ..

قالت أن روحهم المعنوية تغيرت للأفضل وتمكنوا من شق الحصار في مسيرتهم الطويلة الدامية إلي هافانا ..

فعلاً ففي مثل هذه الظروف التي نمر بها لا يمكن الحديث بجدية حين يتفوق العبث علي نفسه ..
ليس لدينا سوي السخرية كمعادل موضوعي ، بل وأكاد أجزم أن الفنان العظيم إسماعيل يس الذي أمتعنا بأفلامه ( إسماعيل يس في الجيش ، وفي الطيران ، وفي الأسطول .. إلخ ) رحمه الله .. لو عاش لكان لدينا الآن فيلم " إسماعيل يس رئيس جمهورية " ...

وأرجو ألا يعتبر أحد أن تلك إستهانة بما يدور ، إنما نحن فقط نستعين علي قبح الواقع بإزدرائه ..
لأن السخرية ليست إلا البديل المهذب للرد الذي يستحقونه ,,

 وحيث أن الإنتخابات جاءت كما أرادوها " استفتاء " ، فهل يكون السيسي في شجاعة ديجول ويرفض المنصب إذا حصل علي أقل من ٦٠% من الأصوات التي يحق لها التصويت ، أي ما لا يقل عن 35 مليون صوت ؟؟؟ ..

ربما يتحجج البعض بالمنافسة الشرسة التي قد يبديها المرشح الآخر الوحيد والذي ظل لعدة أشهر يروج لدعم إنتخاب السيسي ، حتي تقدم في الساعات الأخيرة في شجاعة الفرسان كي لا يترك السيسي وحده في ساحة الإنتخابات ، بعد ان تراجع أو تم إرجاع أي مرشح آخر محتمل !! ..

والواقع أن تصريحات ذ لك المرشح الآخر لا تسند هذه الحجة ، فلقد نقل عنه أنه صرح بأنه إذا فاز في الإنتخابات الرئاسية القادمة ، فأنه سوف يتنازل للرئيس السيسي ، لأن زوجته تحبه !! ... وذلك وأيم الله قمة الوفاء للزوجة والوطن والسيسي في آن واحد ...

أعتقد أن السيسي نفسه يدرك أنه وحده الآن في هذه الإنتخابات ، وبالتالي فأنه وبعد كل ما فعلت أجهزة الدولة فأنه يكون راسب إذا حصلت علي أقل من ٦٠% في هذه العملية التي لا يمكن وصفها إلا بكونها إستفتاء ، وعليه في هذه الحالة الدعوة لإنتخابات رئاسية مبكرة ! ..

وربما من أجل ما تقدم ، أصبحت المقاطعة الإيجابية نوعاً راقياً  من العصيان المدني .. لا يتخلي فيه المواطن عن إلزام وإنما بإرادته يرفض التمتع بحق يراه قد اجهض .. ولا يمكن أن يعد التنازل عن التمتع بحق جريمة رغم كل طبول الحرب التي يدقها إعلام السلطة .. فمن المؤكد أن هناك من يرفض التوجه إلي مسخرة ، ولو ارتدت ملابس رسمية …

----------------------------------------

مساعد وزير الخارجية الأسبق