30 - 06 - 2024

السفير معصوم مرزوق يكتب: رسالة إلي أولي الأمر

السفير معصوم مرزوق يكتب: رسالة إلي أولي الأمر

لا زلت – لأسباب شتي – أحسن الظن بكم ، وأتفاءل خيراً بمستقبل هذا البلد الطيب .

ما أخاطبكم إلا لإزالة القلق الذي أقض مضجعي وأنا أري خطوب النوازل علي وشك أن تنهال عليكم وعلي الوطن .

أن تصلب مواقفكم وإصراركم علي الإنفراد بالرأي شر مستطير ، عليكم وعلي الوطن ، وما ظنكم بنكبة لا تصيبكم وحدكم وإنما تأخذنا جميعاً في إندفاعها .. وحين أبدينا قبل ذلك ملاحظات وأسدينا ما رأيناه نصحاً واجباً ، سعرتم لنا خدودكم وأبيتم إلا مواصلة الإنزلاق إلي مداه .. ما ظلمناكم ولا نظلمكم وإنما أنتم لأنفسكم ظالمون .

لعل الجميع لا يزال يتذكر أنني خرجت إلي الناس في لقاء تليفزيوني مع المذيعة المتألقة ليليان داود فور الإعلان عن توقيع إتفاق مع السعودية يمنحها جزءا من أرض مصر في تيران وصنافير، لقد حملت معي إلي الأستديو حينذاك عدداً هائلاً من الكتب والوثائق والخرائط حملتها معي في حقيبة سفر كبيرة، وشرحت كل ما يثبت بجلاء ما أعرفه يقينا سواء كمدير سابق لإدارة المعاهدات الدولية في وزارة الخارجية، أو كمقاتل حارب ضمن صفوف الصاعقة ويملك مثل كل مصري إمتياز دم علي كل التراب المصري المقدس .

لقد حرصت في بداية هذا اللقاء التليفزيوني أن أؤكد علي أنني لا أتهم أحداً بالخيانة أو التفريط، وأشرت إلي أن الوثائق بين يدي وحدها تتكلم ولا أدعي إحتكار الحقيقة، كما أبديت كل الحب والإحترام لشعب السعودية الشقيق .. ولقد تم إضافة مئات الوثائق لما تقدمت أنا به في ذلك التوقيت المبكر .. في حين عجزت السلطة علي مدي عام كامل أمام القضاء الإداري أن تقدم وثيقة واحدة يعتد بها يمكن أن تثبت صحة موقفها، وأتذكر أنني في إحدي مرافعاتي أمام مجلس الدولة توجهت إلي ممثل الدولة وذكرت له أنه لو قدم وثيقة واحدة تؤكد ما يقول فأنني سوف أترك مكاني كي أقف وراءه مدافعاً عن موقف السلطة .. وقد كنت مخلصاً في هذا العرض، ومستعداً للتسليم بوجهة النظر الأخري إذا توفر لها الدليل الحاسم .. وهذا ما لم يحدث .

ينص الدستور علي أن الشعب هو مصدر السلطات، وإذا بيد العبث تمتد كي تفرغ النصوص الدستورية والقانونية من محتواها، بل وتتعدي ذلك إلي التلويح بإمكانية إجراء تعديلات جوهرية تمس النسق المتوازن الذي صيغ به دستورنا الحالي .

إن اليد التي سطت وتغولت في تفسير تلك النصوص الحاسمة بما يخرجها عن مقتضاها قد ورطت الحكم والبلاد في مشاكل قد تتسبب في حروب مستقبلية، ومن المحزن أن كل ذلك قد تم بدون روية أو بينة فاصلة .

لقد انكب صفوة الصفوة من قضاة مجلس الدولة ولمدة عام تقريباً يدرسون ويبحثون ويدققون في كل التفاصيل، وصدرت عنهم علي التوالي وثائق ذهبية صيغت بحرص القاضي الدؤوب علي إحقاق الحق، وبآناة العالم بأهمية كل حرف وفاصلة، فكانت الوثيقة الأولي التي أعدها قضاة هيئة المفوضين لمحكمة القضاء الإداري، ثم جاءت الوثيقة الثانية وهي الحكم الذي جاء شاملاً كاملاً وافياً وتلاه رئيس المحكمة القاضي الجليل / يحيي الدكروري ، ثم وبعد طعن الحكومة علي الحكم الأول، صدرت الوثيقة الثالثة عن هيئة المفوضين مرة أخري كي تثبت الأحكام وتؤكد المبادئ التي استند عليها الحكم الأول، ثم حصحص الحق وانجلي في اروع وأدق الوثائق القانونية ربما في تاريخ القضاء المصري بشهادة كل من يدرك قيمة القانون، وكانت الوثيقة الرابعة التي تلاها رئيس المحكمة الإدارية العليا القاضي الجليل / أحمد الشاذلي، وهي الوثيقة الحاسمة التي كان ينبغي أن يتوقف عندها أي فعل أو قول ، فهي حكم نهائي وبات، تناول تفصيلاً كل ما عرض علي هيئة المحكمة من دفوع وأدلة، وهذا الحكم ملزم وبشكل نهائي لكل سلطات الدولة وفقاً لنص الدستور .

لم يكن من الإنصاف أن تغلق أمامنا كل نوافذ الإعلام، وتتاح فقط لآراء حفنة ضئيلة رأت لسبب أو لآخر جواز التنازل عن أرض الوطن، فضلاً عن أغلبية كاسحة في البرلمان ترفض حتي مجرد الإستماع لوجهة النظر الأخري بما يمنح المنافحين والمدافعين عن تراب الوطن الفرصة الكافية، رغم أن هؤلاء نجحوا بتفوق في إثبات سلامة موقفهم في ساحات القضاء.

ولا شك أن دارسي القانون والعلوم السياسية يدركون أن إعتبار السلطة التشريعية محصنة بشكل مطلق في قراراتها يتنافي مع روح القانون، ولا يمكن إستبعاد إحتمال سيطرة أغلبية ما نتيجة لظروف تاريخية وسياسية معينة، دون أن تكون بالضرورة مؤهلة تماماً كي تتخذ القرارات المصيرية التي تتعلق بحقوق الشعب، وخاصة حين يثبت تواتر قراراتها أنها تابعة بشكل مطلق لأهواء السلطة التنفيذية وبغض النظر عن المصالح الجوهرية للشعب، ففي هذه الحالة يكون مبرراً أن يصدر قرار بحل هذه السلطة أو أن يدعي الشعب لاستفتاء خاص، أخذاً في الإعتبار الظروف المتضاربة التي صدر فيها الدستور، وكذلك القانون الذي تم علي أساسه إختيار المجلس الحالي، وهو القانون الذي أجمعت القوي السياسية علي رفضه لملاحظات ثبتت اليوم صحتها .

ولا أريد هنا أن أعيد نشر ما تضمنه الحكم الأخير للمحكمة الإدارية العليا، فهو متاح لكل من يهمه الأمر، ولكنني أذكر أهل الحكم أنه في مصر وفي ظل الإحتلال البريطاني، وأثناء مناقشة مشروع دستور 1923، رفض الإتجاه الغالب في الفقه ما تضمنته المادة 125 من أن تكون السلطة مطلقة اليد في التصرف في أراضي الدولة، وقد اعترض عبد العزيز فهمي بقوة علي ذلك، وذكر أن ذلك يمثل : " خطرا علي حقوق البلاد ، ويكفي ما قاسته في الماضي من التفريط في هذا الموضوع" ..

ولعلكم تابعتم لغة الشماتة والتجريح التي استخدمها البعض بعد صدور حكم المحكمة الدستورية العليا الأخير الذي لم يعتد بحكم أعلي محكمة إدارية في البلاد، وطرح كل ما جاء في أحكام القضاء الإداري والإدارية العليا وكأنه لم يكن، بل أن تعليق الحكم علي نظرية أعمال السيادة لم يلتفت إلي سوابق الدستورية نفسها في أن المحكمة المختصة هي التي تحدد الأمور التي يمكن إعتبارها من أعمال السيادة، والمدهش أن القضاء الإداري قد فصل هذه المسألة تفصيلاً دقيقاً ومحكماً في قضية تيران وصنافير، بشكل سوف يسجل في التاريخ القضائي بأحرف من ذهب ..

أنهم يسخرون من أبناء مصر الذين هبوا بكل سلمية دفاعاً عن تراب وطنهم، ولم يلجأوا إلا إلي قضاء بلادهم الشامخ، وعانوا أشد المعاناة التي وصلت إلي السجن وما هو أقسي، أنهم يستضعفون هذا الشعب، يظنون أن شعب مصر يرضي أن يرسف في أكبال العبودية والهوان، ولا شك عندي في أن من يروجون لمثل هذه السخافات يحاولون إيقاع أهل الحكم في زلل نسأل الله أن يعفيكم منه، فما ربحت تجارة أي حاكم احتقر أمته وداس علي كبريائها، بل أن من يفعل ذلك ينكث عهده ولا يبر بقسمه في إحترام الدستور، حيث يصبح هذا الدستور مجرد قصاصات من الورق لا قيمة لها .

فإذا علمنا أن هذا الدستور هو أساس شرعية النظام، فأن الحط به وانتهاكه هو انتقاص خطير لهذه الشرعية، بل هو أول معاول هدمها المؤكد .

يا أولي الأمر الكرام .. أن الله لا يستحي من الحق، والحق أحق أن يتبع .. والحق هو أن أغلب القرارات التي اتخذت، وأخصها قرار التنازل عن تيران وصنافير هو سلب بيَن لحقوق الشعب بالباطل .. إلا أننا لا زلنا نحسن الظن بمن نال شرف الجندية ومنحه الله شرف أن يكون في موقع اتخاذ القرار، فلابد أن مروءته تأبي إذا تنبه للخطأ أن يسارع إلي إحقاق الحق وإزهاق الباطل .

إذاً السؤال المحوري هو: هل تكون مع الحق أو ضده؟، وإجابة هذا السؤال قد تنقذك إذا ما أدركت أمانة الطرح وما يحتويه من إخلاص، وقد تنزل بك وبالدولة إلي مهاوي أخطار قد يصبح من الصعب تداركها.

عهدي بكل عسكري منضبط أنه أقوم خلقاً وأكبر نفساً من أن يواصل الخوض في طريق محفوف بالباطل ونهايته لن تسره ولن تسرنا، وأن التراجع عن قرار خاطئ، والإنسحاب من موقع خطر يمثل أعلي درجات القيادة والفهم العسكري الصحيح.

قد ينصحك الناصحون بإهمال هذا الخطاب بل ربما يوغرون صدرك بإنزال أشد العقاب بمن كتبه، وأنت تملك ذلك بلا شك، ولكنك لا تملك ولن تملك أبداً السطور التي سوف تكتب في التاريخ، كما أنك قد تفقد ربما الفرصة الأخيرة في الإنصات لنصيحة مخلصة ممن لا يملك سلطة أو سلطانا، ولا يبتغي مقعداً في دنيا زائلة يغادرها راجياً فقط مرضاة الله .

أن شعب مصر – في النهاية – هو صاحب الحق الأصيل بالواقع والقانون، وما أنتم إلا وكلاء بأجر لا يجوز لكم الإنحراف قيد أنملة عن صيغة العقد الذي هو نصوص الدستور، والفقرة الثالثة من المادة 151 من الدستور تحظر علي الكافة إبرام أي اتفاق يتضمن التصرف في أي جزء من أرض مصر .

أن أرض مصر ليست إرثاً لكم أو لغيركم كي تتصرفوا فيها كما تشاؤون بادعاء حق السيادة الذي هو حق أصيل لشعب مصر، هذه الأرض المقدسة ملك علي الشيوع لكل مصري منذ فجر التاريخ وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد أثبتنا أمام القضاء وبكل وسائل الإثبات أن تيران وصنافير مصرية، ولن تكون بعد الحكم النهائي والبات للمحكمة الإدارية العليا إلا مصرية .

أتحداكم أن تفتحوا النقاش العام لهذه القضية وغيرها من القضايا المتعلقة بالحقوق السيادية لهذا الشعب والتي تم الإعتداء عليها في كل زمان، ولا تنصتوا لمن يحاول إقناعكم بأن أمور الدولة لا يصح إطلاع الناس عليها، فلا يمكن للوكيل أن يخفي عن موكليه أي موضوع بحجة أنه سر يجوز حجبه، أو لحمايته من الأشرار .

يا سادة .. الحلال بين والحرام بين، والحق أحق أن يتبع، وليس بعد الهدي إلا الضلال ، فبيضوا صحيفة تاريخكم ولا تتبعوا شياطين الإنس الذين غلبتهم الأهواء وعوامل الضعف والهوان، يزينون لكم العزة بالإثم .

------------------

* مساعد وزير الخارجية الأسبق






اعلان