17 - 07 - 2024

السفير معصوم مرزوق يكتب: رقص في سرادق للعزاء!

السفير معصوم مرزوق يكتب: رقص في سرادق للعزاء!

آآ 

البقاء لله ..

ذلك هو كل ما يمكن قوله بعد إنتهاء أيام الإنتخابات الرئاسية، وأكتب هذه السطور يوم 30 مارس 2018 لمجرد التسجيل كما أعتدت علي مر عمري، وربما فكرت في نشر ما سأكتبه، وربما احتفظت به لنفسي، فلقد أصبحت الكتابة مغامرة كبيرة، بينما صار النشر نوعاً من الإنتحار، في أجواء رواية العظيم جورج أورويل (1984) .. وقد توحي لي هذه الرواية برواية أكتبها بعنوان ( 2118 ) أستشرف فيها أحوال المحروسة بعد مائة عام !! ..

علي كل حال، يطلق الناس عادة علي هذه المناسبة "عرس ديمقراطي"، وفي حالتنا توافرات كل شروط "العرس" من طبل وزمر ورقص، رقص كثيف، ولكن العريس غائب (الديمقراطية)، والمعازيم (الشعب) للأسف لم يحضروا، وتحولت مقار التصويت إلي نوع من سرادق العزاء يتقدم فيها من يذهب بالعزاء .. العزاء في الديمقراطية، العزاء في الفهم الصحيح للسياسة، العزاء أيضاً في القيم والأخلاق .

لقد كنت أحد من تحمسوا قبل عام لحض القوي الوطنية المدنية علي أهمية الإستعداد للمشاركة في الإنتخابات الرئاسية (بل وفي كل إنتخابات قادمة)، علي أساس أن تلك هي الساحة المتاحة لممارسة حريتنا في التعبير بعد أن أغلقت كل المنافذ، واكتظت السجون بشبابنا لمجرد أنهم تجرأوا بالإعراب عن آرائهم، بل أنه تم القبض علي طفل لأنه يرتدي قميصاً مكتوب عليه "تيران وصنافير مصرية" ! .. وكان رأيي أن المقاطعة تحرمنا من منصة هامة لمقارعة النظام وإثبات فشله وخطورة إستمراره، من الواضح أن الفرصة كانت سانحة حيث تراجعت شعبية الرئيس الحالي بشكل كبير بعد سياساته الإقتصادية الخاطئة التي أضرت ببناء الإقتصاد المصري ربما لسنوات عديدة قادمة، فضلاً عن صدمة المواطنين في إصرار النظام علي التخلي عن تيران وصنافير رغم حكم نهائي بات للمحكمة الإدارية العليا يلزم كل السلطات الأخري في الدولة، بالإضافة إلي السياسات القمعية التي حولت الدولة إلي دولة بوليسية بامتياز، وحاولت إعادة زرع الخوف في نفوس المواطنين بعد أن نجحت ثورة 25 يناير في إزالة جدار الرعب والذل الذي كانت تحيط به السلطة نفسها .. إلخ .

لقد كان من الممكن لجبهة وطنية مدنية جيدة الإعداد والتنسيق أن تساند مجموعة من الأسماء المرشحة، وتدع لهم الفرصة في إعتلاء منصات مختلفة في كل المحافظات بوصفهم مرشحين محتملين، مع تزويدهم ببرامج بديلة ومشروعات متكاملة لعرضها علي المواطنين، ثم ومع إقتراب موعد التقدم للترشح، تقوم تلك الجبهة بسحب كل الأسماء ما عدا مرشح واحد فقط يتم مساندته بكل قوة .. وأظن أن تلك الخطة كان يمكن أن تكون ناجعة لو سمح لها بالتطبيق ..

ومن المؤسف أن ذلك لم يحدث، بينما استدارت السلطة بكل أذرعها الإعلامية التي التفت كثعابين تنتهك خصوصيات العديد من الشخصيات التي يحتمل أن تنافس، وتقوم بإغتيالها معنوياً، مع كم من البذاءات والشتائم والأكاذيب التي لا يمكن أن يحتملها أي إنسان له مروءة وكرامة، خاصة إذا كانت السلطة تسبغ حمايتها علي تلك الأذرع المشوهة .

ومن ناحية أخري قامت السلطة بشكل متعمد بمد حالة الطوارئ في أول العام، وكأنها تصر علي مصادرة الحريات وممارسة كل وسائل الضغط علي المعارضين بحيث يختنق المجال السياسي ولا يتاح لأحد أن ينفذ كي يتقدم للترشح، وهكذا أيضاً تم سجن العقيد أحمد قنصوة لتجرئه علي الإعلان عن رغبته في الترشح، وكذلك الفريق سامي عنان، ومعهم رئيس جهاز المحاسبات السابق المستشار الجليل هشام جنينه .. وكلنا نعرف ما حدث مع الفريق شفيق .

وعندما لم يتحقق الإنسجام المطلوب للجماعة الوطنية لتنفيذ الخطة المشار إليها أعلاه، قمت بتأييد ترشح المناضل المحامي الشاب / خالد علي، والذي كان رفيق المعركة القضائية الظافرة للدفاع عن حقوقنا في تيران وصنافير .. ورغم أن السلطة كانت قد سلطت عليه دعوي قضائية صدر فيها حكم بالفعل، إلا أنها أيضاً حاصرته وحاصرت أنصاره بشكل دفعه في النهاية إلي الإعلان عن انسحابه من المعترك ..

وبعد حركات أكروباتية بهلوانية في اللحظات الأخيرة قبل إغلاق باب الترشح، لهثت السلطة وأشياعها وأتباعها للبحث عن أي مرشح حتي لا ينافس السيسي نفسه في الإنتخابات، وقال بعضهم بصراحة أن المسألة تتعلق فقط بالشكل والمنظر (ومش عاوزين منظرنا يبقي وحش امام العالم!!) .. وبعد محاولة مجهضة مع رئيس حزب الوفد السيد البدوي الذي سارع بإجراء الكشف الطبي حتي قبل أن يعرف رأي هيئته العليا (التي رفضت بعد ذلك وأنقذت سمعة الوفد)، تم التوصل إلي سياسي مغمور يرأس حزب الغد للتقدم للترشح رغم وجود شكوك قوية تتعلق بمؤهله الرئاسي .. واستقر الأمر عليه في النهاية وقبل إغلاق باب الترشح بسويعات!! ..

ورغم شهور القصف الإعلامي المستمر، والعزف المنفرد المتواصل للرئيس علي أنغام الإنجازات وأحلام المستقبل المبهر، فأن أغلب لجان التصويت كانت فارغة خلال أيام التصويت الثلاثة، ولجأ كل الحواه إلي وسائل الترغيب والترهيب التي رآها شعب مصر والعالم وامتلأت بها صفحات التواصل الإجتماعي بشكل لا يمكن إنكاره، وببعض المظاهر المخزية فعلاً، وهي وسائل قد أكتب عنها فيما بعد .

لقد أرسل الشعب رسالته واضحة قوية سواء في تصويت الخارج أو في تصويت الداخل، ومن المدهش أن المشرفين علي عملية الإنتخابات لم يذكروا أي بيانات عن تصويت الخارج بعكس ما حدث في الإنتخابات السابقة، حين كان يتم الإعلان كل ساعة عن أرقام الآلاف التي تصوت للمشير السيسي في سفاراتنا في الخارج .

وأرجو أن يكون واضحاً لمن يريد الإستمرار في حالة الإنكار المرضية أن هذه المعركة لم تكن معركة إنتخابية، وذلك علي أي حال ما ظلت تردده وسائل الإعلام طوال الأشهر السابقة بلا توقف، وكأنها توعز للناس بأن الرئيس الحالي سوف يفوز علي كل حال، بحيث تصبح الأصوات هي تصويت علي آداء الرئيس أي مجرد إستفتاء عليه .. والحقيقة أن الرئيس نفسه استخدم ذلك المقترب عندما كان يحث الناس علي الحشد بينما يذكرهم بتفويض 26 يوليو 2013 .. أي أن المعيار الذي فهمه الجميع هو القدرة علي الحشد، وبهذا المعيار نفسه الذي روجت له السلطة ، تثبت النتائج علي الأرض أنها رسبت في الإختبار، وأن الشعب في مجمله يرفضها .

وبشكل علمي يمكن التأكيد علي هذه النتيجة:" فشل الرئيس في الحصول علي تأييد لسياساته من أغلبية الشعب المصري" .. وإذا افترضنا صحة حصول السيسي علي عدد 20 مليون صوتاً (وتلك قد تعد مبالغة في نظر البعض)، وحيث أن الأصوات الباطلة تصل إلي حوالي 2 مليون صوت، بينما حصل المرشح المنافس علي حوالي 700 ألف صوت (وهي تعد أصوات عقابية للرئيس الحالي) ، فإذا جمعنا الأصوات الباطلة مع أصوات المرشح المنافس إلي ما تبقي من الأصوات التي لم تحضر يكون الإجمالي حوالي 43 مليون صوتاً، أي أن التصويت المعارض للرئيس بلغ 71%، بينما حصل هو علي ما يقارب 29 % فقط !! ..

ولكنني أسارع بالقول بأن الأرقام وحدها لا تقول كل شيئ، ولا يمكن الثقة في أن تلك الكتلة الكبيرة الصامتة كلها كانت ضد الرئيس، ولكن بالتأكيد هي ليست معه ، لأنه لو كان الأمر كذلك لتوجهت إلي صناديق الإنتخابات .

ومن ناحية أخري لا يمكن القول بأن تلك الكتلة الكبيرة تمثل أي معارضة منظمة، ولكن بلا شك تشتمل علي جزء كبير منها .

التحليل الموضوعي المجرد للأرقام إذا نزعنا منها عمليات الترهيب والترغيب المسجلة فقط ، قد يعني أن الرئيس لم يحصل إلا علي 15 مليون صوتاً فقط، أي أن نسبة الإستفتاء عليه لم تزد علي 25 % من إجمالي من لهم حق التصويت ..

ولا ينبغي لأحد أن يندهش لهذه النسب ، لأن التحليل الطبقي وفقاً لبيانات الحكومة الرسمية يؤكد أن نسبة الفقر وصلت إلي 40% ، وأن الطبقة المتوسطة التي عانت من النحر وغلاء الأسعار ربما استقرت علي نسبة 30% من السكان، ولكنها طبقة متعلمة، وبجمع هاتين النسبتين فأنها تؤكد النتيجة النهائية التي توصلنا إليها وعلي إعتبار أن تلك الطبقات هي الأشد تأثراً بشكل سلبي بسياسات الرئيس.

هذا الدرس الواضح والقوي للشعب يتطلب من النظام ومن المعارضة أن يستخلصوا العبر والدروس ، وربما لا يكون أمام النظام سوي الإختيار ما بين خمسة خيارات :

الخيار الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه "خيار ديجول" وهو الخيار الذي اختاره الرئيس الفرنسي الجنرال ديجول بطل فرنسا، عندما ووجه بمعارضة واسعة عام 1968 ، فلجأ إلي الإستفتاء معلناً أنه لو حصل علي أقل من 60% تأييدا فأنه سوف يستقيل .. وبالفعل استقال عندما لم يحصل علي هذه النسبة .

الخيار الثاني هو ما يمكن أن نطلق عليه "خيار سعاد حسني"، أي "الدنيا ربيع والجو بديع ، قفلي علي كل المواضيع " .. أو بمعني آخر الإمعان في حالة الإنكار ورفض رؤية الحقائق .

الخيار الثالث وهو أيضاً خيار فني، يمكن أن نطلق عليه " خيار الزوجة الثانية "أي أن "الدفاتر دفاترنا والورق ورقنا ... وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول .. وأولي الأمر منكم" ..

الخيار الرابع وهو خيار أدبي، يمكن أن نطلق عليه " خيار جورج أورويل " ، وهو تحويل المجتمع المصري إلي ما يشبه مجتمع رواية 1984، التي يسيطر فيها " الأخ الأكبر " علي كل شيئ بما في ذلك أفكار وحريات وآمال الناس .

أما الخيار الخامس والأخير والذي أتمني أن ينظر إليه الرئيس فهو يستند علي إدراك الدروس الحقيقية لنتيجة الإنتخابات (أو الإستفتاء)، وهو يتكون من خمس عناصر أساسية:

  1. ضرورة إدراك أن مساحات الرفض تزايدت بشكل يهدد بانفجار .
  2. ضرورة مراجعة السياسات وخاصة الإقتصادية والتي لا يختلف أحد علي أنها معادية للفقراء .
  3. إعادة النظر في السياسات الأمنية التي ثبت أنها تؤدي إلي عكس المطلوب ، وأهمية الإفراج عن الآلاف من المحتجزين ظلماً .
  4. فتح الفضاء السياسي وتخفيف القبضة البوليسية علي المعارضة، لأن مواصلة تأميم السياسة بالشكل الحالي هو الوقود الحقيقي الذي يغذي العنف .
  5. التخلي عن أوهام العبقرية والتفرد والأبوية والسلطة المطلقة ، أو كما كان يقول رجل لإمبراطور روما العائد من حملة منتصرة (تذكر أنك مجرد إنسان !) .

والمعارضة أيضاً عليها أن تفهم الدروس التي لقنها شعب مصر للجميع في هذه الإنتخابات، وأتصور أنها يجب أن تدرك أولاً أن مقاطعة الشعب للإنتخابات لم يكن إستجابة لمطالب المعارضة، لأن الشعب لا يراها حتي الآن معارضة حقيقية، ولكن هذا الشعب جاهز تماماً في هذه المرحلة أن يستجيب إذا توافرت قيادة واعية تقدم قيادة حقيقية تسير وفق منهج علمي وعملي وبروح الفريق، تضع في حساباتها عمق واتساع المتغيرات التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية، وأهمية التوصل بشكل توافقي إلي ما يمكن إتخاذه من خطط لمواجهة الوضع الحالي المتردي .

وأتصور أن إستراتيجية قصيرة المدي يمكن أن تشتمل علي العناصر التالية :

  1. بناء نسق جبهوي وطني مدني متجانس .
  2. بحث وطرح عدد كاف من البدائل في مختلف الإتجاهات .
  3. التحرك بجرأة في العمل الجماهيري، لتوفير الإحتكاك المباشر والمثمر مع القواعد الشعبية (وهذا دور شبابي بامتياز) .
  4. الإشتباك إيجابياً مع السلطة القائمة (حتي ولو كانت سلطة أمر واقع)، لدفعها إلي الحوار بدلاً من الإكتفاء بإرسال بيانات الإستنكار والشجب .
  5. العمل الجدي لتحقيق مصالحة وطنية شاملة تستبدل ثقافة الكراهية والصراع بثقافة الحب والتعاون .

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ، فقد يكون بعض ما فيه صواباً يصحح ما لدي السلطة والمعارضة من أخطاء، أو ربما كان خطأ ، فيصحح لي من شاء ما شاء بالحجة والمنطق وليس بالتهديد والإغتيال المعنوي أو ..

---------------
*مساعد وزير الخارجية الأسبق