17 - 07 - 2024

الجيش والدولة المدنية !

الجيش والدولة المدنية !

تخيل بريمر الحاكم العسكري للعراق بعد إسقاط نظام صدام حسين أنه يستطيع من خلال الإدارة العسكرية أن يمارس كل وظائف الدولة التي انهارت ، وكان يتباهي بغرور بإمكانيات الجيش الأمريكي في إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية ، إلا أنه بمرور الوقت أدرك صعوبة بل وإستحالة قيام القيادات العسكرية بتلك المهام المتعددة والمعقدة والتي تختلف تماماً عن طبيعة الثقافة العسكرية وأساليب عملها، وسارعت الإدارة الأمريكية في النهاية بتوظيف أعداد متزايدة من المتخصصين المدنيين من أجل إدارة عجلة الدولة في العراق بنجاح .

كان ذلك هو نفس ما أدركه الجنرال " اللنبي " في مصر بعد ثورة 1919، حين أرسل إلي ووزير خارجيته " كيرزون " يحذره من إستحالة نجاح أي إدارة عسكرية لشئون الحكم المعقدة التي تتطلب خبرات معينة لها تراكم وتراتيب تختلف تماماً عن أسلوب عمل القوات المسلحة .

إدارة مجتمع مدني تختلف تماماً عن إدارة معسكر للجيش، فلا تصلح قواعد الضبط والربط والإنضباط العسكري في سياسة أمور مجتمع مدني، وإن كانت بطبيعة الحال تصلح في قمع وكبت المجتمع إلي حين .. ولا شك أن الإدارة العسكرية قد تكون ضرورية في بعض المناطق المنكوبة مثل تلك التي تتعرض للزلازل أو الأعاصير، وذلك لفترة مؤقتة، وتحت إشراف ورقابة السلطة المدنية، فالإحتياج في تلك الحالات الإستثنائية يشبه إجراءات الإسعاف الأولية التي تتم في حوادث الطرق، ولكن لا يتم العلاج الكامل والشافي إلا في المستشفيات العامة ذات الطبيعة الشاملة .

وذلك ليس عيباً في شخصية القائد العسكري، فهو بلا شك، وفي حدود تدريبه وإمكانياته، يجب أن يتحلي بقدرات إدارية خاصة تتيح له "السيطرة" علي المرؤوسين وإحترامهم له حتي وإن لم يحبوه أو يفهموا أسباب أوامره، ويحتاج في ذلك أحياناً إلي إستخدام الشدة والقسوة، وبشكل قد يصل إلي حد السادية بشكل مؤسف مع بعض الشخصيات المريضة، وهي صفات وأساليب يتفاداها المدير الإداري الجيد في الحياة المدنية، فهو " يسيطر " علي المرؤسين من خلال قوة النموذج ونشر أكبر قدر من التفاهم حول طبيعة العمل، وهو يؤمن بضرورة العمل كفريق، ومن خلال داء ديمقراطي لتحقيق الأهداف المتوخاة من المنشأة المدنية، وهو لا يملك – قانوناً – إستخدام القسوة أو الشدة بأي صورة من الصور مع مرؤوسيه، بل قد يحاسب ويعزل من وظيفته إذا لجأ إلي ذلك .

ذلك كله مفهوم في ضوء طبيعة المهنة الخطرة التي يتم إعداد الضابط لها، فلا يمكن مثلاً أن نتصور موقفاً في ميدان القتال يرفض فيه الجندي تنفيذ أمر قائده "لأنه غير مقتنع به"، فأسلوب العمل هنا يشبه حالة إرسال بدون إستقبال، أي إرسال أوامر دون إنتظار تعليق عليها أو تأجيل في تنفيذها .. ذلك أن أي تردد في التنفيذ قد يكلف الوحدة خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، بل قد يؤدي إلي الهزيمة ..

ورغم التعقيدات العديدة التي توجد في ميادين القتال، إلا أنها في النهاية تأخذ أشكالاً بسيطة في تركيباتها المختلفة، وسواء علي المستوي التكتيكي أو الإستراتيجي، يدور البحث الدائم عن مجموعة من الإجابات علي أسئلة محددة لا يتجاوزها العلم العسكري، منها مثلاً دراسة أرض المعركة، وأوضاع قوات العدو، وأساليب الهجوم والدفاع وفقاً لكل حالة علي حده، وكذلك بعض الإعدادات اللوجستية .. وذلك لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بشبكة التعقيدات في الحياة المدنية والتي تتناول باختصار كل دقائق حياة الإنسان وعلاقاته المتشابكة في المجتمع منذ ميلاده وحتي وفاته، ومثال واحد فقط قد يشير بجلاء إلي مدي تداخل وتعقيد تلك العلاقات إذا نظرنا مثلاً إلي مبدأ "تحقيق العدالة الإجتماعية" بكل أبعاده الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية والنفسية .. بل وجذوره التاريخية في مجتمع بعينه، بل ويكفي المقارنة بين قيادة وحدة من الوحدات العسكرية، وقيادة إحدي المؤسسات الإقتصادية الكبري، الأولي هي سلسلة من التراكم التراتبي في القيادة يمكن رصد وقياس الداء من خلال خط مستقيم للأوامر العسكرية من أعلي لأسفل، بينما تتميز الثانية بإدارات مختلفة يتعلق بعضها بالتخطيط والبعض الخر بالتنفيذ والبعض الثالث بمراقبة الجودة والبعض الأخير بمشروعية الأداء وكفاءته.

الجيش مؤسسة من مؤسسات الدولة ، أي أنه بداهة ليس الدولة، ولكن البعض يخلط عامداً أو غير عامد بين " أنظمة الحكم العسكرية " و " الدولة العسكرية "، فمفهوم "عسكرة الدولة" من خلال أنظمة حكم عسكرية Militarism ليس مفهوماً بلا تاريخ، ويمكن أن توصف به كل الدول التي تعتمد سياسات القوة في علاقاتها الخارجية، ويمكن أن نضرب أمثلة من عمق التاريخ علي هذا النوع من الحكم مثل الإمبراطورية الرومانية، وفرنسا في عهد نابليون بونابرت، وهو النظام الذي اعتمده هتلر وموسيليني في منتصف القرن العشرين، وهو نظام الحكم الحالي في كوريا الشمالية .

ومن أهم مواصفات هذا النظام أنه يعتمد سياسة رفع الجيش إلي مكانة خاصة في المجتمع والإفتخار به، مع تمتع قياداته وضباطه بمكانة رفيعة واستثنائية داخل المجتمع تمثل طبقة قائمة بذاتها لها إمتيازات وحصانات، ويكون للجيش دور بارز في إدارة شئون البلاد .

أما " الدولة العسكرية " فهي بإختصار " الدولة المعسكر " حيث تسيطر الأساليب العسكرية علي كل مناحي الحياة، أو هي ما يطلق عليه Stratocracy " ستراتوكراسي ( حيث ستراتوس تعني الجيش، وكراتوس تعني السيطرة أو السلطة ) ، وهي تختلف عن أنظمة الحكم التي يقودها مجموعة من الجنرالات، حيث أنها تعني " عسكرة " كاملة للدولة بكل منشتها، ويكون الدستور والقوانين داعمة لهذا النوع من التحكم، ويلاحظ كذلك أن المجتمع نفسه تكون لديه القابلية لهذا النوع من الحكم، وأبرز نموذج لذلك هو دولة أسبرطة القديمة .

ويمكن أن نضيف إلي النوعين السابقين نوعاً ثالثاً يتلخص في نظام سياسي وإقتصادي فاسد يختفي خلف القوة العسكرية التي لا تحكم في الواقع وإنما يتم إستغلالها في حماية دولة الفساد والمحاسيب، حيث تبدو الواجهة عسكرية مع بعض الإمتيازات الخاصة للقيادات العليا ، بينما الحاكم الفعلي للبلاد هو الفساد وطبقة السماسرة والكومبرادور .

وتكون الدبابات والمدرعات هي سلاح هذه السلطة الفاسدة المستبدة عندما تواجه القوي الوطنية المدنية، التي لا تملك في النهاية سوي سلاح واحد هو " الشعب " ، فإذا أحسنت إعداده وأمدته بذخيرة معلومات ومعنويات فأنه يكون السلاح الأقوي والأمضي والمنتصر في نهاية المطاف .. وذلك علي كل حال حديث خر ...

---------
* مساعد وزير الخارجية السابق