18 - 09 - 2024

د. سعيد شوارب شاعر يكتب على صدر الريح ويعتَرفُ الآن: "أحلامي بلون الأرق"

د. سعيد شوارب شاعر يكتب على صدر الريح ويعتَرفُ الآن:

قليلة هي الخيول التي تبلغ المراحل النهائية للسباق، وقليل مِن الناس مَن له وَقعٌ خاص في روحِك لا يُزاحمه أحَد، ومحدثنا ليس عالِماً جَليلاً تجلس إليه؛ أو فقيها في لغتنا الجميلة؛ أو شاعراَ تقرؤُه؛ أو أديباً أريباً تستمتع بالإصْغاء له؛ لكنه فوق ذلك كلِه؛ فِكْرٌ خَصبٌ، وعَطاءٌ سَمْحٌ، وقلبٌ تَعمُره روحُ النهر، فما يكادُ طَيفه يمرُّ بالذاكرة حتى تنهض الرُّوحي نخيلاًلذلك العالِم الجَليل رفيع القَدْر والقِيمة والمَقام.

رغم مكانته العِلمية والفكرية والأدبية السامقة؛ إلا أنك -لفرط تواضعه- حين تكون في حَضْرته يُشعِرك أنك عظيمٌ مثله؛ إنْ لم يُوهمُك أنك تفوقُه! هكذا دأْب العُظماء الأجِلاء،شديد الوفاء لأساتذته وأصدقائه؛ بل وتلاميذه ومُريديه، يذودُ ويُنافِح عن حِياض اللغة، يَغارُ عليها حَد الكاظمين الغَيظ، وكيف لا وهو شَيخُها وخَبيرُها بمَجمع اللغة العربية بالقاهرة؛ السَّابر لأغوارها، لكن سَمْته الهادئ الرَّصين تَجعله يتحسّب لكل كلمة؛ فيُوجه ويَنصح ويُرشد؛ وصدره يَمور ويكاد يتَميز من الغيظ -دون أن تَشعُر- حيال كل من لا يُقَدِّر الجميلة ولايُنزلها مكانتها اللائقة.

"المشهد" تحاور د.سعيد شوارب وتسأله بداية عن إبداعه الشِّعري فيقول:

اقتربت دواويني من العشرين عدداً منها: خيوط من قميص يوسف، الكتابة علىصدر الريح، لغو العصافير، ما قالت الريح للنخيل، أعترف الأن، أحلام بلون الأرق، رباعيات مصرية، نهرٌ واثنا عشر كوكبا، القدس عتاب اللحظات الأخيرة، الأعمال الكاملة، سطور في صفحة القلب، الإبحار في الممنوع.. وغيرها، قلت في واحدها:

كتَمَ النّارَ ليبدو يَومهُ

صابراً، لكن، تولَّته الليال

فإذا ما عصَفَ الشوقُ به

غلبَ الجَّمرُ على الدَّمع فَسالْ

لا مقالٌ في مَقامي هاهنا

ليس في كلِّ المَقامات مَقالْ

كذَبوا، كلُّ المجازات هُنا

لا تُساوي دَمْعةً في الاشتعالْ

أيُّ سرٍّ فيكِ يستَعْبدني؟

كيف لي أعشقُ هذا الاحتلالْ؟

كاتبيني، أشتري حُرِّيتي

ليس مالٌ يَشتَري العُمرَ بمَالْ

*شعر الفُصْحى هَواك ومَوهبتك وعِشقك، تُضيئُه بلغتك الفَخيمة، تُدلِّل الحرْف حتى ينسابَ شِعراً رقْراقاً، حرْفُك مِن خُشوع؛ مِزاجُه من تَبتيل، ويكأنَّكتنثرُ السَّكينة بحرْفك المُعطَّر بنفحات اليقين لتهبَنا قَبساً مِن نور الإيمان، فما أعذب التِطواف بين بساتين اشْعارِك؛ وأنت العالِم صاحبُ البَصيرة والرؤية الخاصَّة، والأديب الذي تسامَق شَأوه؛ وتسامتْ مكانتُه وأنت ترقى بالأدب إلى حيث يجب أن يكون؛ مُدرِكاً أنَّ الإنسان وإنْ كان أسرع شئ عَطباً؛ إلا أنَّ الفن والأدبَ الراقي أنْجعْ وسيلة لإصلاحِه.قل لنا كيف تُناجي محبوبتك؟

محبوبتي هي وطني أقول لها:

لماذا تأخَّر ضَوء النَّهار؟

أليس يُفيق إذا لم تُفيقي؟

أفيقي، فإنَّ نَسيم البكور

له إذْ تغيبين طعم الحَريق

أفيقي، فإنَّ شَهيق القصيدة

دونَكِ، مثلُ شَهيق الغَريق

أفيقي فإنَّك صَحوُ الحقول

وضحكُ الفَراش وهمسُ الحريق

أفيقي، فإنَّكِ شَوق الغَمام

ليُرضعَ شعْري حليب البُرُوق

* دواوينك تغمرنا بحالة من الامْتِنان والفَرح والدَّهشة بحروفها النَّدية، حين تستوي اللغة معك على سُوقِها -وكيف لا وأنت الأزهري الحاصل على الدكتوراه من كلية دار العلوم بمرتبة الشرف- حين تتسَربَل بها تنثُرَ نَداها على أغْصان الكَلِم كالزَّهر في رَبيعه بشِعْرك المُمتلِىء بمباهج الحِكمة والنَّصيحة والغيرة على الوطن، لتضعنا وسْط رياضٍ مِن لغة الجَمال الذي مرَّعلى عصورٍ منَ الأدبِ المُصَفى. فهل تشدونا من بريق حرفك؟

يفتر فاه عن ابتسامة ودودة قائلاً:

تركتْني أمنيات رحلتْ وهوىً ولَّى وحُزناً سَكنا

وبقايا نوْرس مُنتحب يسأل الموج ويبكي السُّفُنا

أوبقايا مُدن مَحروقة خانها الدَّهر، وكانت مُدنا

كلُّ شيء غاب حتى زمني، أخْبريني، قد فقدتُ الزَّمنا

وتغربتُ فهل من وطنٍ؟ ويلتي عَيناكِ كانتْ وطنا

أحبسُ الدمْع وحُزني مطْلق هٍ من سِري ومما أعْلنا

هل أنا أهربُ مني؟ ليتني قادرٌ أهرب مني... ليتنا

أيها الشاطئ هل تذكرُني؟ إنني ما عْدت أدري من أنا

سوف ابْقى هاهنا مُنتظراً عَودة النورس ريَّان المُنى

ليت للبراق عَيناً فترى ما أُلاقي من بَلاء وعَنَا

* يحملُ كاهِلك بحراً وافِراً من العِلم والأدب وفِقه اللغة والبَيان؛ دَوَّنَتها في دواوينك العشرين من شِعر الفُصحى، والعديد من الدراسات النقدية والبحثية؛ ومساهماتٍباذِخة في إنشاء صروحٍ ثقافية وإعْلامية هامَّة في العالم العربي خاصة الكويت، نِلتَ عنها أرْفع الأوسِمة والتكريمات، ومع ذلك أحببت أن تخوض " الرباعيات"، فحدثنا عنها.

الشِّعر لدي-خاصة الرباعيات- تتجاوز اللحظة العاصفة التي كُتب لها، لتصبح تجربة مسافرة عبر الزمن كله والمكان كله، ورباعياتي تجربة جديدة أسعدتني؛ أهديها لروح الشاعر الفذ صلاح جاهين:

أنا قلت أقوم .. واسبح في نور القمر

واسمع موسيقى الكون وهمس الشجر

واحد شاور لي، وقال لي: يابن الحلال

كيف الجمال يظهر.. وقلبك حجر؟!

* أسأله: ترسل رسائلك لمحمود درويش تلومه بقولك:"كيف تركت الحصان وحيداً"، وأبي فراس الحمداني لأنه:"عصي الصبر أضلاعه الجمر لا يطفئه جمر لأنه لم يستمع لنصائحك"! وصلاح جاهين مُشيداً بـ "فروسيته في ميدان الرباعيات".. كيف تكتب قصائدك لكل هؤلاء على اختلاف مدارسهم الشعريةوكيف أحطت بهم خُبراً؟!فيجيبني:

لا تسأليني كبف قلت قصيدتي

لا تعرف الأقمار كيف تدور

لا تعرف الأزهار كيف عبيرها

أو كيف ترقص فوقها العصفور

لا يعرف العصفور أن جناحه

من معجزات الخلق حين يطير

فقصيدتي كالنخل، يكتب قصة

للحب ، حين يجيئه الزرزور

لا يُسأل الزرزور كيف يجيئه

أو كيف طار جناحه المغرور

* أسأله أخيراً: وماذا عن "حرفان من البوح" للعم صابر؟

كل قصائدي بوح تعرفينه من عناوينها: ماذا يقول الصمت؟، في انتظار السكين، ذاكرة الغياب، إعادة ذبح الطاووس، أهينُ نفسي مرتين، في ساحة العشق، شراع لقصائدي، أما عن العم صابر فقد قلت له:

أيها الأمل الطاعن في تيه المنافي

تحت أهدابك ينمو في التحاريق شراع قزحي

فيه روح الفيضان

لم تزل عيناك رغم العطش المقتول

ينمو فيهما نخل.. ورمان.. وخيرات حسان

لم تزل أُذناك في قصف العاصير

وفي خسف الجنازير

يدوي فيهما لحن كأصوات الأذان

خلفك البحر وفي وجهك إعصار من الصبار

يعوي فيك كالأشباح من كل المسافي

عينان بصحراء الأسى نضاختان

"صابر" بسمَتكَ.. لغز

مهمومةٌ أنا بتكريم من يستحقون وهُم على قَيد الحياة؛ على قَيد الإبداع؛ على قَيد العطاء ذي البصمة الحقيقية، والإبداع اللافت الهادف الراقي؛ والتي يبْغي أنْ نحيا إنسانيتنا بنُبلٍ أكثر وجَمال أوفر، فما بالنا بسعيد شوارب الذي "يرتكب الكتابة على صدر الريح" كما قال عنه أحد أساتذة النقد مضيفاً:"ممتلئ هو بنوازع النفوس وهمسات القلوب وأشجان الوطن وهمومه التي لا تفارقه وكأنها حقيبة سفر، محاصر بالأسئلة التي لا تعرف الحلول، لا يتوقف عن تصدير الأسئلة الأشد فتكاً، مكسور القلب مهزوم الروح، كل لواعج العارفين والزهاد وأهل التباريح عاشوا قلقاً لا ينقضي، وهذا الشوق المحترق أنتج فناً حقيقياً وتجارب سافرت لتمنح الإنسانية معالم على الطريق.