27 - 09 - 2024

عروس البحر .. قصة قصيرة بقلم د. محمد مصطفى الخياط

عروس البحر .. قصة قصيرة بقلم د. محمد مصطفى الخياط

فى غبش الفجر، يلوح من بعيد سرب طير أسود اللون، طويلة رحلته، محددة وجهته، ثابت ارتفاعه. بالقرب من الشاطئ، تفرد النوارس أجنحتها الرمادية، تنظر بعينين ثاقبتين فى الماء، تجذبها أسماك فضية تسبح جزلة غافلة عما حولها، تغرس النوارس مناقيرها المدببة فى كبد البحر، تغوص بقدر بُعد أهدافها، ثم تخرج رافعة رأسها بفرحة طعام شهى يلمع فى ضوء الشمس. على مسافات متباعدة يقف صيادو الخلول فى قلب الماء، شغلهم الرزق عن البرد، وعلى البعد تلوح فى الأفق البعيد سفن عملاقة تلمع أنوارها رغم الضباب.

يمتد شاطئ بورسعيد هادئاً فى الصباح، صاخباً عند الظهيرة. كرسيان متجاوران ينتظران حبيبان أو صديقان يخرجهما من خجل الصمت إلى البوح الجميل. صوت الموج يملأ فضاء تعبقه رائحة يود بالغ النقاء والطزاجة. منذ ملايين السنين والبحر يدفع موجه تجاه الشاطئ، فلا الموج استقر، ولا البحرُ كَلّْ. مركبان صغيران يزهوان بملاحين يفردان شِبَاك الرزق الحلال، يدندنان فى صوت متناغم مسموع "الرزق على الله". بضع مراكب سحبتها يد الصيانة إلى الشط، تشرأب بأعناقها نحو الماء تتلهف لحظة معانقة الموج وشهقة ملامسة الماء البارد فجراً، تحن إلى رتابة ضربة المجداف وفرحة المراكبى بالشبكة العامرة بالسمك.

على بعد أمتار من الشاطئ تتناثر عشش العمال البسطاء. ريثما تجد ما يشغلها، تعبث الريح بنوافذها، تلهو بحبل غسيل عُقد طرفه فى عامود خشبى يسار باب عشة الريس حسن وطرفه الآخر فى حديد الشباك، بامتداده أمام باب عشته، يمنحه حبل الغسيل خصوصية وستر إذا فَتح بابه. إلى جوار العشة جِرَاء مختلف ألوانها لا تكف عن مشاكسة قطة رمادية، ألِفتهم وألفوها، بينما جثمت أمهم تتابعهم فى طمأنينة وسلام.

تغسل الشمس دكة الريس حسن كل صباح، يجلس مُسنداً ظهره إلى جدار العشة، يحيك شبكته بيمينه بينما عَلَقَ بإبهام قدمه اليسرى طرف الشبكة الثانى. تُرى كم اشتكى للبحر فكتم السر. خلف وجههة المتغضن البرونزى حكايا لا تنتهى عن البحر ورواده. من حين لآخر، يرفع عينيه تجاه الممشى الممتد بطول الشاطئ، شاب يسابق شَبَابهُ وكهل يجر عمره خلفه. على بعد، يلمح ذات الفتاة تسير وحدها، تتلفت من حين لآخر بحثا عن أليفها، لطالما رآهما معاً، هنا مرا، هنا جلسا، هنا ضحكا، هنا تعاتبا، وهنا دمعت عيناها فى لقائهما الأخير قبل سفره للبلد البعيد. لكم تمنى أن تصبح شِباكه شِباك حب يلقيها على رواد الشاطئ، فلا يفترقون. وكم حَلم بأن تملأ عروس البحر غَزْله وأيامه، فلا العروس ظهرت ولا الغَزْل امتلأ. كعادتها، تلتفت الفتاة نحوه كلما مرت به، بينهما ود  أبوىٌ صامت وخجول. يتنهد الريس حسن، يتمتم بدعاء رد الغائب. يضع خيط الشبكة جانباً، يمد يده إلى هاتفه المحمول، ينقر بضع نقرات، يتهادى صوت محمد عبده مغنياً، "الأماكن كلها مشتاقة لك، والعيون اللى انرسم فيها خيالك، والحنين إللى سرى بروحى وجالك، ما هو بس أنا حبيبى، الأماكن كلها مشتاقة لك"، يتناهى الصوت إلى الفتاة، تمسح خدين بلون الخوخ الطازج، بينما تلمع فى عينيها دمعتان من لؤلؤ وتتعلق عيناها بسرب الطيور المهاجرة.

------------

[email protected]