17 - 07 - 2024

القرار .. وصاحب القرار !!

القرار .. وصاحب القرار !!

كان ذلك في صيف عام 1982 ، خلال ندوة عقدها النادي الدبلوماسي في مقره الذي كان في زمن الملكية " كلوب محمد علي " ، وكان ضيف الندوة هو شخصية بارزة شغلت العديد من المناصب ، وكان أخطرها وأهمها علي الإطلاق ، منصبه كمستشار للأمن القومي المصري أثناء حرب أكتوبر 1973 .. ودخل الوزير محمد حافظ إسماعيل بقامته المديدة ، ورغم تقدمه في السن ، إلا أنه كان معتدل القوام ، يتمتع بحيوية ذهنية وذاكرة حاضرة .

كان الرجل قد وافق علي دعوة مجلس إدارة النادي كي يلتقي بالدبلوماسيين المصريين في سلسلة من اللقاءات حول موضوع " الأمن القومي المصري "، وتحدث الرجل كثيراً عن المعركة الدبلوماسية التي خاضتها مصر قبل قرار شن الحرب ، وروي بالتفصيل عن لقاءاته السرية مع د هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس نيكسون ، وعن المهام التي كلف بها في موسكو وباريس وواشنطن ونيويورك ومدريد ولندن ..

حضرت كل اللقاءات ، وكنت أتابعه بإهتمام شديد، فقد كان يزيح بعض الأستار عن قصة عشت أنا شخصياً بعض فصولها علي جبهة القتال، وخلف خطوط العدو كضابط في قوات الصاعقة، وقاتلت علي مشارف مدينة السويس يومي 23 أكتوبر و 24 أكتوبر عام 1973، أي لمدة يومين كاملين بعد قرار مجلس الأمن 338 بوقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر ..

كنت قد التهمت كل ما كتب في الغرب أو إسرائيل حول ظروف تلك المعركة ، وبعض التفاصيل التي كانت شحيحة جداً لدينا ، كنت مذهولاً من التراجع السياسي المفاجئ الذي أعقب إنجازاً عسكرياً لا شك في مغزاه ، كنت أريد أن أعرف كيف اتخذت القرارات المصيرية في التوقيت الذي أعقب قرار وقف إطلاق النار ، خاصة وأن أغلب جنودي استشهدوا في تلك الفترة التي لم تتجاوز اليومين، لذلك عندما فتح الباب للمناقشة كنت أول من رفع يده ، وقلت للرجل : " لقد قرأنا في مصادر أجنبية، وعلي الأخص كتابات كيسنجر وبعض قادة إسرائيل، كيف اتخذت قرارات الحرب والسلام خلال ذلك الخريف الدامي من عام 1973، ولكننا لم نعرف أي شيئ علي الجانب المصري، وبوصفك كنت في المطبخ السياسي خلال تلك الفترة، أود أن أعرف بالضبط ما هي الأوراق التفاوضية التي كانت في يد المفاوض المصري بعد قرار وقف إطلاق النار، ما الذي كنا نعده لمرحلة التفاوض، أم أن المسألة كانت كما سمعنا مجرد التسليم بأن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، وأننا بمجرد وصول كيسنجر سلمناه كل ما لدينا من أوراق؟" ..

استمع الرجل بصبر إلي سؤالي، رغم محاولة مدير الندوة أن يوقفني، ورغم أن الجميع لاحظوا علامات ألم هائل علي ملامح الرجل، إلا أنه طلب بحزم من مدير الندوة أن يتركني أعرض كل ما لدي .. وما أن انتهيت حتي ران صمت وسكون كامل علي القاعة، وأحني الرجل رأسه وقد أغمض عينيه، لدرجة أن مدير الندوة حاول مرة أخري أن يتدخل ، وقال بأن سؤالي يخرج عن الموضوع، و ... قاطعه الرجل بحزم وحدة ، وقال بهدوء وهو يشير في اتجاهي : " لا أريد لهذا الشاب أن يخرج من القاعة ويقول أن حافظ إسماعيل قد تهرب من الإجابة علي سؤالي .. رغم أن صيغة السؤال نفسها تكشف عن أن لدي هذا الشاب إجابة كافية ووافية، ولكنه يريد أن يسمعها مني .. " .. ثم صمت لبرهة أخري ، ونظر نحوي قائلاً بصوت قاطع : " نعم يا بني .. منذ ذلك التاريخ .. 23 أكتوبر 1973، قرر السيد الرئيس السادات أن يتحمل وحده مسؤلية كل قرار اتخذ بعد ذلك .. دون مشاركة من أحد " ...

لم يكن صعباً أن ألاحظ حجم الألم الذي حاول الرجل أن يكبته، ربما بحجم الفرص التي ضاعت أو كان يمكن إغتنامها لو فكر السادات بشكل آخر ..

وبعد تناول الغذاء، وكنت بين أقراني من الشباب نجلس علي مائدة بعيدة نسبياً عن المائدة التي يجلس عليها الوزير حافظ إسماعيل، وبينما كنت أتعرض من زملائي لتعليقات ساخرة تتوعد مستقبلي الوظيفي بالخطر، فوجئت بأحد السفرجية يطلب مني التوجه لمائدة الوزير .. اضافوا مقعداً إلي جواره ، نظر في عيني تلك النظرة الحادة الثاقبة ، وقال بنبرة رجل إعتاد علي إلقاء الأوامر : " هل كنت في الجبهة ؟ " .. وأجبته بالإيجاب ، ففوجئت به يطلب مني في شغف أن أروي له ذكرياتي في الحرب، وكنت أعرف بالطبع خلفيته العسكرية ، فرويت له نتفاً من المعارك التي شاركت فيها ضمن قوات الجيش الثالث .. قال لي بحنان أب : " أن إجابتي لك لم تكن كاملة .. هناك أمور لم يأت أوان الحديث عنها ، ولقد أردت أن أوضح لك مخاطر إنفراد القائد بالقرار ، ربما تكون تلك شجاعة منه ، ولكن عندما يتعلق الأمر بمصالح بلد وشعب ، فأن ذلك قد يعني أشياء أخري " ..

شكرت الرجل ولم أشأ أن أثقل عليه بأسئلة أخري ، خاصة أنه قال لي وهو يصافحني أنه ربما يكتب كتاباً إذا سمحت ظروفه يروي فيه بعض جوانب ما حدث ، فقلت له بحماس : " تلك شهادة أرجو ألا تفوتك " ، فابتسم الرجل وهو يربت علي كتفي ..

أخذتني ظروف عملي الدبلوماسي عبر بلاد العالم، وعرفت أعماق أبعد في وثائق سرية ، أجنبية وعربية ، وقابلت العديد من الدبلوماسيين الأجانب الذين كانت لديهم معلومات عن تلك الفترة الحاسمة من تاريخ مصر ، وعرفت أن الوزير المحترم قد أصدر كتاباً بالفعل بعنوان : " أمن مصر القومي في عصر التحديات " ، وأرسلت لمن بعث لي بالكتاب في الخارج ، والتهمت صفحاته إلتهاماً، وأنا أقارن بين بعض رواياته وما ورد في مصادر أخري ، وخاصة مذكرات هنري كيسنجر، وتوقفت طويلاً أمام تعليق حافظ إسماعيل علي قرار السادات في يوليو 1972 بإنهاء عمل الخبراء العسكريين السوفييت ، والشعور بالصدمة من هذا القرار الذي أدهش الجميع (حتي كيسنجر علق علي ذلك بقوله أن السادات كان بمقدوره أن يطلب منا مقابلاً لذلك ، ولكنه لم يفعل) ، قال حافظ إسماعيل في الكتاب : " لقد كان القرار .. تأكيداً لسلطته المنفردة ( السادات ) ، وتوضيحاً بما لا يدع مجالاً للشك في أنه الوحيد " صاحب القرار " ...

وكأن ذلك التعليق كان إستكمالاً لإجابته علي سؤالي قبل سنوات ، وقد ورد في كتابه مواقف عديدة أشار فيها بأدب جم إلي هذا المعني ، وتذكرت ما قاله لي عن مخاطر الإنفراد بالقرار ..

لقد غادرنا هذا الرجل العظيم في أول يناير عام 1997 ، ولا يزال كتابه باقياً في ضمير التاريخ ، يشير – ولو من بعيد – إلي الأخطاء الرهيبة التي يمكن أن يقع فيها الرئيس إذا تخيل أنه يفهم كل شيئ ، ولا ينطق عن الهوي ..

-------------------

مساعد وزير الخارجية الأسبق