17 - 07 - 2024

إغتصاب بالدستور المصري

إغتصاب بالدستور المصري

الحديث عن الدستور يعني مباشرة الحديث عن العقد الإجتماعي الذي يحكم علاقة الحاكم والمحكوم ، ويحدد بوصلة الإتجاه السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وإذا كان الدستور هو أبو القوانين ، فأن العبث به يعني نهاية دولة القانون ..

ويصل العبث منتهاه عندما نجد أن من كانوا يهللون بالأمس القريب للدستور ويحثون الناس للنزول كي يصوتوا عليه، هم الذين يتقدمون طليعة العابثين الذين يطالبون بتعديل نفس الدستور رغم أنه لم يدخل عملياً حيز النفاذ، كمثل من أشتري سيارة بالأمس، وقبل أن يقودها متراً واحداً صرخ مطالباً بتغيير الكوابح وعجلة القيادة والعجلات وعمود الكردان ..!

أريد أن أوضح أن الظاهر سياسياً علي الأقل بالنسبة لي أن ذلك التوجه هو نوع من الإنبطاح السياسي أمام نظام الحكم، ربما طمعاً في ذهب المعز، أو خوفاً من سيفه، والحقيقة أن المطالبين بتعديل الدستور، يسببون مشكلة كبيرة لهذا النظام، فإذا نظرنا لتاريخ محاولات العبث بالدستور فسوف نجد أن نتائج هذا العبث كانت دائماً وخيمة، ويكفي هنا أن أشير إلي إلغاء دستور 1923وإحلال دستور 1930 محله بهدف زيادة سلطات الملك، لقد تفجرت المظاهرات واستمر الضغط الشعبي حتي تم إسقاط هذا الدستور واستعاد الشعب دستور 23، وعندما قامت مجموعة تشبه المجموعة الحالية بالهتاف والرقص في مجلس الأمة كي يتم تعديل دستور 1971 لإلغاء تحديد الفترات الرئاسية التي كانت محددة بفترتين، كي تصبح غير محددة المدة بغرض منح الرئيس السادات فرصة الحكم مدي الحياة، لم يكمل الرئيس فترته الثانية حيث تم إغتياله عام 1981، وتمتع سلفه مبارك بهذا التعديل الذي كان نقمة عليه وعلي شعب مصر ، وعندما قام ترزية الحكم لنظام مبارك بتعديل الدستور ووضع المادة 76 و 77 توطئة للتوريث، كانت تلك بداية النهاية لنظام الحكم ... وهو نفس ما حدث عندما تجرأ الرئيس الأسبق مرسي علي الدستور وأصدر إعلانه الدستوري المشئوم في نوفمبر 2012.

قبل حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي الشهير عن "دستور النوايا الحسنة" كان كهنة السلطة وسماسرة السياسة والإعلام يمهدون الرأي العام ويحرضون علي التعديل، ولا يمكن القطع بأن ذلك كان بإيحاء من النظام السياسي، ولكن قد يكون من الصحيح أن النظام قد استلهم منهم هذه الفكرة فاستحسنها وبدأ يروج لها ..

ومن نكد هذا الزمان، أن يخرج علينا بعض المتفيهقين كي يفتوا في الدستور ويدٌعوا " أن هناك ضرورة ماسة لتعديل المواد 146 و147 و161 وغيرها .. إلخ آآ ، ركز هؤلاء المتفيهقون علي " إننا نحتاج أن نرفع الوصاية الممنوحة للبرلمان على رئيس الجمهورية وفق المادة 147 آآ و المادةآآ  161، علي أساس أن المادة 161 آآ تعطى للبعض أحقية سحب الثقة من الرئيس "..

وأوضح متفيهق دستوري أن الوزير سيكون ولاؤه للبرلمان لأن الدستور يعطى للبرلمان حق إقالة الحكومة .. وكأنه لا يعلم أن الوزير وكافة المسئولين ولاؤهم للشعب في إطار الدستور، لأن الولاء هنا ليس علاقة شخصية، بينما أكد متفيهق آخر، أصبح نائباً في مجلس النواب : "إن هناك عددًا من مواد الدستور تحتاج إلى تعديل، منها المواد المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية، علي أساس أن الرئيس يكون مسئولاً عن الحكومة، فكيف لا يستطيع عزل أى وزير إلا بالرجوع إلى البرلمان، كيف نحاسب الرئيس دون إمتلاكه لكل السلطات " ..وكلها كما نري مجرد حجج متهافتة ..

وكان من الملاحظ أن عدداً كبيراً ممن كانوا يتأهبون للإنتخابات البرلمانية ، كانوا الاعلي صوتاً والأشد حماسة في المطالبة بالتعديل، وبدا ترتيب وهندسة البرلمان وكأنه سينتخب لهذا السبب، فوجدنا إحتفاء بقائمة قيل أنها تمثل الدولة، ونواب يتباهون بأنهم ظهير الرئيس السياسي، وكأن هؤلاءآآ  جميعاً يتنافسون للدخول إلي البرلمان كي ينزعوا منه مهمته الرئيسية فى الرقابة والتشريع وذلك بتقليص الصلاحيات الممنوحة لهم بمقتضي الدستور، وهو ما يمثل بالفعل إنتكاسة خطيرة لنضالآآ  الحركة الوطنية المصرية التي وقفت ضد تلك الدساتير التي جعلت من رؤساء الجمهوريات أنصاف آلهة، بما فتح الأبواب واسعة لإنتشار الفساد وتأسيس دولة المحاسيب، لأن السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة .

ولقد شعر الشعب المصري بذلك التوجه، وأدرك أن قوانين الإنتخابات قد تم تفصيلها كي تنتج برلماناً لن يزيد عن كونه إدارة مضافة لإدارات السلطة التنفيذية، ولذلك فقد انصرف هذا الشعب بغالبيته العظمي عن العملية الإنتخابية، وكانت المقرات الخالية أبلغ رد علي تلك الدعوات التي لا تستند إلي أساس سياسي أو قانوني أو أخلاقي ... والآن وبعد ما اتضحآآ  من ضعف الإقبال علي التصويت، هل يجرؤ برلمان العشرين في المائة أن يتحدي إرادة 98 % صوتوا بنعم لهذا الدستور ؟؟ ..

أن آباء الدستور الحالي ( لجنة العشرة ولجنة الخمسين ) عندما وضعوا مواد هذا الدستور، الذي كان يعد من الناحية الفنية تعديلاً لدستور سابق تم وضعه في زمن الأخوان، إنما كان يهدف إلي ما هو أبعد من فترة حكم الرئيس الحالي، كي يضع آليات قانونية سلمية تتيح للشعب إزاحة الرئيس بشكل سلمي هادئ إذا أخل بشروط العقد الإجتماعي أو خرج علي القواعد فوق الدستورية المتعارف عليها، وذلك للحيلولة دون الوقوع في صراع دموي .. واليوم نجد هؤلاء الذين يروجون لدعوي التعديل يتحججون بأنها "لحماية الرئيس" بل ولم يخجل بعضهم من المطالبة بفتح فترات ومدد الرئاسة للإستفادة من عبقرية وحكمة الرئيس الحالي علي أن توكل مهمة إنهاء مدد الرئاسة لعزرائيل ..والحقيقة التي لا مراء فيها أن "الحماية الراسخة لأي رئيس" تكمن في مقدار إحترامه للدستور ..

أن هؤلاء يغامرون باستقرار الوطن في وقت يواجه فيه جرائم الإرهاب وأوضاعا إقتصادية متدهورة، كي يفتعلوا معركة ليس لها عنوان سوي "الإمعان في منافقة السلطة التنفيذية "، ومن الممكن أن يواصلوا هذا الطريق الخطر حتي نهايته، ولكنني أسأل كل من يعنيه الأمر في هذا البلد :" ماذا لو نجح هؤلاء في إقتراح التعديلات، ثم رفضها الشعب في الإستفتاء، ألا يلقي ذلك بظلال كثيفة من الشك السياسي والقانوني علي شرعية الحكم الحالي، بل وشرعية البرلمان نفسه ؟؟؟ .. هل يتحمل الوطن هذا النوع من المغامرات؟" ..

--------------

مساعد وزير الخارجية الأسبق
المقال منشور في المشهد الأسبوعي ( عدد 29 - 5 - 2018)


مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!