30 - 06 - 2024

الوجه الباكي

الوجه الباكي

للمسرح وجهان، ضاحك وباك، يعبران عما يقدم على خشبته، الكوميديا والتراجيديا. ينطبق الرمز على السياسة. لسنوات طويلة تناقلت شاشات التلفاز ووسائل الإعلام المرئية صور السيد كيم جونج أون، رئيس كوريا الشمالية، يضحك ملء شدقيه متصدراً جوقة من العسكريين المشدودة وجوههم سعادة، يحتفلون عقب انتهاء تجارب إطلاق صواريخ نووية تزرع الرعب في قلوب دول الجوار وغير الجوار. لسنوات طويلة والسيد كيم محل نقد الغرب وماكينات النسخ الإعلامية.

وعندما ظهر الرجل يصافح نظيره الكورى الجنوبى، مون جيه-إن، تشَكك الجميع. وقف الرجلان على خط التماس بين دولتين، كانتا في الأصل قطعة واحدة شُطرت عام 1945. عَبَرَ كل منهما إلى الجهة الأخرى تعبيراً عن تقارب حقيقي أضفى عليه الزعيم الشمالى صِبغة مرحة عندما داعب الرئيس مون قائلا "لن أُطلق صواريخ نووية تؤرق نومك بعد اليوم".

يبدو أن السيد كيم قرر وضع شِعاراته وخطاباتِه النُحاسية جانباً وأعاد النظر فى التغيرات المتلاحقة على مدار الساعة مدركاً أن لغة الحوار –حتى مع الأعداء- هى الأنسب، سواء استهدفت استراتيجيات دفاعية أو هجومية. لم تتوقف مفاجآت الرجل عند هذا الحد. تُشير التسريبات إلى تقارب آخر مع أمريكا. زيارات سرية لقادة ومسئولين من البلدين، إفراج عن سجناء أمريكيين، إعلان عن اجتماع في سنغافورة ألغاه الجانب الأمريكى ثم راح يعيد النظر.

هل خدع ترامب السيد كيم حتى يسترد سجناءه؟، ربما. الثابت أنه، ترامب، لم يغير منهجه فى الإعلان عن قراراته الخلافية. يجلس إلى مكتب صغير ذو لون بنى داكن تتصدره دائرة رُسم فى وسطها النسر الأمريكى، رمز الوطنية، فيما كُتب فى الإطار الدائرى المحيط به، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. ينظر فى أوراق يجمعها غلاف جلدى فاخر، يمرر عينيه على الصفحتين المتقابلتين فى سرعة، كمن يتأكد من شئ ما، ترتسم على وجهه علامات الاهتمام والمسئولية الكبيرة، يَزُم شفتيه، ترتفع ذقنه قليلا، تستند كفه اليسرى على الورق المقابل لكتفه الأيمن، يوقع بقلم أسود ذو سن عريض وبخطوط متداخلة غير مفهومة، تشغل حيزاً ليس بالقليل من المساحة الخالية. يُغلق القلم. يضعه جانباً. يُمسك الملف بكلتا يديه، يضعه فى عيون الكاميرات/العالم، مُرتدياً قِناع التجهم.

تكرر ذات المشهد فى مواقف عدة، انسحاب أمريكا من قمة تغير المناخ، ومن اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادى، ومن الاتفاق النووى مع إيران، وإعادة التفاوض حول اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ومع إعلانه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس متجاهلاً ردود الفعل من هنا أو هناك. لم ينس أنه رجل أعمال سابق. اتُـخذ القرار مُوكلاً حسم ردود الفعل للطرف الأقوى. تتغير قواعد اللعبة حال إدخال متغيرات جديدة مباغتة وذات تأثير. عدا ذلك، يُخمد ماء الوقت نيران الغضب، بينما تتسابق نشراتنا الإخبارية فى عرض قوائم الشهداء.

نستلُ قلماً صدِأت سِنُه، نغمسه فى نهرِ دماءِ ضحايانا، نكتب بخط النسخ والرقعة والثلث صفحة جديدة من مآسينا نزرعها فى حدائق لوعاتنا. تاريخنا العربى شلال ألم ينبُع من رحم عذابات المضطهدين والبائسين والمشردين والمهاجرين. المصلوبين على بوابات الضياع. التائهين فى منافى الهلاك. خُبزنا حسرة نغمسه صباح مساء فى مِلحِ بحر الشقاء. ماؤنا عطش السنين ودموع المكلومين. تاجُنا شوك نُزين به جباهنا المكشوفة فى عيون فوهات بنادق المحتلين والمرتشين والمحتالين. أطفالنا مشاريع مهاجرين يحلمون بجواز سفر للشاطئ الآخر. تطوق ظلالُ طوابيرهم أسوار سفارات اللجوء السياسي. أحلامُنا ممنوعة وغناؤنا شجن وأنين. يا سادة، ما زال مسرحنا مُكتفياً بوجه واحد، سُرق الوجه الضاحك فسامحنا اللص وتنازعنا الوجه الباكي.

------------

[email protected]






اعلان