20 - 04 - 2024

حكايات الصحافة (3) | سفر العمالة المصرية إلى إسرائيل!!

حكايات الصحافة (3) | سفر العمالة المصرية إلى إسرائيل!!

في عام 1996 سمعت مصادفة أن بعض المصريين يسافرون للعمل في إسرائيل!!.
لم أصدق.. وتحريت الأمر فأذهلتني المعلومات.. ووفرتها!!.
مكتب سفريات في طلخا يتولى توريد العمالة إلى إسرائيل تحت مسمى السياحة.
خلال أيام كنت أجلس مع صاحبه الذي استقبلني بجفاء ظاهر، وأنكر صلته بالأمر، وطلب باستعلاء رؤية كارنيه الصحافة، وحين علم أنني «غير مُعين» ولم أكتسب عضوية النقابة بعد، تحدث بصلف ووعيد، وبدا لي أنه قد يتجاسر ويطردني بطريقة استعراضية أمام موظفيه الغلابه، فتوعدته بدوري، وأكدت له أنني أملك معلومات كاملة عن نشاطه من شهود عيان، وسأنشرها ليتأكد أنني صحفي، فاختلفت لهجته فورا، بلا فاصل، وطلب لي «حاجة ساقعة» رفضت شربها، وتبدلت تهديداته استرضاء وتودداً، وبات لطيفاً، وتوسل إلي بوضوح ألا أنشر اسمه، وذكر لي ببساطة أسماء القرى التي سافر منها عدد كبير من الشباب دون أن يتنبه إلى أن هذا تحديدا ما أردته منه فقط لأمسك بطرف الخيط، لأكرَّه بكامله.
خرج معي إلي ناصية الشارع وهو يرجوني بتذلل ألا اذكر اسمه، ووعدته، وأوفيت.
وتوالت المفاجآت بلا انقطاع من لحظتها، إلى ما بعد نشر التحقيق في جريدة الدستور الإصدار الأول، وفوجئت بردود فعل عجيبة!!.
أول قرية زرتها كانت «أويش الحجر»، شرق النيل، بالقرب من الجامعة، جنوب مدينة المنصورة، وسألت أول شخص صادفني فيها عن شباب القرية الذين سافروا إلى إسرائيل، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال على شغف، وأبدى استياء وأسفا بالغاً، وقادني إلى بيوت بعض من سافروا، فأنكر بعض الآباء والأمهات وجود أولادهمن وادعوا سفرهم إلى دول خليجية، لكن أحدهم استقبلني بطيبة في بيتهم، وتحدث بعفوية، وقصُّ علي تجربته كاملة في تل أبيب، وكيف عامله الإسرائيليون.
قال إنه اُضطر للسفر بعدما سُدت بوجهه كافة سبل أكل العيش، ولأن لديه أربعة أولاد، وأمهم، وأمه، و«الكوم ده محتاج ياكل ويشرب»، لم يجد مفراً من الذهاب، وهناك عمل بغسل الأطباق في مطعم، وكان يتقاضى أجره المتفق عليه يوميا بلا نقصان، ويأكل ثلاث وجبات جيدة، وينام في مكان نظيف، وكانت معاملتهم له طيبة جدا، وقال معقبا بالحرف: «كنت عارف إنهم قاصدين يعاملونا كويس علشان يجرُّوا رجلينا لهناك». وشجعني هذا على سؤاله بلا ترتيب: «لو قامت حرب مع إسرائيل.. هل تشارك فيها؟»، فأجاب من فوره، وبحماس كبير «فورا مهما حصل.. الصهاينة مالهمش أمان». ولأتأكد أن إجابته ليست مجرد رد فعل قررت توجيه السؤال لكل من أقابله ممن سافروا. 
وصارحني الثاني بأنه اضطر بدوره للسفر لأن لديه بيتاً لم يكتمل بناءه، وكان يبيت هو وزوجته وأمه وأبيه على أساس البيت المتوقف، وذكر لي مفارقة لا أنساها، أنه أسَّس البيت بالدينار العراقي، واستكمله بالريال السعودي، وشطَّبه بالشيكل الإسرائيلي، وكان متألماً لأن سلطات السعودية استبعدته وقتها لإصابته «بفيروس سي»، وكان أول دفعة تستبعدها السعودية بحجة الوقاية الصحية من العدوي.
وأذكر وقتها جيدا أن تصريحات الدكتور «ياسين عبد الغفار» طبيب الكبد الشهير حول إصابة 15 مليون مصري بهذا الفيروس كانت قد أشعلت الدنيا، وأعطت كل دول الخليج فرصة قوية للتخفف من العمالة المصرية بحجة صحية، وأوقفوا تأشيرات العمل، وأُحكمت دائرة البطالة حول ملايين من شباب مصر، وبانعدام الفرص في الداخل، واستشراء الفساد الشرس، لم يعد أمامهم غير ممر واحد مفتوح، يؤدي إلى تل أبيب، وظل إلى ذلك الحين «ممراً خفيَّاً» لا يعرف مساربه إلا قلة، منهم صاحب شركة سياحة طلخا ذاك.
وفي مقابلتى للشخص الثالث أصرت والدته على حضور اللقاء كاملا، سيدة من المكافحات، من أولئك الفُضليات اللائي نعرفهن طوال عمرنا في الدلتا، ترتدي ملابس الشقاء، وتبدو على يديها آثار «حش البرسيم»، ومازحتها كثيرا عمدا لتطمئن وتتأكد أنني لم آت لإيذاء ابنها، لإحساسها الخفي بأن سفر ابنها إلى إسرائيل جريمة، وتطوعت بالإجابة عنه وقالت لي: «هو أكل العيش بشرف مش عيب.. هنعمل إيه هو التقى شغل في بلده وما اشتغلش.. إيدي على كتفك.. هتله شغلانة في الفاعل وبحق لو ما قامش معاك واشتغل قد تلاتة.. واحنا مالنا ومال الاسرائيليين.. هو كان في حاله.. عندنا أورطة عيال.. ومش ملاحقين عالأكل والشرب بس.. والدنيا طول عمرها ما بتدناش غير اللقمة.. والحكومة زي ما انت راسي.. إيدك والقبر».. 
واقتادتني هذه السيدة عمدا إلى أنحاء بيتها لترينى حالهم، وامتلأ قلبي بالتقدير لطريقتها العملية في الإجابة على السؤال، كانت كل التفاصيل في أدنى حالاتها، وهمست لي وأنا أودعهم أمام البيت: «سايقة عليك النبي ما تجيب سيرة ابني في الجرنان.. ما حدش ضامن.. وملعون أبو الظروف اللي حِوجتنا لأولاد الكلب دول».
جعلتني هذه السيدة أنتبه طوال الوقت إلى أن كل من سافروا إلى إسرائيل . فقط . «من الغلابة حرفيا» ومُجبرون، وأن السبب ليس فقرهم وحسب، بل النظام السياسي الذي تسبب في خلق هذه المأساة من أساسه، والأُسر الحاكمة الخليجية التي أغلقت أبواب الرزق في وجوههم، والصهاينة الذي انتهزوا الفرصة بحنكة، وسهّلوا دخولهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة (الكيان الصهيوني).
خلال تجولي في «أويش الحجر» ( تُنطق ويش) اكتشفت أن فيها عشرة كتاتيب لتحفيظ القرآن، قوتها في الصيف تصل لستمائة تلميذ على الأقل، وفيها ثلاثمائة إمام وخطيب من خريجي الأزهر، ينتشرون في مساجد القرى المجاورة، وفيها 40 أستاذ جامعة أغلبهم في جامعة الأزهر، فقررت أخذ رأي بعض الناس في سفر أبناءها إلى إسرائيل، فوجدت شبه إجماع على اعتباره جريمة نكراء، واستوقفني «بقَّال ملتحٍ» حين عرف سبب وجودي، وأخبرني أنه متعلّم، وقال بفصاحة: «لمَّا نروح نشتغل عند أعداءنا.. اللي قتلوا ولادنا.. واغتصبوا أرضنا.. نكون قد أظلنا آخر الزمان.. ». لكن سؤالاً لجوجاً ألح عليّ.. لماذا لم تمنع كل مظاهر التدين هذه الناس من السفر إلى إسرائيل؟.
العجيب. قبل مغادرتي القرية، استوقفني شخص متأنق، وقال بصوت استعراضي: «سألت عنك وعرفت ماذا تفعل في بلدنا»، فقلت: «ممكن أتشرف بمعرفتك»، قال: «أنا الدكتور فلان أستاذ اللغة الإنجليزية بكلية الآداب»، وأضاف بانفعال: «فيها إيه لما الشباب يسافروا اي حتة.. ياكلوا عيش.. أنتو ليه ضد مصلحة الناس.. كفاية بقى.. انفتحوا على العالم خلونا نتقدم».. لم أكلف نفسي عناء الرد عليه، وجن جنونه أنني تركته بلا كلمة واحدة، وظللت أسمع هرتلته وأنا أبتعد عن بلدته.
وعلى الجانب الآخر، غرب النيل، في قرية «ميت الكُرما»، أو «ميت الغُرقا» جنوب طلخا، كنت على موعد مع خمسة من الشباب الذين اضطروا للسفر أيضا، وقالوا كلاما لا يختلف عن شباب ويش الحجر، وأبدوا استعدادهم للعمل في «أية شغلانة» حتى لو كانت مُذرية، لكن أين هي؟!!، وأعلنوا كراهيتهم لما هم فيه، وسألتهم جميعا عن تاريخ قريتهم ورموزها، فأظهروا جهلا مخجلا، فازداد إشفاقي عليهم.
وقرية «ميت الكرما» تقع على منحنى كبير للنيل، كان يحتجز الغرقى على شاطئها، لذا عُرفت باسم «ميت الغُرقا» من زمن قديم، ولأن أهلها اشتهروا بالكرم، واستضافوا أعدادا كبيرة من مهجري مدن القنات أثناء الحروب مع إسرائيل، فقد طالبوا بتغيير الاسم إلى «الكُرما» واستجابت لهم الحكومة. وهي ذات القرية التي استضافت المناضل عظيم الشأن خطيب الثورة العرابية «عبد الله النديم» لثلاث سنوات أثناء تخفيه من سلطات الاحتلال الإنجليزي بعد انكسار الثورة العرابية، وتكتمت خبره إلى أن رحل هو إلى قرى أخرى حسب حكايته المعروفة. وهي أيضا القرية التي أنجبت أحد شعراء السيرة الهلالية الكبار ومعشوق فلاحي الدقهلية «سعد الشاعر»، الذي شهدت أجران وأفراح مئات القرى، صولاته وجولاته مع «أبو زيد الهلالي سلامة»، و«دياب بن غانم»، و«الزناتي خليفة»، و«خضرة الشريفة»، و«الجازية» و«الناعسة»، وألهب مخيلاتهم بالحروب والانتصارات والتشبيب، وأوجع قلوبهم بالهزائم والانكسارات. لكن وجدانهم ظل متعلقا بطريقتة الرائعة في قص السيرة العظيمة.
هذه القرية نفسها هي التي سافر أبناءها إلى إسرائيل، وهؤلاء هم الفلاحون الذي سافر أبناء بعضهم للعمل لدى أعداءنا. 
تم رفض نشر التحقيق في مجلة نصف الدنيا، وللأمانة كانت الأستاذة «سناء البيسي» تعمل «جراحة قلب مفتوح» في أمريكا، ولا أود ذكر اسم المسئول الذي رفضه، لأنه أبدى تخوفا كبيرا من نشره.
وأرسلته مع صديق إلى الزميل «إبراهيم عيسي» في «الدستور الأولى» وكانت «مكسرة الدنيا»، وبمثابة حدث فريد في الصحافة، وحققت مبيعات مذهلة، وفوجئت به منشور بعد أيام قليلة، «مانشيت الأولى»، والصفحة الثالثة كاملة، وأحدث دوياً لم أتوقعه أبدا، فقد كانت المرة الأولى التي يُواجه فيها المجتمع المصري صدمة سفر الشباب للعمل في إسرائيل، وكان التطبيع إلى ساعتها عملاً شائنا، وماساً بوطنية من يُقدم عليه، وكان الكاتب «على سالم» يواجه موجة استنكار عاتية لتجرؤه على القرار الشعبي بمقاطعة إسرائيل، ومقاومة التطبيع، وجاء سفر العمالة كأنه تسريب لفكرة التطبيع إلى «البنية الاجتماعية التحتية»، بتواطؤ من سلطات مبارك. فتقدم النائب «ياسين سراج الدين» باستجواب في مجلس الشعب لمساءلة الحكومة عن الموضوع، والمدهش أن «عصام رفعت» رئيس تحرير مجلة «الأهرام الاقتصادي» كتب افتتاحية بعنوان «سفر العمالة المصرية إلى إسرائيل خطر.. خطر»، وبعد اسبوعين تقريبا فوجئت بزميل من مجلة «روز اليوسف» (يعمل مذيعا الآن) يذهب إلى نفس القرى والناس الذين ذهبت إليهم، وينشر تحقيقا لم يبتعد عما كتبته، لكنه انطلق من تخطيئ الشباب، وشكك في وطنيتهم، لدرجة أنه وضع لموضوعه عنوانا عجيبا «15 ألف جاسوس تحت الطلب في إسرائيل» ولم أره أكثر من «فرقعة فاضية»، وإدانة لضحايا لا حول ولا قوة لهم، ومبالغة في أعداد من سافروا بعكس شهادة جميع من قابلتهم.
واستضافتني المذيعة «رولا خرسا» في برنامجها الشهير وقتها «في العمق» على القناة الأولى المصرية، وفي الحلقة ذاتها استضافت «زميل روز اليوسف»، والدكتور «أحمد السيد النجار»، لكنها سجلت مع كل منا على حِدة، وأظهر مونتاج الكلام اختلافا كبيرا بين وجهتي نظر الأصل والتقليد، فقد أصر هذا الأخير على اتهام الشباب بدأب غير مفهوم.
وتصادف أن دُعيت إلى احتفال السفارة العراقية بالعيد الوطني للعراق، وفي حديقة السفارة جمعتني المصادفة مع زميلين من روز اليوسف، أحدهما صديقي بلدياتي، والثاني هو «المُقلِّد» الذي فوجئت به يربِّت على كتفي ويقول بثقة عجيبة: «انت كنت عامل موضوع زي بتاعي في روزا.. أحييك عليه»، فاستهول «صديقي وبلدياتي» الكلام وقال له «أسامة عامل تحقيقه قبلك بشهر.. إزاي تقول له كده»، فارتبك «المُقلِّد» بعد فشل محاولته تغيير التواريخ، وانصرف عنا مسرعاً بحجة السلام على أحدهم، وضحكنا بعمق أنا وصديقي. 
وبعدها بفترة قصيرة اتصل بي الزميل «بلال فضل» وأخبرني أنه يريد محاورتي بمناسبة مرور سنة على صدور «الدستور»، لأنهم يُعدُّون لعدد تذكاري، وأنهم «اختاروا تحقيقي باعتباره أهم موضوع نُشر في الجريدة خلال هذه السنة» (هذا نص كلام بلال ولا أشهد لنفسي)، وحين جلس معي في «مجلة نصف الدنيا» أخذتنا الدردشة، إلى الثقافة والفن والحياة، وحين انتهى الحوار قال كلاماً جميلا اعتبرته مجاملات رقيقة منه، وفوجئت به بدلا من نشر الحوار، كتب عني «بورتريه» في الصفحة الأولى للدستور، بعنوان «الشاب الذي أيقظ مصر على مأساة السفر إلى إسرائيل».

مقالات اخرى للكاتب

كارثة علاء مبارك وصبيانه!!





اعلان