17 - 07 - 2024

حنانيك يا جلالة الملك!!

حنانيك يا جلالة الملك!!

حقاً .. لماذا لا يتم الإعلان عن تعديل الدستور وعودة الملكية .. أن ذلك يراود عدداً ممن يستظلون بعرش الحاكم، أي حاكم، وكذلك عدد ممن لا تزال تجري في عروقهم الدماء الزرقاء، الملكية وشبه الملكية ..

" أن الغيرة علي الملك ( بضم الميم )، تحمل الملك ( بفتح الميم ) علي أن يصون عرشه من كل شيئ قد يزلزل أركانه، وينقص من حرمته، أو يقلل من قدسيته، لذلك كان طبيعياً أن يستحيل الملك وحشاً سفاحاً وشيطاناً مارداً إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج علي طاعته ".

كل أبناء وأحفاد أغوات القصر وخصيانه وأصفيائه، ووارثي ندامي أصحاب الجلالة من الولدان والخلان لا يزالون يعاقرون خمر الزمن القديم، زمن مولانا وإنعامات مولانا .. وأمان يا للي ..

لقد كان الملك فؤاد هو أول ملك في العصر الحديث، حيث تم تغيير صفته من " سلطان " إلي "ملك" بموجب تصريح 28 فبراير 1922 الشهير الذي حصلت به مصر علي إستقلال إسمي لأول مرة بعد الاحتلال البريطاني في سبتمبر 1882.

ومنذ أن تربع علي سرير الحكم، انهمك مع بلاطه في بحث خطة لمواجهة حزب الأغلبية، حزب ثورة 1919، حزب الوفد، وبدأت الدسائس والمؤامرات والشائعات للحط من الحزب الذي اختاره الشعب سعياً للإستقلال التام، وفي هذا الصدد تم تأسيس حزب الإتحاد الذي لم يكن سوي حزب للعرش.

في نفس تلك الفترة تقريباً وفي 3 مارس 1924، أعلن مصطفي كمال أتاتورك إلغاء نظام الخلافة العثمانية، بعد ما يزيد علي أربعة قرون من سيطرة مزيج من سلطة دينية سياسية علي كل المناطق الخاضعة لسيطرة الإمبراطورية العثمانية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وترتب علي ذلك إنتفاضة هائلة بين الشعوب الإسلامية في مختلف بقاع الأرض للمناداة لإستعادة الخلافة تحت دعاوي فقهية وسياسية مختلفة.

وفي ذلك الزمن قبل ما يقرب من قرن، حدث مثل ما يحدث هذه الأيام، حين انبري أهل النفاق ورجال كل العصور وترزية القوانين كي يمنحوا مليك البلاد في مصر صفة خليفة المسلمين، ويخلعوا علي عرشه صفات القداسة والمعجزات، وتناثرت كتاباتهم واجتهاداتهم التي تنسب سليل عائلة محمد علي تاجر الدخان الألباني إلي سلالة رسول الله القرشي صلي الله عليه وسلم، حيث نصبوا شجرة عائلة للملك تمتد أصولها وجذورها إلي الرسول الكريم.

ولم يكتف هؤلاء الأفاقون بذلك، بل وانقضوا بأنيابهم وأظافرهم بقسوة علي شيخ جليل حاول بلباقة وأدب أن يثبت أن "الخلافة" ليست اصلاً من أصول الدين الإسلامي، ولا يوجد لها سند من كتاب أو سنة .

هذا الشيخ الجليل هو علي عبد الرازق الذي ألقي بكتابه (الإسلام وأصول الحكم) في وجه جوقة المنافقين، ولم يكتف بإثبات أنه لا يوجد أي سند للخلافة في الكتاب والسنة، وإنما تجاوز ذلك إلي إلتقليل من نظام الخلافة كنظام للحكم.

وقد شهد عام 1925 أحداثا عديدة متشابكة وشديدة التأثير علي مستقبل الشعب المصري، فقد أجريت فيه الإنتخابات البرلمانية في ظل حكومة الأقلية التي رأسها زيور باشا، وفاز فيها الوفد بأغلبية كبيرة، إلا أنه بعد إنعقاد الجلسة الأولي بحضور الملك وانتخاب زعيم الأغلبية سعد زغلول رئيساً للبرلمان، صدر مرسوم ملكي بحل البرلمان .. وفي نفس العام صدر حكم الإعدام ضد 7 سبعة مصريين اتهموا بإغتيال السردار لي ستاك قائد الجيش المصري، وفيه أيضاً انتهت مهمة اللورد اللنبي كمندوب سامي لبريطانيا العظمي وحاكم فعلي لمصر.

ويمكن القول أن ذلك الكتاب صغير الحجم الذي اصدره الشيخ علي عبد الرازق كان بمثابة حجر ضخم ألقاه علي مؤسسة الحكم THE ESTABLISHMENT ومحيطها من الإنتلجينسيا المصرية وكبار ملاك الاراضي الذين تصدروا المشهد بعد ثورة 1919.

وجدير بالذكر أن الشيخ كان يعتنق دون تطرف إتجاهات حزب الأحرار الدستوريين الذي كان وقتها يحكم في إئتلاف مع حزب الإتحاد (حزب الملك)، ولذلك قام بعض الوفديين لمجرد الحط من شأن الحكومة بتوجيه سهامهم إلي الشيخ وكتابه كمحاولة للإصطياد في الماء العكر، وأضطر الشيخ أكثر من مرة أن يلجأ في الدفاع عن نفسه ما يبعده في الواقع عن جوهر كتابه الشهير وذلك إتقاء لغضب الملك، ولذلك لم يكن غريباً أن يكتب الشيخ – خارجاً عن السياق – إطناباً ومدحاً في الملك فؤاد، مع ملاحظة أنه كان بذكاء يفعل ذلك مع رفع مقام الملك فوق مقام "الخلافة" علي أساس أنه "ملك دستوري يحترم العلوم والعلماء" ..

والحقيقة هي أن الملك فؤاد بدأ تدريجياً يتقمص الحلة التي حاكها له أهل النفاق، واقتنع بأنه الأحق بين قادة الدول الإسلامية والأكثر أهلية لحمل لقب "خليفة المسلمين"، ولذلك فإن خروج كاتب مصري مثل الشيخ علي عبد الرازق علي "إجماع" هؤلاء المنافقين كان أشبه بالصدمة لهم، فضلاً عن أن السلطة الحاكمة اعتبرته خائناً ومفرطاً في حق مستحق لمليك البلاد (أو لديه أجندة خارجية بلغة هذه الأيام)، ومن ناحية أخري كان المستعمر البريطاني العجوز الذي دأب علي خلط الأوراق يحاول إستغلال هذه الثغرة كي يطبق قاعدته الشهيرة : "فرق تسد" ..

وهكذا نصبت مؤسسة الأزهر مجانيقها كي تقذف الكتاب والشيخ بكل ما تمتلكه من ذخيرة فتاكة، ولم يتورع محدثيها أن يتهموا الرجل بأبشع إتهام (العلمانية) وبأنه يسعي لتأسيس جمهورية لا دينية، وفي النهاية تم عقد محاكمة للشيخ .

وقد كتب في ذلك الدكتور محمد حسين هيكل قائلاً :"ماذا تقول في عالم من علماء المسلمين يريد ألا يكون للمسلمين خليفة في وقت يطمع فيه كل ملك من ملوك المسلمين، وكل أمير من أمرائهم أن يكون خليفة" ..

وسادت حينذاك فكرة أن بريطانيا العظمي تدعم فكرة "الخلافة"!، بحجة أنها أكبر دولة إسلامية (لأن مستعمراتها الإسلامية في الشرق تمثل العدد الأكبر من المسلمين في العالم)، بل وذهب بعض أعضاء مجلس العموم البريطاني إلي أهمية أن يكون الخليفة من بين رعايا الإمبراطورية البريطانية! ..

وكان يوم 12 أعسطس 1925 يوماً مشهوداً في مصر حين انعقدت هيئة كبار العلماء في هيئة محكمة برئاسة شيخ الأزهر الشيخ محمد أبو الفضلآآ  لمحاكمة الشيخ علي عبد الرازق، ومن المثير أن الشيخ المتهم عندما دخل القاعة ألقي السلام علي هيئة المحكمة من كبار العلماء فلم يرد عليه أحد سلامه! .

صدر الحكم بالإجماع بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، وطرده من الوظائف التي كان يشغلها كأحد علماء الأزهر وكقاض في محكمة المنصورة الإبتدائية، مع وقف مرتباته وفقدان أهليته لشغل أي وظيفة عامة سواء كانت دينية أو غير دينية.. بإختصار تم إعدام الشيخ مدنياً وسياسياً ..

وقد نشرت صحيفة كوكب الشرق المصرية في 17 أغسطس 1925 تعليقاً علي ذلك :"نريد أن نعرف، ونريد أن يعرف العالم، هل لمصر نظام هو الدستور تحكم علي موجبه، أم لها غير الدستور نظاماً خفياً تمتد خلال ظلماته تفتك بما قرر الدستور من حقوق، ثم يكون لها الفتك مقامه واحترامه؟ ... نريد أن نعرف فقد سئمنا المواربة، ونريد أن نخرج من عيش النفاق"..

ومنذ ذلك الحين يتردد نفس السؤال.. وتظل تلك اليد الخفية تفتك بالوطن وتنتهك دستوره وقوانينه .. أليس أجدر بنا أن نكف عن هذه المداورة والمواربة ونعلنها ملكية.. عاش الملك، مات الملك ..

-------------------

مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!