17 - 07 - 2024

غُرَبَـاء .. قصة قصيرة

غُرَبَـاء .. قصة قصيرة

لم أصدق نفسى حين جاءنى صوته عبر الهاتف. ما زال كما هو بزخمه ونبرته الطفولية وضحكته المتقطعة. مرت سنوات -لا أدرى عددها- منذ آخر لقاء جمعنا. أخبرنى أنه عمل فى الخليج. طاف ببلاد العباد، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، حتى انتهى به المطاف فى أم الدنيا بعد تقاعده المبكر لأسباب صحية. 

"الأولاد بخير. ولد نِكدى لأبيه وبنتان جميلتان لأمهما" قال ضاحكا، ثم أردف"واحدة هاجرت مع زوجها إلى استراليا، والثانية تعيد إنتاج قصة أبيها فى الخليج"، شدتنى ضحكته المتقطعة المميزة إلى سنوات الشباب، وقت كنا نفتعل النكات لنضحك على ضحكته. 

انسابت كلماته تلقائية يخالطها شجن إنسانى قديم، "الوقت ممل. أصحو من النوم بلا هدف. اتصفح الجرائد. أبدأ بصفحة الوفيات. عرفت أن صديقنا حسن عمران توفى. ترحمت عليه وأقرأ له الفاتحة كل صباح. لم أره منذ تخرجنا. اكتشفت رقم هاتفك بالصدفة". ثم سألنى، كيف تقضى وقتك؟. 

أنتشلتنا ذكريات الجامعة من بحر آلامنا. جرجرتنا إلى صفاء بهتت ملامحه. نبحث عن إبرة الفرح فى كومة قش الأحزان. تذكرت سفره للعمل فى لبنان صيفاً، ثم عودته متزوجاً فى البكالوريوس. نستغرب فعله علنا ونحسده سراً، خاصة عندما نتذكر تعليقه، "بدلاً من زيارة لبنان، أحضرت لبنان معى" ثم تأتى ضحكته المتقطعة، فنضحك معاً. تزوج فتاة رائعة الجمال. لبنانية وكفى. توقعنا أن ينفصلا فى أى وقت، فهو ما زال يدرس وأمامه خدمة عسكرية، وبحث شاق عن العمل. خابت ظنوننا، وظل هناك ما يربطهما. أستأجرا شقة صغيرة ملأتها عليه أُنساً وبهجة. يخرجان معاً صباحاً، هى للعمل فى شركة مستحضرات التجميل، وهو للكلية، بينما تكفل ما جمعه من عمله الصيفى في لبنان بالإنفاق عليهما.

نجح بعد تخرجه فى الحصول على عمل بشركة أجنبية فى الأسكندرية فانتقلا معاً تصحبهما طفلتهما الأولى. يوماً بعد يوم، يجتهد ويترقى. انتقل مديراً لفرع الشركة بالبحرين، ثم مديراً لفروعها بالخليج. عرف سكينة المنزل، ورغد العيش، وهناءة الحياة. تعلمت ابنتاه فى مدارس أجنبية، وحصلا على شهادتهما الجامعية واحدة فى الاقتصاد من لندن، والأخرى فى الإدارة من باريس. هاجرت الأولى مع زوجها، وابن خالها فى نفس الوقت. بينما عملت الأخرى هى وزوجها فى مَسقَط، ويكمل الولد دراسته بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

يشكو صاحبنا الوحدة ويستشعر غربة. رفض الإقامة فى بيروت مع أسرة زوجته، أو الهجرة لاستراليا بالقرب من ابنته. فضل العودة إلى محل ميلاده ومستقر جثمانه، بحسب تعبيره. إحساسه بالغربة يتنامى بشكل يزعجنى. نلتقى يوماً بعد يوم وأهاتفه يومياً. ما بدا عارضاً صار مزمناً. يخبرنى هاتفياً "نحن فى طريقنا إلى الساحل الشمالى. سوف نمكث هناك أسبوعاً أو اثنين". ثم أفاجأ به فى الصباح يتصل بى ويخبرنى أنه فى طريق العودة. 

يفضفض قائلاً: "الولد لا أعرف عنه شيئا. يدخل غرفته فينسى أننا معه. أحادثه فلا يسمع. تشرنقت زوجتى فى زقاقات التواصل الاجتماعى حتى لحس (الفيس) عقلها. نَسِيَت المكان والزمان. أكلت الغربة أصدقائى وعمرى. ومزق أولادى أحلامى. أشعر بالغربة والوحدة"، ثم يُردف "لولاك لانفجرت". لم أعرفه ضعيفاً أو حزيناً. الغُربة نار تشوينا على جمر الزمن. طبيعى أن تستشعر غربتك فى بلد آخر. قاسٍ جداً أن تغترب فى وطنك. أما ما لا يحتمل، فغربتك فى بيتك. أن تنظر حولك فلا تعرف أحداً ولا يعرفُك أحد. تتحدث فلا تُسمع. تنادى فلا تُجاب. بِحارُكَ بلا شُطآن. وسفرك بلا عودة. وحزنُك بلا قرار. إيه .. اللهم ارحمنا فى غربتنا.

------

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]